×

قَضيّةُ تّقَاعُد: هذا هي الأحوال التي وجدناها في بلادنا بعد غيبة طويلة (1)

كتاب الزمان ( قَضيّةُ تّقَاعُد -الحلقة الاولى): هذه أحوال بلادنا بعد غيبة طويلة | Azzaman

كتاب الزمان ( قَضيّةُ تّقَاعُد -الحلقة الاولى): هذه أحوال بلادنا بعد غيبة طويلة

لندن – الزمان
تنشر صحيفة (الزمان) سلسلة من حلقات كتاب جديد بعنوان “قضية تقاعد”، من تأليف الكاتب والأديب والإعلامي العراقي فيصل عبدالحسن، أهداه إلى رئيس مجموعة الاعلام العراقي المستقل، سعد البزاز.

تتناول حلقات الكتاب الوقائع المريرة لمغترب زار بغداد، وعاد بعدها أكثر اغترابًا، حيث يروي فيها تفاصيل رحلته وتجربته الشخصية في طريق اجراء معاملة تقاعد عادية، مسلطا الضوء على الأخطبوط السري الذي يحرك لعبة الفساد المتجذرة وكيف مسخت شخصية رجل الخدمة العامة ، كما يتحدث جوانب مختلفة من الحياة والتحولات التي شهدها العراق.

تعد هذه السلسلة من الحلقات مدخلاً مثيرًا للاطلاع على واقع المجتمع العراقي الذي نخرت في كيانه سوسة الاحزاب والفساد ،وملمحًا لأحداث وتجارب يومية حقيقية، مثيرة للاهتمام والتأمل.

إطلاق كِتاب “قضية تقاعد” يعزز تعاونًا جديدًا بين صحيفة الزمان وأصحاب القلم من إعلاميين وكتاب إصحاب الرؤية الكاشفة ،ويعد خطوة مهمة نحو إثراء المحتوى الإعلامي البناء وسط الانهيارات التي يشهدها الإعلام المسيس لاسيما في الوسط الرقمي.

قَضيّةُ تّقَاعُد

فيصل عبد الحسن

متوالية سردية عن يوميات حقيقية عشتها أنا وزوجتي وولدي في العراق بعد غربة ثماني وعشرين سنة!!..

توطئة

من قبل حين كنا في بلادنا كان أهلنا يقولون للضيف: تشرف في أي وقت، فصاروا بعد كل هذه السنوات يقولون.. اتصل بنا قبل أن تجيء !!
كانوا من قبل يقولون في الأفراح:
أجلبوا معكم الصغير قبل الكبير، فصاروا يقولون.. ممنوع اصطحاب الأطفال !!
كنا ونحن شباب نحلم أن نتخرج من الجامعات ونصير أطباء ومهندسين فصاروا شباب اليوم.. يرضون بأي عمل يطعمهم خبزاً!!
كان أهلنا يقولون قبل أن يشتروا داراً: الجار قبل الدار، فصاروا يقولون: صباح الخير يا جاري أنت في دارك وأنا في داري!!
كانوا يقولون: الأقارب عزوة فصاروا يقولون: الأقارب عقارب!!
كنا نجتمع يومياً ونسأل عن الغائب منا فصاروا.. يجتمعون للتهنئة، وأحياناً للتعزية فقط !!
كنا نبدع ونفكر ونكتب فصار أهلنا يقولون: الذي نعانيه يومياً من صعوبات العيش الذليل فيه الكفاية !!
كنا نرسل الرسائل بدون ما نستقبل شيئاً فصاروا.. لا يرسلون إلا للذي يرسل لهم في طلب خدمة، وربما لا يجيبوه!!
أحوال بلادنا تغيرت.. ولا أدري ما الذي حدث لأخلاق أهلها ؟!!
للأسف… هذا هي الأحوال التي وجدناها في بلادنا بعد غيبة طويلة !!

الطيران إلى بغداد

لم يكن السفر إلى العراق في الأيام الأولى من الشهر الأخير من سنة 2022 إلا ورطة حقيقية تورطتها مع زوجتي وولدي، فقد كنا نأمل بزيارة بلدنا العراق ورؤية ما تبقى من الأهل وزيارة قبور والدينا، وكذلك لإكمال معاملة راتبي التقاعدي التي لن تكتمل كما أخبرني موظف التقاعد في الوزارة برسالة على الواتس التي كنت أعمل فيها سابقاً إلا بوجودي الشخصي في العراق!! لأحصل على مرتب شهري يعولنا في وطننا العراق بعد كل هذه السنوات من الغربة خارجه.

كانت الرحلة طويلة ومتعبة، وكان علينا أن نقطع قارة أفريقيا من غربها النائي للوصول للعراق الذي يقع في قارة آسيا.
الطائرة التي أقلتنا وصلت إلى القاهرة في خمس ساعات ونصف، وقضينا بعدها فترة ترانسيت في مطار القاهرة لفترة أربع ساعات قبل الطيران مجدداً إلى بغداد، وكانت الطائرة التي حجز لنا ولدنا فيها قديمة إلى درجة أننا كنا نرى بين الحين والحين أحد مساعدي الطيار وبيده مفك وهو يحاول إصلاح بعض الأجهزة الكهربائية في لوحة سيطرة الكابينة التالية لكابينة الكابتن “قائد الطائرة”!!
وكان هذا الأمر مخيفاً لي كمهندس ميكانيك سابق درستُ علم الميكانيكا ومحركات التربو جيت النفاثة، التي تجمع اجزاءها بمنتهى الحذر والمهندسون يضعون على وجوههم ورؤسهم أغطية حذراً من أي ذرة غبار أو شعر أو رذاذ من أفواههم يقع عليها، وخصوصاً ونحن نطير في الجو تحت رحمة الرحمن الكريم، وكانت ثمة رياح باردة تأتينا من تحت ومن فوق رؤوسنا، ولسنا ندري هل تأتي هذه الرياح من خارج الطائرة، بسبب ثقوب في معدنها، أو أنها من أجهزة تبريد الطائرة التي فعلت إلى أقصى برودتها، ولكن برودة تلك الرياح الشديدة التي تجمد الأطراف ليست من صنع أجهزة محدودة التبريد!!.

وقد سمعنا من مكرفون الطائرة أن درجة البرودة في خارج الطائرة تصل إلى ناقص 50 درجة مئوي بسبب الارتفاع في الجو، فاضطررنا إلى ارتداء معاطفنا الثقيلة وكانت أسناننا تصطك من البرد، كنت وزوجتي قد خططنا لزيارة قبور أهلنا في النجف الأشرف أولاً حالما نصل العراق، لكننا فيما يبدو سنلحق بهم قريباً غرقى في البحر الأبيض المتوسط !! أو مجندلين فوق أحد جبال الجزائر التي تمرُّ فوقها طائرتنا منذ ساعة أو أكثر، وكذلك كنا في شوق شديد لزيارة من تبقى من أهلنا في العراق بعد انقطاع طويل عنهم امتد لفترة ثماني وعشرين سنة في بلدان عربية مختلفة، وعقب صعوبات جمة منعتنا من الزيارة، منها الحصار، ومنع السفر الجوي والبري إلى العراق لفترة طويلة بسبب الحصار والاحتلال الأمريكي للعراق والحرب ضد الأرهاب وبعد ذلك انتشار وباء كورونا، وغلق الحدود بين دول العالم، ووضع شروط صارمة للسفر وقتها بين الدول.

كنا نردد الشهادة في كل مطب هوائي تمرُّ به الطائرة، وما أن هبطت في مطار القاهرة، حتى تنفسنا الصعداء، وتبادلنا التهنئة على سلامة الوصول مع الركاب القريبين منا !!.

في مطار القاهرة فوجئنا ببلاغ من مكتب الطيران المصري يؤكد وجود أحداث في مطار بغداد أدت إلى غلق المطار حتى أشعار آخر، وجاء موفد من دائرة المطار المصري، يبلغنا عن أسفه لتأخر رحلتنا إلى بغداد ووعدنا أنه متى تصلهم أنباء من بغداد تعلمه باستعداد مطار بغداد استقبال طائرتنا، فسيخبرنا بهذا لنستعد لمواصلة رحلتنا، وكان عدد المسافرين إلى بغداد يتجاوز المائة مسافر، والغريب أن معظم المسافرين إلى بغداد كانوا من أصحاب اللحى واللباس الأفغاني!! وهم خليط من الإيرانيين والبنغلادشيين مع نسائهم وأطفالهم والبعض منهم اصطحبوا نساء كبيرات في السن كن في الأغلب جداتهم وأمهاتهم، وأكثرهن كن يسرن ببطء على عكازات أو على كراس متحركة، ولباس الجميع نساء ورجالاً كان لباس القرويين الهنود الفقراء، وكذلك كانوا يحملون معهم متاعهم القليل في قطع قماش تم عقدها من الأعلى، فصارت على شكل كرات ضخمة زنخة الرائحة تذكرك بروائح روث البهائم والزبدة المعتقة في القرى البعيدة عن المدن، ولم يكن مع المسافرين من العراقيين أكثر من عشرة مسافرين من ضمنهم أنا وزوجتي وأبني!!.

كنا طوال الوقت نتساءل، ماذا حدث في مطار بغداد من أحداث ليغلق بهذا التوقيت المفاجئ، الذي عطل رحلتنا إلى بغداد ؟ !!
كان البرد شديداً في صالة الانتظار الأرضية بمطار القاهرة، ولم تمض سوى ساعة، ونحن نستمع لأخبار متضاربة من المسافرين وموظفي المطارعن سبب غلق مطار بغداد من بينها، معركة بالسلاح الناري بين مجموعتين من الميليشيات المتحكمة بالبلاد، كانت أحداها ــ فيما ورد من أخبارــ تنوي تهريب حمولة ضخمة من الدولارات تصل إلى ستة مليارات دولار!! وقد تم شحنها في حقائب البريد الدبلوماسي إلى تركيا، فاصطدم أفراد تلك المليشيا بميليشيا منافسة. كانت بدورها تطمح للحصول على جزء من الغنيمة ليسمح رجالها الذين يعملون في مطار بغداد بمرور تلك الشحنة من الأموال!!.

ويبدو أن السلطات الحكومية العراقية من شرطة وأمن ومخابرات وموظفي المطار كانت تراقب كل ذلك عن كثب ولا تجرؤ على التدخل ومنع الطرفين، مما يفعلون من عبث وسرقة لأموال الدولة، فاضطرت سلطات المطار المسؤولة عن حركة الطائرات الوافدة أو المغادرة للحفاظ على سلامتها أثناء الهبوط أو الأقلاع في أوضاع مرتبكة، وغير أمينة في المطار، إلى غلق المطار ومنع الهبوط والأقلاع منه، وعرفنا أن ذلك يحدث بين فترة وأخرى، فتعود الطائرات القادمة إلى بغداد التي تُمنع من الهبوط بدعوى وجود ضباب أو حوادث تصادم لآليات على مدرجات المطار، فتغير الطائرات مسارها لتهبط في عمان بالأردن أو في الدوحة بقطر، وتبقى هناك لفترات طويلة حتى يؤذن لها بالقدوم!!

وبعد ساعة ثانية من الانتظار الممل، والبرد يجمد أطرافنا، وعندها طلبت منا إدارة الخطوط الجوية التوجه إلى بوابة السفر المخصصة للسفر إلى بغداد، وما أن تم تفتيش الحقائب والمسافرين في عملية طويلة ومتعبة تم خلالها الطلب من المسافرين خلع أحذيتهم، وفتح حقائبهم وتفتيش كل شيء فيها صعدنا إلى طائرة قديمة تشبه أختها التي نقلتنا من الدار البيضاء إلى القاهرة!! فرددنا الشهادتين محوقلين متحسبين ونحن نجلس على كراسينا المخصصة لنا في الدرجة الاقتصادية، وتخوفنا من هذه الرحلة المشؤومة إلى بغداد المنكوبة بالفوضى، وما أن جلسنا في المقاعد المخصصة لنا، ووضع حقائبنا في الأمكنة العالية فوق الرؤوس، وجلسنا ننتظر بفارغ الصبر إقلاع الطائرة، وبعد انتظار ممل لمدة ساعة أخرى سمعنا من مكرفون الطائرة الكابتن يخبرنا أنهم لا يزالون ينتظرون رسالة من مطار بغداد تخبرهم عن استعداد مطار بغداد لاستقبال طائرتنا؛ وفوجئت بان أغلب المسافرين يرتدون اللباس الأفغاني المميز بلحاهم الطويلة، مع زوجاتهم وأطفالهم ومعهم مسافرون آخرون يتحدثون الفارسية، حتى ظننت أن الطائرة ستذهب إلى طهران أو بنغلادش، وأننا ركبنا الطائرة الخطأ، ربما الطائرة الذاهبة إلى كراجي أو طهران!! فسألت أحد الركاب إن كانت الطائرة متوجهة إلى بغداد أو طهران؟ وقد ظننته عراقياً فلم يجبني، ووضح لي من غمغته وكلامه بالفارسية، أنه من إيران، ولكن شاء الحظ الطيب أن يكون أحد المسافرين القريبين من كراسينا عراقياً فإجاب:

ــ أنها الطائرة الصحيحة المتوجهة الى بغداد!!

فقلت في نفسي ما هذا ؟!! هل تم تبديل العراقيين بالإيرانيين والأفغانيين ؟!! وأجبت نفسي، من الواضح أن هذا حدث في السنوات العشرين الماضية ببطء ومن دون أن ينتبه أحد لهذا التغيير الديموغرافي للسكان!! فقد تم تبديل الشعب العراقي بآخر بتوفير العمل لفقراء بلدان أخرى، وتوفير السكن الرخيص لهم، وتهيئة الأوراق الثبوتية لهم من بطاقات سكن وبطاقات موحدة وجوازات سفر!! وربما زود بعضهم بجوازات سفر من فئة الجواز الدبلوماسي!! وهيئوا لهم أسباب العيش الهنيء من مستشفيات ومدارس وأسواق ووسائل عيش ميسرة، وأي دولة تحكمها كالأحزاب الطائفية التي تدير حكومات العراق منذ عشرين سنة عقب الاحتلال الأمريكي في 2003 ولديها من الأمكانات المالية، ووسائل الدولة كافة من جيش وشرطة ودوائر نفوس وأموال نفط، يمكنها ان تفعل كل هذا بكل سهولة!!
وبعد انتظار لساعة أخرى داخل الطائرة سمعنا نداء من مكرفون الطائرة يخبرنا أن مطار بغداد لا يزال مغلقاً وإلى إشعار آخر!! ولا يعرف أحد متى يأتي هذا الإشعار، وبعد نصف ساعة أخرى من الانتظار الممل، طلبوا منا مغادرة الطائرة والتوجه مرة ثانية إلى صالة الانتظار في مطار القاهرة، وكأنك يا أبا زيد ما غزيت !!.

وكان ولدنا محمد يعاني من وجع في بطنه، وحين أخبرتني زوجتي بهذا أخبرتها أن نعم بعد كل هذا العذاب ليس وحده من يعاني من وجع البطن، فأنا أيضا أعاني من وجع مماثل، ومن جديد أخرجنا الحقائب من دواليب الطائرة العلوية وحملناها، وبدأنا بمغادرة الطائرة عائدين إلى صالة الانتظار في مطار القاهرة، حيث البرد الشديد، والجوع، فنحن لم نتناول وجبة طعام منذ ليلة البارحة، ولكن في مطار القاهرة انتبهوا لجوع المسافرين!! فحملوا لكل مسافر من الطائرة التي كانت من المفروض المغادرة إلى بغداد وجبة طعام خفيفة عبارة عن قطعة لحم صغيرة وعدة لقيمات من الرز والحلوى، وقطعة كيك صغيرة، فأعانتنا تلك الوجبة على الجوع والبرد!!
كانت معظم الخدمات في المطار معطلة، بسبب تأخر الوقت ثلاث ساعات بعد منتصف الليل في القاهرة، وقد بحثنا عن مكان للجلوس في تلك الصالة المملوءة بالبشر الذين انقطعت بهم السبل، وكانت المسكينة زوجتي تتعب من الوقوف طويلاً، فبقيت حائراً، ماذا أصنع لكي تنال زوجتي كرسياً ترتاح بالجلوس عليه بعد وقوفنا لساعة في برد الصالة، وعدم توفر كراس كافية للجلوس.

كان في الزاوية تحت الدرج الذي يقود إلى الطابق الأول من المطار بار صغير يقدم القهوة للمسافرين، وكان مهجوراً وقد تركت كراسيه المرتفعة التي توازي في ارتفاعها مصطبة البار، ليتسنى للجالس على الكرسي تناول فنجان قهوته مباشرة من النادل، ويضعها على المصطبة من دون جهد، وكنت أنا وولدي نتمكن من تسلق تلك الكراسي العالية بقليل من الجهد، أما زوجتي المسكينة التي هي بطبيعة الحال أقصر منا طولاً، فقد كان من المحال أن تستطيع تسلق ذلك الكرسي العالي الملعون لتجلس !! ولم يكن أمامنا من حل سوى أن نتعاون أنا وولدي لحملها، ووضعها فوق الكرسي بالرغم من ممانعتها ورفضها خجلاً من أن يرانا المسافرون على تلك الحال، وكانت تهتم جداً بالبرستيج، لكننا كنا في حالة غير طبيعية، وكان علينا أن نجد حلاً، ومن حظنا الطيب أنها كانت خفيفة الوزن، وبعد أن تمكنا من وضعها فوق ذلك الكرسي، حتى تنفستُ الصعداء، فقد كانت المسكينة متعبة جداً وصار بأمكانها أن تضع ذراعيها على المصطبة وتسند رأسها على ذراعيها وتغفو بشكل مريح، وقد وفرتْ لها سترة الفرو التي ترتديها الدفء المطلوب لأغفاءة متقطعة لكنها مهمة، لكي تستعيد نشاطها، وبقي أحد الكراسي شاغراً، بعد أن شغلت أنا أيضا كرسياً من تلك الكراسي المرتفعة، وفعل ولدنا كما فعلنا بالكرسي الثالث.

وشاء القدر أن أتى رجل في الأربعين من عمره، وقد ظننت في البداية أنه كان سكراناً فسلم علينا واستأذن بالجلوس على الكرسي الرابع، فأديت له بكفي بحركة أقول فيها من خلالها (على الرحب والسعة بك) فجلس وغمغم بكلمات تعبر عن ضجره من الانتظار وسألني:
ــ أنتم عراقيون؟ وكنت لا أزال أظنه سكراناً فقلت بلا اهتمام (نعم) وكانت لهجته عراقية، فقال وفي صوته فرح :
ــ وأنا أيضا من العراق.. من بغداد !!..
فقلت له مجاملاً:
ــ مرحباً بك !!
فتمتم:
ــ كل ما يحدث لنا من تأخير سببه صالة الVIP في مطار بغداد!!
فقلت مستفهماً ماذا تعني؟!!

فقال وهو يقول الكلمات بتاتأة، ويبدو أنه لم يكن سكراناً كما اعتقدت في البداية بل كان يعاني من عسر الكلام، وتأتأة في لفظ بعض الحروف، كالراء، فهو يقلبها غينا وحرف الجيم يقلبه ياء، وبعض الحروف يغص أثناء نطقها، فيغمض عينيه ويبلع ريقه عدة مرات حتى يتمكن من نطقها!!

وكنت أشفق عليه، وهو يبذل الجهد الكبير حتى يوصل لنا حكاية هذه القاعة المشهورة في مطار بغداد وقد عرفنا مما قال:” إنها قاعة في مطار بغداد الدولي خاصة بمهربي عملة الدولارات ويشرف عليها مستثمر لبناني ومن يدخلها لا يخضع لأي تفتيش أمني لأنها خارج سلطة الأمن والمخابرات العراقية!! وليس لأي سلطة حكومية أخرى عليها من سبيل، وكان الداخل إليها يمكنه المرور من خلالها إلى باب فيها يؤدي إلى مدرج المطار مباشرة، ويتمكن من الصعود إلى الطائرة بشكل مباشر من دون تفتيش، ويمكنه أن يحمل في حقيبته الأموال المهربة بكل حرية!!.

وعادة تحدث مشاكل بين المسؤولين الفاسدين المتناحرين الذين يريدون تهريب أموالهم المشبوهة عبر هذه الصالة، ويحدث التنافس بين من يسمح له بالدخول إلى هذه الصالة أو من لا يسمح له، وحتى يؤذن له عليه أن يدفع للمستثمر اللبناني نسبة مئوية من الأموال المهربة!! وحالما يختلف الطرفان على النسبة، وعندها تحدث المشاكل بينهما فتتدخل حمايات مسلحة خاصة بالمستثمر، وليس لهذه المجموعة المسلحة أي علاقة بالأجهزة الأمنية العراقية، فقد كانوا ولا يزالون سلطة فوق السلطات الرسمية!! ولاتزال هذه المجموعات المسلحة هي التي تقرر من يدخل إلى هذه الصالة ومن لا يدخل، ومتى تقلع الطائرة أو تبقى جاثمة على أرض المطار، حتى يصل المسؤول الفاسد وتصعد حقائب أمواله المهربة إلى الطائرة!! وعندها يؤذن للطائرة بالاقلاع من المطار بما حملت من أموال أو بضائع مهربة كالأثار والمجوهرات، وغير ذلك مما غلا ثمنه وخف وزنه!!

وذكر الرجل أن في عدة مرات يحدث تبادل لإطلاق نار بين المتنافسين، فيغلق المطار، وتعود الطائرات التي لا تزال في الجو إلى بلدانها أو إلى مطارات بديلة كمطار عمان بالأردن أو مطار الدوحة بقطر!!

لم أويد ما جاء في رواية الرجل، وكنت استمع وكأني استمع الى قصة بوليسية شيقة عن عالم اللصوصية والتهريب وعصابات المافيا!! وأشعر بالأسف لبلدنا ــ إن كان ما قاله الرجل صحيحاً ــ قد ألت أموره إلى هذا الحد من السوء واستشراء الفساد!!
وبعد هذا صمت الرجل، وبقي ينظر في أرجاء القاعة المزدحمة بالمسافرين العالقين.

وجاء بعد ساعة من الانتظار الممل أحد المسؤولين في المطار ليبلغنا بمنشور إدارة مطار بغداد، الذي نشرته على موقعها على الانترنت، وذكرت فيه أن سبب تعطل مطار بغداد باستقبال الرحلات الجوية يعود إلى حادث عرضي لإحدى طائرات الخطوط الجوية العراقية، التي كانت على وشك الإقلاع عن أرض المطار، وشبت النيران في إحدى عجلاتها وبصعوبة سيطر قائد الطائرة على طائرته، وكبح جماح سرعتها، ولكن الحريق أدى إلى أضرار في الطائرة، ولم يجد طاقم المطار الفني وسيلة لقطر الطائرة إلى مراب الطائرات، فبقيت في المدرج إلى صباح اليوم التالي لتجد إدارة المطار وسيلة لقطر الطائرة المعطوبة!! وخوفا من اصطدام الطائرات القادمة بالطائرة المعطوبة الجاثمة على أرض المدرج، فقد تم منع الإقلاع أو الهبوط حتى إشعار آخر!!
وقال المسؤول المصري وكما ترون أن السبب ليس منّا كمطار بل مطار بغداد هو المسبب للتأخير !!.. وحالما تصل لنا برقية بالسماح لنا بنقلكم إلى بغداد سنخبركم في حينها.

وكان هذا الموضوع كابوساً حقيقياً لجميع المسافرين الذاهبين إلى بغداد، فليس هناك ما هو أسوأ من أن تنتظر وتنتظر امراً في غاية الأهمية بالنسبة لك، ولا تعرف متى يحصل، وعليك أن تبقى تنتظر وتنتظر وأنت في وضع إنساني صعب، واقفاً في صالة متجمد الأطراف أو على كرسي عالي القوائم، لا تستقر قدماك على مسند فيه، وتبقى القدمان تهومان في الهواء البارد كقدمي مشنوق !!
يالها من ليلة تلك الليلة خصوصاً حين علمنا أن ابنة أحد الوزراء الحاليين في العراق قد حوصرت معنا في هذه الرحلة ثقيلة الظل!!
كانت فتاة جميلة في العشرين من عمرها، لها ضحكة رنانة ينتبه لها جميع من في الصالة حين تضحك!! كانت قادمة من أحد البلدان الأوربية وحدها، بعد أن استوزرت الحكومة الجدبدة أباها الذي كان قبل ذلك يعيش مع عائلته خارج العراق، كما ذكرت هي في حديثها مع موظفي المطار المصريين، وكنت أتابع ذلك الحوار بفضول شديد، لأنها من العراق أولاً وأبنة وزير في الحكومة الجديدة ثانياً، ولأن البنت لا تزال أمامها سنوات لتكمل تعليمها في أحد المعاهد البريطانية كما ذكرتْ هي لموظفي المطار المصريين، فقد عاد والدها وزوجته إلى العراق ليملأ منصبه الوزاري، وبقيت هي في بريطانيا.

وقد قررتْ قبل أيام قليلة أن تعود إلى العراق وحدها لأمر ما، وكان حظها السيء أن والدها حجز لها في الدرجة السياحية في هذه الرحلة الجوية المحبطة للآمال، وما أن عرف المصريون من موظفي المطار بأن هذه المسافرة هي أبنة وزير عراقي حتى بدأ الفضول لدى كثيرين منهم للتعرف عليها والتملق لها والتحلق حولها!! معتذرين لها عن تأخر رحلتها إلى بغداد ذاكرين أن سبب تأخير الرحلة يعود إلى مطار بغداد ولا ذنب لهم!! وكانت تبتسم لهم وتجاملهم بالحديث معهم بلهجة مصرية!! فيزيد ذلك من ولعهم بالحديث معها، ومن لا يعرفها من العاملين في خدمات المطار يخبرونه همساً بأنها أبنة وزيرعراقي في الحكومة العراقية الحالية!! فيزداد الجمع حولها من المعجبين والمتأسفين للوضع الذي هي فيه!! ولم يقصر بعض العراقيين المسافرين من مجاملتها حالما عرفوا أنها أبنة وزير!! بل وأن أحدهم ممن شاب شعر رأسه، واستند في وقوفه على عكاز قمحي اللون مذهب القبضة أن يتطوع بخدمتها، معلنا للجميع أنه كان ولايزال صديق والدها!! وأنهم حالما يصلون إلى بغداد سيوصلها بنفسه إلى دارها معتبراً أن من الخطورة أن تسافر فتاة وحدها إلى العراق من دون صحبة رجل، فربما يعرضها هذا للخطف ولابتزاز أهلها، واستحى أن يقول، الاغتصاب أيضاً خصوصاً إذا علم الخاطفون أنها أبنة وزير!! فالعصابات وعيونها في كل مكان من العاصمة بغداد !! فشكرته، وضحكت ضحكتها المجلجلة، وأخبرته بخيلاء أن فصيلاً كاملاً من الحمايات ينتظرها في مطار بغداد، وكان لهذا الشيخ المنافق صديق يصحبه فلكزه في خاصرته وهمس له ” ألم أقل لك أتركها وشأنها!! فهي غير محتاجة لخدماتك !!” .كانت الفتاة جميلة حقاً، وقد أرسلت شعرها الكستنائي إلى الخلف، وارتدت بنطال جنس ممزقاً من عند الركبتين، وكانت مسرورة جداً باهتمام الجميع بها وتحلقهم حولها!! وقد زاد من سرور المصريين، أنها كانت لطيفة وتحكي لهم نكتاً مصرية بلهجتهم!! وقد تخلت كلياً عن لهجتها العراقية، وبالمناسبة أن موضوع اهتمام المسؤولين العراقيين وأبنائهم بالعرب، والأجانب وحبهم لهم أكثر من أبناء وطنهم ظاهرة مميزة!! خبرتها منذ كنت في العراق وعشت مراقباً للمسؤولين العراقيين في عهد النظام السابق، فقد كانوا يحبون أبناء شعوب الأرض كافة ويولونهم اهتمامهم ومساعدتهم إلا أبناء وطنهم من العراقيين.

فهم معهم قساة جفاة بخلاء بل لؤماء إلى أقصى ما يمكن اللؤم!! وقد عللت هذه الظاهرة مع نفسي أن العراقي يكره نفسه، ويتمنى لو كان هو ليس هو !! بل شخص آخر من أرومة أخرى !!… ولا أعرف كيف أفسرها بغير هذه العبارة غير المفهومة !! وكلما ذكرت هذا لعراقي من الأصحاب ضحك، وقال فعلاً هذا ما نشعره حيال أنفسنا، ويتساءلون كيف عرفت هذا ؟.

ولم يكن الموضوع صعباً أبداً، فمراقبة هذه الفتاة التي تدرس في بريطانيا وعاشت شطراً كبيراً من حياتها فيها خير مثال على كرهها أبناء أرومتها، واندماجها السريع مع آخرين ليسوا من أبناء وطنها !! وقد تعرفت عليهم قبل دقائق قليلة غير مهتمة على الإطلاق التعرف على أي من المسافرين من أبناء بلدها، وحتى إذا سعوا للتعرف عليها عاملتهم بتكبر وجحود، وسرعان ما تغض النظر عنهم وتشعرهم بعدم اهتمامها بهم بل وبعدم وجودهم قربها !! فيضطرون للانسحاب مذلولين خائبين نادمين على أنهم فرطوا بكرامتهم، وحاولوا التقرب من هذه المخلوقة المتكبرة لكونها عراقية مثلهم فقط !!.
أنا العراقي الوحيد الذي بقي يراقب المشهد من بعيد، لتقييم السلوك العراقي في هذه المحنة التي نمرُّ بها في غير بلدنا ولا ندري متى تنتهي !!.

أراقب سلوك أبنة الوزير التي تتميع دلالاً وأنوثة وحولها مجموعة من المصريين من موظفي المطار بينما أخذ العراقيون ينصرفون عنها، حتى ذلك الشيخ العراقي الذي وعدها بتوصيلها إلى باب دارها في بغداد خوفاً وحرصاً عليها وصوناً للعرض والشرف العراقي !!.
كانت الفتاة تنظر لمراقبتي لها، لكنها كانت تغض النظر وتعود لتبادل الكلام باللهجة المصرية مع المصريين، وسمعت أحدهم يسألها إن كانت أمها مصرية؟ لأن دمها “شربات!!” كما وصفها بلهجته المصرية، فقالت له أن أمها عراقية من أم عراقية وأب عراقي !!
وما أن ازدادت الضحكات وكثر الكلام بينهم ولهوت قليلا ً عنهم بتغطية زوجتي بمعطف الفرو بعد أن رأيتها تضع رأسها على المنضدة أمامها وتغفو، وانتبهت بعد فترة لموظفي المطار وهم يصطحبون أبنة الوزير إلى مكان ما في المطار لترتاح فيه أفضل من البقاء في الصالة المقرفة حسب تعبيرهم وسط مسافرين أفغان وأيرانيين مقرفين !!.

والحمد لله لم يذكروا العراقيين بسوء ربما احتراما لأبنة الوزير التي خلبت ألبابهم بخفة دمها ودلالها وأنوثتها وضحكاتها المرتفعة التي لاتنسى، وفيها تلك البحة الغريبة التي تذكر بأشهى صوت عند المرأة حين تستثار عاطفياً !!.
نكاتها المصرية بالفعل كانت نكاتاً جديدة مميزة لم تسمع من قبل، وبالرغم من خفة دم المصريين، وعشقهم للضحك والفرفشة وحفظهم لآخر النكات والمقالب إلا أن أبنة الوزير تغلبت عليهم جميعاً، وأتتْ بما لم يسمعوه من قبل!! وبالرغم من أن النكات حداثية وسريعة الوقع، وتعتمد على المفارقة اللغوية، وقد سمعتها تقول عن ممثل مصري وقد صار صاحب كرش عظيم، وقد مثل في أحد الأفلام دور الطباخ للرئيس حسني مبارك، وقد ذكرت عنه قوله أنه “يعيش أثخن فترة في حياته!!” وتعالت بعدها ضحكات الحاضرين!!.

“أنا أعيش دلوقت أثخن أيام حياتي!!” ليست نكتة فقط أنها تقرير عن حياة كاملة !! من هذا الممثل الكوميدي المصري الشهير!!
مضتْ الساعات ثقيلة بطيئة خصوصاً مع البرد وانقطاع الإنترنت في المطار، وبذلك توقف اتصالنا مع أولادنا ولم يعودوا يعرفون أين نحن، ولماذا تأخرنا من الوصول إلى بغداد؟!! وأسوأ الظن أنهم سيعتقدون أن الطائرة التي تقلنا إلى بغداد هوت ساقطة في الصحراء !! فحوادث الطيران أكثر من حوادث الطرق على الأرض بعشر مرات !!.
من يتصور أن يغلق مطار بغداد ويتم منع الطائرات إلى العراق من الهبوط في هذا المطار الدولي ؟!! كل الاحتمالات واردة إلا هذا الاحتمال !!.

قبيل الفجر بقليل جاء أثنان من موظفي المطار يدفعان عربة طعام الإفطار وأخذوا يوزعون على المسافرين حافظات صغيرة فيها سندويجات الجبن وشرائح اللحم المدخن، وقطع البسكوت المحلاة، وكان ينقص الوجبة فنجان قهوة مملوء وبخار يتصاعد منه !!….
كنت بأمس الحاجة إلى فنجان قهوة أو كأس شاي بدلاً من كل هذا الطعام، فيمكننا في الصباح الباكر ان نصبر على الطعام، لكننا لا نستطيع الصبر على السائل السحري الساخن القهوة أو الشاي الأحمر !! ولكن لا هذا ولا ذاك حصلنا عليه مع وجبة الإفطار للأسف!!.

كانت عبوات الماء البلاستيكية هي البديل، وبعد الإفطار بنصف ساعة جاء أحد موظفي المطار بالأخبار السارة وأعلن أن على المسافرين المتوجهين إلى بغداد أن يتوجهوا إلى البوابة تاء، وكان هذا الخبر قد بدا لنا، وكأنه خبر عن فوزنا بالجائزة الأولى في اليانصيب الدولي!!.

وكانت قبل هذا زوجتي تلومني لأنني قطعت التذاكر إلى القاهرة وليس إلى اسطنبول، وبالرغم من توضيحي لها أن ليس المشكلة في مطار القاهرة بل في مطار بغداد إلا أنها كانت تصمت وتعود مرة ثانية إلى لومي ظناً منها أني اخترت الخطوط الجوية التي هي أقل ثمناً، من تلك الذاهبة إلى العراق عن طريق تركيا ووضحت لها من جديد أن الرحلتين متقاربتان في سعريهما، لكنها لا تقتنع، معتقدة أنني بخيل، ولا أريد أن أنفق المزيد من المال من أجل راحتهم!! فتركتها تقول ما يروق لها من اتهامات لي بالضبط، كما تفعل الديمقراطيات في البلدان المتخلفة: “أن نتكلم بالذي يعجبنا قوله والحاكمون يفعلون ما يعجبهم ويحمي مصالحهم !! ”
ازدحم الركاب عند البوابة تاء وبدأ التفتيش الذي يبدأ عادة بخلع الأحذية والأحزمة ووضع كل الأشياء على الحزام الناقل ولا يكتف الموظفون الأمنيون بذلك بل بعد الحزام الناقل ورؤية محتويات الحقائب والأشياء الأخرى عبر الكاشف الليزري يطلبون من المسافرين فتح الحقائب للتأكد مما فيها!! وقد أجري التفتيش في مطار القاهرة عدة مرات من قبل، وكنا بسبب السهر والأعياء نكاد أن نسقط مغشياً علينا، لكننا كنا نتحامل، لكي يتم كل شيء، ونستقل الطائرة لكي نضع رؤوسنا إلى المساند ونغط بنوم ثقيل لتعويض ما فاتنا من نوم !!.

يتبع

 

مشاركة
2

العراق      |      المصدر: الزمان    (منذ: 1 أشهر | 2 قراءة)
.