العرب بين مطرقة الصهيونية وسندان الولي الفقيه
منذ الحرب العالمية الأولى لم تكن المنطقة العربية بمعزل عن التحولات والصراعات العسكرية التي شهدها العالم وكانت في كثير من الأحيان مسرحًا لها وضحية مباشرة أو غير مباشرة لتداعياتها ونتائجها. ولعبت القوى الدولية أدوارًا محورية في رسم خريطة المنطقة وتقاسم النفوذ فيها وتحويلها إلى ساحة مفتوحة لتجريب سياساتها وأسلحتها ونظرياتها السياسية.
وخلال العقود السابقة كان الحضور العربي غالبًا إما تابع أو هامشي أو سلبي رغم أن الثمن كان يدفع من أرواح أبنائه ومن استقرار دوله ومن تماسك مجتمعاته.
اليوم يقف العرب في مفترق طرق أكثر تعقيدًا في ظل صراع مرير على النفوذ الإقليمي بين قوتين غير عربيتين تسعيان كل بطريقتهما لفرض الهيمنة على المنطقة. فالأولى الكيان الصهيوني الذي يواصل مشروعه الاستيطاني والعنصري في فلسطين، يستند على دعم غربي واسع النطاق، وتحالفات أمنية واقتصادية متعددة في المنطقة. والثانية الكيان الإيراني الذي يسوق مشروعه العقائدي المستند إلى الولي الفقيه ويعمل على تصدير نموذجه الثيوقراطي من خلال دعم جماعات مسلحة واختراق مؤسسات الدولة في عدد من البلدان العربية عبر مليشيات أرهابية.
المؤسف أن الساحة العربية باتت في كثير من مواقعها مستباحة لهذه المشاريع التي تتقاطع في أحيان وتتصارع في أحيان أخرى لكنها تتفق جميعها في أن ثمن تمددها يدفع من الجغرافيا العربية ومن النسيج العربي ذاته. ولا أحد يستطيع أن ينكر حجم النفوذ الذي باتت إيران تملكه في العراق ولبنان واليمن ولا يمكن القفز فوق ما تقوم به إسرائيل من توسيع للمستوطنات وتهويد للقدس وعدوان متكرر على الشعب الفلسطيني في ظل صمت دولي وعجز عربي.
وبين هذا وذاك يجد العرب أنفسهم في موقع المتفرج أحيانا بانعدام القرار، وأحيانا بالتورط في محاور صراع لا تخدم مصالحهم وأحيانا أخرى بقبول أدوار ثانوية تفقدهم القدرة على التأثير وغابت المشاريع العربية الجامعة وغابت الإرادة السياسية القادرة على تشكيل موقف موحد تجاه التحديات الكبرى فتحول العالم العربي إلى مشهد منقسم من المواقف المتضاربة والمصالح الضيقة ما أتاح للأطراف الخارجية مساحة أوسع للعبث بمصير الشعوب العربية وتمزيق الأوطان وتفكيك الدولة الوطنية.
اللافت أن القوى التي تتصارع على المنطقة لا تخفي أهدافها ولا تنكر نواياها فإسرائيل تعلن أن لا انسحاب من الأراضي المحتلة ولا دولة فلسطينية وتعمل على فرض وقائع ميدانية من خلال القوة وإيران تصر على دعم أذرعها المسلحة وتغذي الانقسامات الطائفية والمليشيات وتوظف الدين لخدمة مشروعها السياسي وفي المقابل تفتقر الدول العربية إلى مشروع مضاد أو حتى إلى آليات حقيقية للدفاع عن أمنها ومصالحها وهويتها فيما تتسارع الأحداث لتفرض واقعًا إقليميًا جديدًا لا مكان فيه للضعفاء.
إن استمرار هذا الواقع يشير إلى خطر استراتيجي يتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة ليصل إلى بنية المجتمعات وهويتها وتماسكها الثقافي والديني والوطني. فكلما طال زمن التشتت وكلما تأخر العرب في استعادة المبادرة ازدادت فرص القوى الدخيلة للتمدد وتعاظمت الخسائر على مختلف المستويات وما لم يتحول الإدراك العربي لحجم الخطر إلى فعل حقيقي فإن السنوات القادمة قد تحمل تغييرات أكثر جذرية ليس فقط في خرائط النفوذ بل في تركيبة الدول والمجتمعات العربية نفسها.
لم يعد مقبولًا أن يبقى العرب في مقعد المتفرج بينما تدار الحروب على أراضيهم وترسم خرائط المنطقة فوق أجساد أبنائهم ولقد آن الأوان لاستعادة الفعل العربي عبر مشروع نهضوي جامع يعيد الاعتبار لفكرة الدولة وللنسيج المجتمعي وللهوية الجامعة ويقف في وجه كل مشاريع الاستتباع والاختراق والهيمنة فإما أن يكون العرب شركاء في صياغة مستقبلهم أو سيظلون كما في القرون الماضية ضحايا لصراعات الغير وأدوات في معارك لا تخصهم.