عادل عسوم: هذه صورة والدي رحمه الله وخكايته في قطار كريمة

أسألكم بالله الترحم عليه والدعاء له في هذا اليوم المبارك، نعم لقد مرت أكثر من ثلاثة عقود على وفاته، لكأنه أمامي الآن وهو يقرأ مجلة العربي أمام باب منزلنا في البركل أو حيث عمل في العديد من مدن وقرى السودان، فقد كان رحمه الله شغوفا بالقراءة والثقافة على عمومها.

ولوالدي رحمه الله قصة كفاح حري بها أن تحكي في المجامع، فقد كان عصاميا، خرج من البركل وعمره أقل من 14عاما وذهب (متخفيا) إلى الخرطوم بغية مواصلة دراسته.

قال لي رحمه الله بأن لجنة ترسلها وزارة التربية والتعليم جاءت إلى خلوة ودالكرسني في البركل تحت حيث كان يتعلم، واختارت اللجنة الوالد ضمن تلاميذ ثلاث باعتبارهم نجباء يستحقون الالتحاق بالمدرسة الأولية، وبالفعل التحق بالمدرسة مع رفيقيه، لكنهم فوجئوا بقرار آبائهم الرفض التام بأن يدرسوا في مدارس الاستعمار، ولم تجد كل وساطات الأهل والأمهات لاثناء الآباء الثلاث عن قرارهم، فقرر ثلاثتهم الهروب إلى العاصمة لمواصلة دراستهم، ويوم الهروب تفاجأ الوالد بتخلف رفيقيه وهو يستقل قطر كريمة، لكنه أصر على السفر واختبأ في أحد ازيار عربات القطار الفارغة، وقد سبق له الاتفاق مع والدته على أمر ما.

فوصل إلى امدرمان ليبحث عن بيت أحد اخواله – وللعلم فإن جدتي جعلية من المتمة- وخاله هذا اسمه الطاهر، وكان صاحب مطعم شهير في امدرمان، واعتاد المجئ إلى البركل هو ووالدته للسلام على جدتي (الزهرة بت الشريف أبوسَم)، وناول خاله خطابا أملته عليه جدتي، فقرأه خاله وبكى ثم أعطاه الأمان، وبقي الوالد في كنف خاله الذي سافر إلى البركل ليعلم جدي بالأمر، واقسم عليه بأن لايرفض مواصلة ابنه لتعلميه وسيتكفل هو بذلك، وبالفعل أكمل والدي رحمه الله تعليمه والتحق بمدرسة المساعدين الطبيين في الخرطوم، وكانت تسمى مدرسة غردون للمساعدين الطبيين، وكان ترتيبه الأول على الدفعة، وصادف يوم تخرجه فيها الاحتفال بالاستقلال عام 56، وعندما نال شهادته كمساعد طبي عاد إلى البركل ليتزوج من والدتي أطال الله عمرها وهي ابنة شيخه وأستاذه في الخلوة التي درس فيها وهو الشيخ محمد الحسن حاجنور رحمه الله، وأمها البتول بت احمد عبدالحميد الكرسني رحمهم الله جميعا، واصطحب والدتي وسافر إلى بورتسودان ليصبح مستشفى بورتسودان أول مكان يعمل فيه، واختاره جراح انجليزي شهير مُحضّرا للعمليات برفقته في المستشفى، وكان هذا الطبيب الانجليزي استاذه في مدرسة غوردون الطبية، وكان يشيد بوالدي كثيرا على نبوغه وتفوقه، وهو الذي أسهم في إلحاقه بالسلاح الطبي بالجيش الانجليزي، حيث عمل في الحبشة وكذلك في طبرق في ليبيا من خلال القوة السودانية، وجاب الوالد رحمه معظم ارجاء السودان من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله كمساعد طبي، وكان ميلادي وثلاثة من اشقائي في شرق السودان، بينما توزع ميلاد بقية اشقائي مابين أقصى جنوب السودان في قوقريال، وأقصى شماله بين ظهراني أهلنا السكوت والمحس في جزيرة صاي، وختم الوالد عمله – بعد أن أصبح مفتشا عاما للشفخانات- في مستشفى كريمة، وعندما أتم السن القانونية للمعاش؛ ظل يعالج مرضاه الذين اعتادوا القدوم إليه من أماكن عديدة في مستشفى كريمة، فكان المريض يرفض مراجعة الطبيب (الدكتور) المسؤل عن المستشفى فيجدهم ينتظرونه أمام المستشفى، وبقي رحمه الله حريصا على مرضاه يعالجهم في بيته في (البركل فوق) إلى أن لقى ربه.

اشهد بأنك ادبتنا كما ينبغي، وقد بذلت كل الجهد لتعليمنا، وكان لك الفضل في عشقي واخوتي للقراءة والسعي لايساع أفق المعرفة والوعي، ومنك تعلمنا حسن الخطابة، وكذلك درسنا على يديك اللغة الانجليزية التي كنت تجيدها، وكم كانت لتوجيهاتك (الحكيمة) أثرها في تشكيل وجداننا وتكوين الكاريزما الخاصة بكل فرد منا.

اللهم اغفر لوالدي مغفرة لاتبقي من بعدها عليه خطيئة، وارحمه رحمة ترفع بها درجته في الجنة إلى عليين، وافتح له اللهم في مرقده وفي ساعته هذه بابا من الجنة لايسد، وصله بالدنيا موصل خير الى أن ترث الأرض ومن عليها، ويوم يقوم إليك الخلق أسألك ياربي ان تفتح له أبواب الجنة الثمانية يلج إليها من أيها شاء، وهبه ياربي لذة النظر إلى وجهك الكريم انك ولي ذلك والقادر عليه.

عادل عسوم:                                      

السودان      |      المصدر: النيلين    (منذ: 4 أشهر | 3 قراءة)
.