المعزوز يقدم قراءة مغربية في تحولات وإكراهات الدولة الوطنية الحديثة

من تبعات أحداث 2011 في المنطقة العربية، صدور عدة كتب حول مفهوم الدولة، من قبيل كتاب “الدولة المستحيلة” للمفكر الكندي من أصل فلسطيني وائل حلال، كتاب “الدولة العالقة: مأزق المواطنة والحكم في المجتمعات الإسلامية” للمفكر التونسي محمد الحداد، كتاب “روح الدين” للمفكر المغربي طه عبد الرحمن، وأعمال أخرى.

كان الهاجس الديني حاضراً في أغلب هذه الأعمال، والمجسد في ثنائية الدين والسياسة، أخذاً بعين الاعتبار خصوصية المنطقة في التعامل مع هذه الثنائية بالذات، أو قل خصوصية محور طنجة جاكارتا إجمالاً.

ليس صدفة أن أحداث 2011 كانت محطة فاصلة في أداء التيارات الإسلامية الحركية، عندما صعد بعضها إلى سدة الحكم كما جرى في الحالتين المصرية والتونسية، أو ساهم في التدبير الحكومي، كما هو الحال في الساحة المغربية، هذا عن الحركات الإسلامية السياسية، موازاة مع صعود أسهم الحركات الإسلامية الجهادية، كما جسدت ذلك المرحلة الانتقالية من محطة تنظيم “القاعدة” نحو تنظيم “داعش”، بل وصل الأمر في الساحة التونسية، في السياق الإسلاموي إجمالاً، أن احتضنت أكبر مؤتمر لحزب التحرير، وهو مشروع إسلامي حركي يدعو صراحة إلى إقامة دولة الخلافة، على غرار العديد من إسلاميي الساحة، ممن يفكرون بمنطق أو إبستيم ما قبل 1924، أي ما قبل سقوط الخلافة العثمانية.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} بعد مرور عقد ونيف من تلك الأحداث، ومرور سنوات من تاريخ صدور تلك الأعمال، بصرف النظر عن مرجعية أصحابها، بين ليبرالية محمد الحداد وصوفية طه عبد الرحمن، في شقها المسيس بالتحديد كما اتضح جلياً في كتابه “ثغور المرابطة” الذي يتحدث فيه كأنه منظر إسلامي حركي، نعاين عملاً جديداً حول الموضوع نفسه، أي مفهوم الدولة، لكن مع فارق مفصلي مقارنة مع الأعمال سالفة الذكر، مفاده أن مؤلفه كان واضحاً أخذ مسافة من الخوض أو الإحالة على ثنائية الدين والسياسة، بل إنه لم يتطرق لها أساساً، أو قل كانت وقفاته عابرة، وذات صلة بالسياق النظري إجمالاً، في الساحة الأوروبية على الخصوص.

الحديث هنا عن كتاب “في الدولة”، وهو أحدث أعمال المفكر المغربي محمد المعزوز، الصادر مؤخراً عن المركز الثقافي للكتاب (الدار البيضاء ــ بيروت، ط 1، 2024)، وجاء موزعاً على مقدمة وستة فصول وخاتمة.

تطرقت فصول الكتاب إلى المقاربات النظرية لمفهوم الدولة؛ الدولة والتحولات الكبرى التي نعاينها عالمياً، من قبيل مأزق “المجتمع السائل” (في إحالة مفهوم السيولة الذي بلوره زيغمونت باومان، الحاضر هو الآخر في مراجع الكتاب)؛ السياسي في مواجهة التحولات العالمية نفسها؛ الرهانات المرتبطة بالديمقراطية ما بعد الحداثية، وقد تضمن هذا الفصل محوراً حول التحديات البيئية؛ آفاق البحث عن نماذج نظرية جديدة لمفهوم وواقع الدولة انطلاقاً من تجاوز منطق الثنائيات؛ وأخيراً، دعوة مفتوحة للاشتغال النظري على هذا المفهوم الجديد للدولة انطلاقاً مما سبق من وقفات نقدية عند المنطلقات، التحولات، والتحديات التي تواجه الدولة.

ومن المفاتيح النظرية التي يُلح عليها المؤلف في هذا السياق النظري، نقرأ مثلاً، ثنائية الشفافية والمسؤولية، المشاركة المواطِنة، حماية الحقوقية الأساسية، تشجيع التعليم واقتصاد المعرفة، الإصلاحات المؤسساتية، أو تكريس الإدماج الاقتصادي والاجتماعي، وهذا مفتاحٌ يتطلب بدوره العروج على أدبيات الاقتصاد السياسي الذي نعاين خصاصاً فيها كما هو معلوم، سواء في المنطقة أو في العالم.

(ليس صدفة أنّ الإحالة الوحيدة على الشأن الإقليمي العربي، جاءت في هامش الصفحة 245، في سياق تذكير المؤلف بأنّ بعض أنماط الدولة اليوم، توجد في “مرحلة متقدمة من التفكك”، وخصّ بالذكر أربع دول في الهامش نفسه، وهي ليبيا واليمن ولبنان والسودان) من الصعب مؤاخذة الإصدارات أعلاه على عدم خوضها في جملة أسئلة وتحديات معاصرة تطرق إليها كتاب محمد المعزوز، خاصة أن ثنائية الدين والسياسة كانت حاضرة في مضامينها، إضافة إلى أن مرجعية أصحابها تساهم في توجيه أفق الاشتغال النظري، وقد يكون هذا المعطى أحد الأسباب التي تفسر غياب أي إحالة على مراجع عربية ــ إسلامية حول مفهوم الدولة في هذا الكتاب، حيث اتضح أن جميع المراجع التي جاءت في الكتاب (ثمانون مرجعًا ونيف)، يصب أغلبها في أدبيات الفلسفة السياسية، تهم مفهوم وواقع وأسئلة الدولة الوطنية الحديثة.

والحال، أنه في هذه الجزئية بالذات، يمكن الاعتراض على غياب الاستشهاد بأحد أهم المنظرين المغاربة والعرب، ممن اشتغلوا على سؤال الدولة، أي عبد الله العروي، صاحب أحد أهم هذه الأعمال هنا في المنطقة العربية، إن لم يكن أهمها، أي كتاب “مفهوم الدولة، إضافة إلى أن المؤلف يعتبر من أعضاء اللائحة الضيقة التي تحظى بلقاءات مع عبد الله العروي بين الفينة والأخرى، لأن عدد هؤلاء يعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة.

نزعم أن صرف المؤلف النظر عن الاستشهاد بمضامين هذا الكتاب، ويمكن إضافة أعمال أخرى للعروي في الاتجاه نفسه، من قبيل “السنة والإصلاح” أو “استبانة”، مرده أن التحديات المعاصرة التي يشتغل عليها محمد المعزوز في كتابه هذا، لم تكن حاضرة عند صدور “مفهوم الدولة”ـ الصادر في غضون سنة 1981، أي في عز الحرب الباردة وقبل سقوط جدار برلين، ومعلوم أن قضايا العولمة والثورة الرقمية وظهور أنماط سياسية ودينية عابرة للحدود تتطور خارج الدول، لم تكن حاضرة جلياً حينها، بما يفسر على الأرجح عدم الإحالة على مفاتيح العروي التي جاءت في أعماله سالة الذكر.

إنها القضايا نفسها التي كانت ضمن استنتاجات تضمنها الكتاب، وفي مقدمتها ما وصفه المؤلف بـ”الاستنتاج العام الأول”، ومفاده أن الحديث عن “دور جديد للدولة يتطلب إعادة تعريف الدولة، [شرط أن] يأخذ في الاعتبار أبعادها على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية”.

(ص 82)، ويلحّ على الخلاصة في أولى صفحات الخاتمة (ص 243).

في معرض الجواب على سؤال وجيه قد يتباذر إلى ذهن القارء، بخصوص الدوافع التي تقف وراء اشتغال مفكر عربي معاصر على سؤال الدولة اليوم، ونحن في مطلع الألفية الثالثة، يذهب المعزوز إلى أنّ هذا السؤال “يجد إجابة معقولة في التغييرات التي يشهدها العالم حالياً، لأنّها متنوعة لدرجة أنها هزت بشكل عميق آليات التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والإداري”.

ونتيجة لذلك، يضيف المؤلف، فإنّ “المهام المسندة إلى الدولة وهيبتها هي موضع شك.

ويميل دورها كخبير استراتيجي ومنظم إلى التقلص بشكل متزايد في مواجهة المنافسين الجدد الذين لا سيطرة لهم، من قبيل أدوار المجتمع المدني، والمنظمات الدولية، والإمبراطوريات المالية، وعمالقة التكنولوجيا الجديدة، ــ يقصد منظومة “الغافام” [غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون ومايكروسوفت] ــ والتجمعات عبر الوطنية”، ومنافسين آخرين.

كان المؤلف واضحاً أيضاً بخصوص أي سوء قراءة لمضامين الكتاب، من ذلك إشارته إلى أن التحدي في عمله هذا “ليس وضع تقييم لفشل نموذج الدولة، لأنّ ما يرومه هنا يتجاوز محطة مسألة إظهار وجود أزمة للدولة، لأنّ ذلك سيكون بطريقة لكسر الباب المفتوح، ولكن تسليط الضوء على بعض وجوهها الخفية: تلك التي تجعلها لا تزال تحتل مكاناً لا مفرّ منه إلى حد ما في عقول وضمائر الأمة.

وهذا ما يفسّر الاهتمام بالنظريات المختلفة التي شكّكت في الدولة ومكوناتها وخصائصها وامتيازاتها”.

لذلك ارتأت مقاربة الكتاب، وبالاستناد إلى مصادر الموضوع ــ كما نقرأ على الخصوص في الفصل الأول، وهو فصل نظري صرف ــ تبنّي هندسة تعدّدية ومتغيّرة، مع التركيز على نقاط التعبير المعرفي والتمزق في عصور متبلورة مختلفة، من أجل فهم أفضل يهمّ كل من الحقائق الجديدة التي تواجهها الدولة، ومسار المستقبل الذي تسعى إليه.

نترك مسك الختام للمؤلف، ويرى أنّ “الإنسان سيحتاج دائمًا إلى الدولة لمحاربة الميول العمياء لأنصار الدوغمائية والسلطوية”، كما أنّ “نظام الدولة الذي يُعيد اختراع نفسه باستمرار، لضمان قدر أكبر من الشرعية، هو أمرٌ ضروريٌ للغاية لأنّه الوحيد القادر على السماح للإنسان بحمل طموحه ورغبته في إعادة اختراع المستقبل إلى أقصى حد ممكن، مع حماية نفسه من حماقات الماضي المظلمة”، أو أنّه لا مفرّ من “الاعتراف بأنّ وجود الفرد، الغارق في العقلانية، كأساس وناقل للحكم الرشيد للدولة، لا يدوم إلّا إذا أدت الدولة دورها بالكامل في تعبئة المواطنين، ورفع الرغبة في التقدم والحرية والذكاء المشترك والديمقراطية إلى الوعي.

لأنّه لا يمكن للمرء أن يُقلّل من شأن المخاطر الكامنة في أي هيكل حكم، حيث يمكن للدولة أن تنحرف عن دورها كرافعة لتحقيق الانسجام الجماعي، وتصبح غاية في حد ذاتها بالنظر إلى مصالحها الخاصة”.

(ص 247).

عمل بحثي جديد في المغرب والمنطقة العربية، نزعم أنه يُجسد إضافة نوعية للتأليف المحلي والإقليمي الذي يهم حقل الفلسفة السياسية، ما دام الحقل يعاني هو الآخر من خصاص كبير، ومادامت أغلب المراكز البحثية خارج التغطية بخصوص الاشتغال عليه، باستثناء ما يصدر من ترجمات في بعض المراكز البحثية المشرقية على الخصوص، أما مع مراكز “أسلمة المعرفة”، المغربية والعربية، فهذه قضايا خارج التفكير أساساً، إلا إن كانت ثنائية الدين والسياسة في صلب الاشتغال، من منظور إيديولوجي صرف.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 2 أيام | 6 قراءة)
.