الروائي الكبير محمد جبريل يكتب: حتى لا نتحسر على ما فات!

إعـــلان أكره السؤال الذي يسبقه القول: ماذا لو.

أراه تعبيرًا عن التحسر على ما فات، والعجز، وافتقاد النظرة التي تحسن الرؤية، ووصل الماضي بالحاضر وتوقعات المستقبل.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه، بعيدًا عن الكراهية والحب، وحتى الفهم الحقيقي والموضوعي لتطورات الأحداث: ماذا لو أن الدولة العبرية اختير لإقامتها موضع آخر من تلك التي جرت المفاضلة بينها طويلًا، في إفريقيا أو أمريكا اللاتينية، حين أعطى من لا يملك، الإنجليزي بلفور، وعدًا لمن لا يستحق، شذاذ الآفاق في أركان العالم، يتجلي الرفض لتصرفاتهم في العزلة داخل جيتوهات، وتأليف الأعمال الدرامية ( اّذكرك بشيلوك شكسبير) وإطلاق التشبيهات والأمثال وحملات الكراهية التي اتسقت موافقة قادة الغرب معها، ذلك ما رواه محمد حسنين هيكل في تصدير المشكلة اليهودية لأرض عربية، من خلال تبني الرئيس الأمريكي الأسبق تبنيه للوطن الصهيوني دفعًا للمشكلات التي اخترعتها مقولات العداء للسامية ( بالمناسبة: العرب ساميون! ) والمحرقة النازية التي راح ضحيتها الملايين من أبناء أوروبا الشرقية بأضعاف ما روج له الإعلام الصهيوني من أرقام الضحايا اليهود!قد يعجبك أيضاً بداية، فإني أرفض كل الدعاوى والأساطير التي تدّعى حقّا إلهيًا، أو تاريخيًا، لليهود في فلسطين، مقابلًا لحق الشعب العربى الفلسطيني في الأرض التي يحيا فوقها منذ مئات السنين .

إسرائيل – في تقدير الساسة والمفكرين العرب، فضلًا عن المواطن العربي العادي – رأس جسر للعالم الأوروبي في الوطن العربي، وقد زرعتها الإمبريالية الغربية عن قصد في قلب المنطقة العربية، سعيًا للسيطرة عليها، وضمان نهب الثروات العربية – وفي مقدمتها النفط – بصورة جيدة، ومنتظمة.

في تقرير سري، كتبه كامبل بيترمان رئيس وزراء بريطانيا عام 1902، يقول:” إن هناك قومًا يسيطرون على أرض واسعة تزخر بالخيرات الظاهرة والمغمورة، وتسيطر على ملتقى طرق العالم.

وهي وطن الحضارات الإنسانية والأديان، ويجمع هؤلاء القوم ديانة واحدة ولغة وتاريخ واحد، وآمال واحدة، وليس هناك أي حاجز طبيعي يعزل القوم عن الاتصال ببعضهم البعض.

ولو حدث واتحدت هذه الأمة في دولة واحدة، في يوم من الأيام، لتحكمت فى مصير العالم، ولعزلت أوروبا عنه، ولذلك يجب زرع جسم غريب في قلب هذه الأمة، يكون عازلاً من التقاء جناحيها، ويشتت قواها في حروب مستمرة، ورأس جسر ينفذ إليه الغرب لتحقيق مطامعه ” ( الأهرام 24/5/1976 ).

قد يطرح السؤال نفسه: لماذا بداية الاحتلال العثماني بداية التخلف؟ ولماذا بداية الحملة الفرنسية بداية النهضة؟الإجابة المتعجلة قد لا تكون صحيحة، أو دقيقة.

فإطلاق صفة التخلف على العصر العثماني يحتاج إلى مراجعة، وهو ما يحتاج إليه إطلاق صفة التقدم على عصور الاستعمار الغربي.

ثمة من ينتصر – حتى الآن – لدولة الخلافة، وأن زوالها كان أخطر نتائج المؤامرات التي واجهها العالم الإسلامى.

ومع اعترافي بالممارسات الخاطئة التي مارستها دولة الخلافة العثمانية في التاريخ الإسلامي، فمن السذاجة تصور أن رجل أوروبا المريض لم يعان توالي مؤامرات الغرب، المعلنة والمستترة، حتى أعلن أتاتورك نهاية دولة الخلافة.

قد يكون رجل أوروبا المريض أصيب بفيروس من الداخل، من طبيعة الحكم الأوتوقراطي الذي يجعل المواطن بلا حقوق، مقابلًا لتمتع الخليفة بامتيازات لا نهاية لها.

.

لكن السم الذي دس في مائدة الرجل المريض، عجّل بموته، في حين أن التداوي هو ما كان يحتاج إليه.

إذا كانت دولة الخلافة العثمانية قد فرضت التخلف على الأقطار التابعة لها، فإن دول الغرب فرضت – ولا تزال – ما هو أقسى وأبشع من التخلف في السياسة التي تلتزم بها في المنطقة، منذ اتفاقية سايكس بيكو، وإجهاض ثورات الفلسطينيين، وسلب القدرات والإمكانات، واستبدال الاستعمار الاقتصادي والإعلامي بالاستعمار السياسي.

بصرف النظر عن النتائج المتوخاة من إسقاط دولة الخلافة، وإحياء التيارات القومية، فإن فلسطين لم تصبح لقمة سائغة في فم الصهيونية العالمية، إلا بعد سقوط دولة الخلافة، وفي ظل الحكم القومي – نتيجة غير طبيعية، وغير منطقية، لكن كان ذلك كذلك بالفعل.

الحاصل أنه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، اقتطعت مساحات واسعة من الأرض العربية.

ثمة وجهات نظر تطرح إيجابيات لعهد الاستعمار، لكنها تعجز عن تبرير عمليات التجزئة والفصل والسلب والنهب والمظالم التي واجهتها الأقطار العربية التي خضعت لدول الاستعمار.

والحق أن القوة العسكرية لم تعد تكفل – وحدها – مكانة الدولة.

استعادت ألمانيا وحدتها، فلم نعد نسمع عن محاولات انفصال.

وفي وطننا العربي تعددت – ولا تزال – محاولات الانفصال، في السودان وليبيا واليمن وغيرها.

أفرزت النكبة الفلسطينية مئات الآلاف من المهجرين والمشردين والمنفيين، سكنوا الخيام في الأقطار العربية المجاورة، أو رحلوا إلى بلاد الله خلق الله، يطلبون استكمال حياتهم، فراراً من المحو الذى جعل منه الكيان الصهيونى شعاراً لسياسته الداعية إلى عبرية الدولة الفلسطينية، بعد التخلص من أبنائها الأصليين.

لم تكن القضية – منذ بدايتها – قضية فلسطين، لكنها قضية الغزوة الصهيونية المدعومة بالاستعمار الأوروبى للمنطقة العربية، لفلسطين وسوريا ولبنان والأردن والعراق وغيرها من أقطار المنطقة، التى مازال بعضها يتصور  – للأسف – أنه في منأى عن تطورات الصراع ونتائجه المحتملة.

أذكر قصة لي بعنوان ” المستحيل ” تتحدث عن ذلك الذي أزعجته معارك الجيران مع الجماعات الوافدة ، فأغلق عليه باب بيته ليعزل نفسه عما حوله.

فلما ظل الصخب على حاله خارج البيت كان ، أغلق النوافذ ، ثم وضع السواتر ، وكوّم الأثاث ، ليدرأ الاحتمالات السلبية.

لكن النافذة – فى لحظة غير متوقعة – ما لبثت أن تحطمت، وأطلت منها العينان المحملتان بالشر!المعنى – فيما أرى – واضح, وهو أن تأثير المأساة لن يقتصر على جزء في الجسد العربي دون بقية الأجزاء، فكلنا في الهم شرق عربي، وليس أوسطياً!ولاشك أن الخريطة التي قسمت فيها منظمة أمريكية أرض مصر إلى أجزاء، واقتطعت أجزاء أخرى، لها مشابه فى العديد من الأقطار العربية.

فصلت خريطة السودان جنوبه عن شماله، والمحاولات تبذل لفصل دارفور وكردفان، وبدأت محاولات تقسيم العراق إلى دويلات من قبل أن تحتله القوات الأمريكية، حددت مناطق دينية وعرقية لا يسمح للطيران بالتحليق فوقها، تأكيدًا لانفصالها عن الوطن الأم، لكن إرادة شعب العراق حافظت على تماسكه، ووحدة أراضيه وهويته، وإن كان السؤال – للأسف – يظل قائمًا: إلى متى؟ وواجهت وحدة اليمن اختبارًا قاسيًا، مما أتاح تعالي الدعوات للعودة إلى دولتي الشمال والجنوب، ولعله يمكن القول إن الثروة النفطية هي الضمانة الحقيقية لاستقرار دول الخليج.

والأمثلة تتعدد باتساع مساحة الأرض العربية.

وإذا كنا نرفض شعار من النيل إلى الفرات أرضك يا إسرائيل – وهو الشعار الذى قدم تحته رئيس دولة مصر فى الكنيست الصهيونى دعوته للسلام ! – والتعبير عنه بالعلم ذى الخطين المتوازيين، تتخللهما نجمة داود السداسية، فإن الحلم الإسرائيلى قد وجد فى الضعف العربى ما يدفعه إلى تجاوز الشعار – الذى نرفضه ! – إلى محاولة السيطرة على المنطقة العربية جميعاً، من خور فكان إلى نواكشوط المطلة على المحيط الأطلسى.

فلسطين هى الثور الأبيض الذى كان أكله مقدمة لالتهام بقية الوطن العربى.

كل الوثائق الاستعماريةـ الغربية والصهيونية، تتحدث عن فلسطين باعتبارها إقليماً فى الوطن العربى، وتجد فى الوطن العربى جسداً واحداً، تذهب كل المخططات والاستراتيجيات للاستيلاء عليه، والسيطرة على مقدراته، ومحو ثوابته تماماً.

ونشير إلى مقولة بن جوريون: إن حدود إسرائيل هى آخر نقطة يصل إليها الجندى الإسرائيلى، وإلى المؤامرات المعلنة، والخفية، التى تحاول السلطة الصهيونية من خلالها، أن تفرض الهوية الإسرائيلية على امتداد الوطن العربى، لا تستثنى من ذلك استبدال اللغة والعلم والنشيد الوطنى.

وقد حدثتنا باحثة جامعية مصرية – صفاء محمود عبد العال – عن الإجابة الصهيونية حول القرآن الذى هو لغة العرب: يترجمونه إلى العبرية!النظرة المتفحصة للخريطة – قبل إنشاء إسرائيل، وبعد قيامها – تبين عن إغلاق سبل الاتصال البرى بين عرب المغرب وعرب المشرق، جسم غريب زرع في الجسد العربي.

سلب فلسطين معلم خطير، في خريطة التقسيم التي تشي كل الدلائل أنه قد تم الإعداد لها، والبدء في تنفيذها، في قرون السبات العربي، حين كانت أقطاره ولايات تابعة للأستانة.

طبيعي أن المرحلة الآنية التي يعيشها الوطن العربي تفرض المراجعة والمحاسبة، النظرة المتأملة يصدمها السودان الذى فصل جنوبه عن شماله، ويواجه حركات متمردة فى أقاليمه الأخرى، وتحول بنية العراق إلى كيانات عرقية، وبذور الشقاق الطائفى والعرقى فى الجزائر وسوريا ولبنان واليمن وموريتانيا وغيرها.

أغمض بطل قصتى ” المستحيل ” عينيه عن الأحداث التي تجرى خارج بيته، وأهمل سماع الأصوات المستغيثة.

تصور أن ما فعله سيكفل له الاستقرار والطمأنينة، لكن الخطر الذى تصور – بإغلاق الأبواب والنوافذ – أنه قد ابتعد، ما لبث أن اقتحم عليه البيت!من الخطأ تصور اقتصار الخطر على هذا القطر العربى أو ذاك، المؤامرة أكبر من أن تعيها تلك النظرة الضيقة.

ما يحدثه الإرهاب في امتداد الأرض العربية أشبه بالقذائف التي تسبق بداية الحرب، ذبح المواطنين وإحراقهم لمجرد بث الذعر، والاستيلاء على المدن، وتدمير الاقتصاد، وإزالة الإرث الحضاري.

.

ذلك كله مؤشر لحجم المؤامرة التي تستهدف الشعب العربي في تعدد أقطاره.

كان سلب فلسطين معلماً خطيراً، فى خريطة التقسيم التى تشى كل الدلائل أنه قد تم الإعداد لها، والبدء فى تنفيذها، فى قرون السبات العربى، حين كانت أقطاره ولايات تابعة للأستانة.

ولاشك أن الخريطة التى قسمت فيها منظمة أمريكية أرض مصر إلى أجزاء، واقتطعت أجزاء أخرى ، لها مشابه فى العديد من الأقطار العربية .

فصلت خريطة السودان جنوبه عن شماله، والمحاولات تبذل لفصل دارفور وكردفان، وبدأت محاولات تقسيم العراق إلى دويلات من قبل أن تحتله القوات الأمريكية، حددت مناطق دينية وعرقية لا يسمح للطيران بالتحليق فوقها، تأكيداً لانفصالها عن الوطن الأم، لكن إرادة شعب العراق حافظت على تماسكه، ووحدة أراضيه وهويته، وإن كان السؤال ـ للأسف ـ يظل قائماً: إلى متى؟ وواجهت وحدة اليمن اختباراً قاسياً، مما أتاح تعالى الدعوات للعودة إلى دولتى الشمال والجنوب، ولعله يمكن القول إن الثروة النفطية هي الضمانة الحقيقية لاستقرار دول الخليج.

المثل الأحدث ما تواجهه الأونروا من مؤامرات تستهدف إبادة الشعب الفلسطيني في غزة.

أنشأ المجتمع الدولي وكالة للغوث فى فلسطين ( الأونروا ) في محاولة للتكفير عن سيئات إنشاء الكيان الصهيوني على أنقاض قطر عربي، ومع أن الأعداد الهائلة، المتزايدة، للاجئين العرب، داخل الوطن العربي وخارجه، تتطلب موقفًا إيجابيًا، مسئولًا، من الجامعة العربية، ومن منظمة المؤتمر الإسلامي، فضلًا عن المنظمات الدولية المسئولة، مثل حقوق الإنسان، والإغاثة الدولية، واليونسيف، وغيرها، فإن إسرائيل تحاول – بضراوة – تجريد الأونروا من صلاحياتها.

متى نفيق إلى الخطر الحقيقى؟!*هاشتاج:

مصر      |      المصدر: المساء    (منذ: 4 أسابيع | 6 قراءة)
.