×

رجال من وطني: محمد يونس السبعاوي (1)

رجال من وطني: محمد يونس السبعاوي (1) | Azzaman

رجال من وطني: محمد يونس السبعاوي (1)

رجال من وطني. محمد يونس السبعاوي  “١٩١٠ – ١٩٤٣”

ا . د عدنان البك

الحلقة الأولى:

ابتدأ (السبعاوي) نشاطه السياسي في وقت مبكر من عمره٬ وانتهى به في وقت مبكر كذلك٬ فكان عمره يناهز الثانية والثلاثين عاما حين جرى إعدامه٬ وهكذا طويت صفحة (السبعاوي) السياسية٬ بعد أن اختارها بنفسه أن تكون مليئة بالبطولة والشجاعة والاستعداد للتضحية٬ كما كان يتمناها٬ وغدا كأنه قد اقتفى أثر ما كان يتمنى لنفسه أن يكون له موضعا بين المشاهير. فيذكر الدكتور عبد الجبار الجومرد في مذكراته الشخصية المخطوطة ص١١٣ ٬ أنه اصطحب (السبعاوي) عندما زار باريس عام ١٩٣٧ في جولة لمشاهدة معالم باريس الاثارية والحضارية ومنها – البانتيون – المدفن الخاص بمشاهير “عظماء” فرنسا. وهناك اقترح الجومرد عليه خلال الزيارة أن يكتب اسمه على حجارة أحد القبور كما يفعل أغلب السواح تخليداً للزيارة٬ فما كان من السبعاوي إلا أن رفض هذا الاقتراح قائلاً: (أنا لا أخط اسمي في هذا المكان وإنما همي أن أرقى سلم العظمى فأكون عظيما بحيث يشيد لي (بانتيون) يخط الناس أسماءهم على حجارته). بل أضحى مثلاً يحتذى من أجل التحرر والاستقلال٬ فقد جاءت تصوراته السياسية متفاوتة بين الدعوة الى الكفاح المسلح والنضال السلمي في سبيل تحقيق أفكاره الوطنية والقومية٬ لأنها اقترنت له بكره شديد لكل شكل من أشكال الاستعمار٬ وكان مخلصاً في علاقاته وصحبته وبعيداً عن استغلال النفوذ السياسي لمآرب ذاتية٬ كما امتزجت في شخصيته الشجاعة والمغامرة والجرأة والصراحة المتناهية. وعلى ما يظهر من خلال دراسته انه كان يعتقد في ان المبادئ الوطنية التي آمن بها وعمل من أجلها لابد أن تقترن بالتضحية والعقل السياسي الشجاع الى الحد الذي غدا فيه الموت لديه وسيلة اعتيادية في سبيل تحقيقها حتى ساعة إعدامه.


ومن أجل يطلع القارئ الكريم عن سيرة أحد أبناء مدينة الموصل٬ سنعرض بشكل مركز سيرته ثم موقفه في المحكمة والتي توجت قرارها بتنفيذ حكم الإعدام بحقه في ٥ أيار ١٩٤٢.

– حياتـــه:

هو محمد يونس عبد الله السبعاوي ولد بالموصل في ٢٤ آذار ١٩١٠ في محلة عبدوخوب وهي من محلات الموصل القديمة تقع في القسم الشمالي الشرقي من الموصل قرب شارع الفاروق حالياً.

كان والده رجلاً امياً كبير السن يعمل بائعاً للخضروات في مدخل سوق الخشابين الذي يقع في منطقة الميدان قرب الجسر (الحديدي) نينوى حالياً. عمل السبعاوي منذ الصغر من أجل لقمة العيش فأخذ يساعد أبه في حانوته. وقد حرصت والدته على العناية به٬ وتنشئة ابنها الوحيد نشأة قائمة على الاخلاق الفاضلة والدين الحنيف خاصة وإنها شديدة التدين وحافظة للقرآن الكريم فضلاً عن كونها عارفةً بطب العرب٬ فأخذت ومنذ وقت مبكر تعلم ولدها القرآن الكريم ومبادئ الدين الإسلامي الحنيف وساعدها في ذلك أخوها ياسين السبعاوي فحبب لديه الآداب والعلم والثقافة٬ وقد تركت هذه التربية بصمات واضحة على فكر السبعاوي وشخصيته٬ لا سيما بعدما لمس فيه خاله من نباهة وذكاء واستعداده للتعلم.

كانت مظاهر البؤس والمجاعة التي شهدتها الموصل في أواخر الحرب العالمية الأولى من أول ما واجهه في حياته٬ الى جانب رؤيته للقوات البريطانية وهي تحتل بلدته الموصل بعد انسحاب الجيش العثماني منها أثر هزيمته في تلك الحرب: كما ان الاحتلال البريطاني للعراق مع نكث بريطانيا لوعودها إزاء العرب٬ وما رافق ذلك من ردود فعل ومقاومة وطنية أبرزها ثورة العشرين (١٩٢٠) الوطنية التي تصدت بقوة السلاح لهذا لاحتلال البغيض٬ ربما كان له ابلغ الأثر في ايقاذ الجذوة الأولى للمشاعر الوطنية والقومية لدى السبعاوي.

انضم السبعاوي في مطلع دراسته الى (الكتاب) أو ما يعرف لدى العامة بــ (الملا) وأمضى فيها سنتين تلقى خلالهما مبادئ القراءة والكتابة والعلوم الدينية والحساب. ومع بداية العام الدراسي (١٩٢٣ – ١٩٢٤) دخل السبعاوي المدرسة القحطانية التي كانت قد افتتحت في محلة جمشيد قرب قهوة السويدية القريبة من المحلة التي يسكنها السبعاوي. وبعد اختبار اجري له فيها وضع في الصف الرابع الابتدائي من قبل عبد العزيز خليل (مدير المدرسة) وأساتذتها (يحيى الشيخ عبد الواحد المعروف بــ (يحيى ق) وعبد الرحمن الصالح ومحي الدين أبو الخطاب وتوفيق الدباغ وسعيد الصفار٬ الذي لفت انتباهه لذكائه٬ فقروا أن يكون في الصف الرابع مباشرة. ولضعف بنيته ونعومته فقد أبدى طلاب صفه (الرابع) وكان من أبرزهم أحمد النيلة وسعيد الديودجي وحازم المفتي وعبد الجبار الجومرد وإبراهيم المفتي الستغرابهم من دخوله صفهم٬ ويروي لي أحمد النيلة (رحمه الله) في لقائي معه بداره في حي القادسية بالموصل في ٢١/أيلول/١٩٨٨ أنه سئل الأستاذ عبد الرحمن الصالح (معلم التاريخ) فقال لهم من يحفظ منكم (الكامل في التاريخ) لابن الاثير٬ فيقول اسقط بيدنا ولم نعترض بعدها.

أكمل دراسته الابتدائية خلال سنتين وتخرج في أول امتحان عام للدراسة الابتدائية (الوزاري) يجري في العراق للعام الدراسي ١٩٢٤ – ١٩٢٥ ٬ أحرز المرتبة الأولى على جميع طلبة العراق والبالغ عددهم وقتئذ (٤٣٥) طالباً.

انضم (السبعاوي) عام ١٩٢٥ الى المدرسة الثانوية ومع بداية دخوله دخلت مشكلة الموصل الذروة لاسيما أثناء قدوم لجنة التحقيق الدولية التي أرسلتها عصبة الأمم الى المدينة أوائل كانون الثاني ١٩٢٥ التي ألهبت الحماسة الوطنية في صفوف أبناء الموصل٬ وهنا شارك السبعاوي أقرانه الطلبة في اعداد التظاهرات الطلابية وتنظيمها وقد كانت تجوب الطرقات تنادي بعروبة الموصل.

تميز السبعاوي بين اقرانه بثقافته الواسعة٬ وظهر ذلك من خلال مطالعاته لكتب التاريخ والسير والكتب الثقافية والعلمية الأخرى٬ حيث كان يحصل عليها من خلال تردده على مكتبة أحمد الجليلي (رئيس الحزب الوطني العراقي) الذي تأسس عام ١٩٢٥ بالموصل٬ حيث كان من أهدافه الدفاع عن عروبة الموصل واستقلال العراق٬ وكذلك مكتبتي الدكتور داؤد الجلبي والمدرسة. كما انتمى الى (جمعية النهضة المدرسية) التي أسسها الطلاب علي حيدر سليمان وذو النون أيوب وعبد العزيز القصاب ونخبة من زملائهم عام ١٩٢٥٬ وبإشراف ودعم استاذهم أنيس زكريا النصولي. وكانت تهدف الى توسيع الأنشطة الثقافية والرياضية والفنية بين صفوف الطلبة٬ وعملت هذه الجمعية على انشاء المكتبة وردفها بالكتب٬ كما كان لها نشاطها السياسي وخاصة في أثناء (مشكلة الموصل).

زار الموصل عام ١٩٢٧ وفد المجاهدين برئاسة الزعيم السوري المعروف (عبد الرحمن الشابندر) بهدف جمع التبرعات للثوار السوريين٬ خصتهم المدرسة الثانوية باحتفال كبير٬ وحينها انيط بالسبعاوي مهمة القاء كلمة الترحيب بالحاضرين الخاصة بهذه المناسبة٬ وقد كان لكلمته وقع مؤثراً أثارت حماسة الحاضرين. كما كلف زميله عبد الجبار الجومرد القاء قصيدة بالمناسبة٬ وبهذا تحول الاحتفال الى مهرجان قومي حافل.

ومن نشاطات السبعاوي قيامه في كانون الثاني ١٩٢٨ بالتعاون مع نخبة من زملائه ومنهم جميل بكر الخياط ومجيد خدوري وعبد الجبار الجومرد٬ وبإشراف وتشجيع أساتذتهم محي الدين يوسف ورياض رفائيل ودرويش المقدادي٬ بإصدار نشرة مدرسية بعنوان (مجلة اللجنة)٬ كتب فيها السبعاوي المقال الافتتاحي للنشرة والمعنون (استقلالنا الذاتي) دعا فيه الشباب الى التحلي بالأخلاق الفاضلة والتسلح بسلاح العلم٬ لتحقيق استقلاله الذاتي عن مسيرة آبائهم وما اختطوه لهم من مسار لحياتهم.

كما نبه (السبعاوي) وقتئذ الى الدور الذي يمكن أن يضطلع به الشباب وبخاصة الطلبة في المجالين الوطني والقومي٬ اذ ما توافرت لهم القيادة والتوجيه السديدان. ففي مقالة المعنون: (كيف يخدمون بلادهم؟) يقول فيه٬ (ان وراء هذه الأجساد الصغيرة التي تتردد على المدارس قوى كامنة إذا قيض لها من يستطيع ادارتها وتسييرها الى الطريق المستقيم٬ كانت أداة خير للبلاد وركناً قوياً من أركان نهضتها).

عام ١٩٢٨ توفى والد محمد يونس السبعاوي٬ أثرها عقد العزم على السفر الى بغداد لإكمال دراسته هناك٬ وأرجح ان طموحه السياسي قد دفعه الى بغداد لدخول معترك الحياة السياسية فيها مستفيداً من الجو السياسي الموجود٬ وما توفر من فرص اللقاء بالسياسيين والوطنيين المتمركزين فيها٬ ثم يأتي البحث عن عمل يوفر له مورداً مالياً ينفق منه على نفسه واسرته.

واظب (السبعاوي) في المدرسة الثانوية (الإعدادية المركزية) في بغداد٬ وكانت آنذاك معقل الحماس الوطني والقومي في بغداد٬ وقد تعاقب على ادارتها أساتذة من أمثال هاشم الألوسي وطالب مشتاق ممن عرفوا بمواقفهم الوطنية والقومية.

أعلن عن وجود وظائف شاغرة بعنوان (معلم) خارج بغداد٬ وجد السبعاوي فرصة فيها٬ فتقدم بالطلب وأعلن استعداده للسفر الى عانة وتسلم الوظيفة٬ وفي الوقت نفسه أبقى على دراسته من خلال أداء امتحان خارجي ليحصل على الشهادة الثانوية. وبالفعل صدر أمر تعيينه في ٣١ تشرين الثاني ١٩٢٨ في مدرسة عانة براتب قدره (١٤٥) روبية٬ وبعد التحاقه سكن في خان صغير وسط البلدة.

أخذ السبعاوي يعمل على عقد جلسات خاصة يعقدها لطلابه ويلقي خلالها عليهم موضوعات تنمي وعيهم الوطني والقومي٬ وقضى أوقات فراغه كذلك في المطالعة وتعلم اللغة الفرنسية على يد طبيب سوري٬ فضلاً عن كتابة الشعر٬ ثم مذاكراته للدروس. وعندما حل موعد الامتحان قدم السبعاوي استقالته من التعليم في ٣ آب ١٩٢٩ ٬ وقبلت في الأول من أيلول ١٩٢٩٬ بعدها غادر عانة متوجها الى بغداد حيث أكمل الامتحان العام (الوزاري) بتفوق٬ رشحته لبعثه خارج العراق٬ الا ان ظروفه العائلية حالت دون ذلك.

مع ابتداء العام الدراسي ١٩٢٩ – ١٩٣٠ دخل السبعاوي (كلية الحقوق) بعد ان أمن موارده المالية من خلال عمله في الصحافة٬ لاسيما صحيفتي البلاد والعالم العربي. ويذكر ذو النون أيوب في مذكراته المنشورة بعنوان (قصة حياته بقلمه)٬ القسم الثالث٬ ص١٩ – ٢٠ ٬ انه دخل في حوار مع السبعاوي حول أسباب تفضيله لـ (كلية الحقوق) على غيرها من الكليات٬ فأجابه: “بأنه فضل ذلك لما توفره هذه الكلية من إمكانيات الاطلاع والتأثير على الإنسانية التي تحتاج الى من يدير شؤونها إدارة صحيحة ويخلص البلاد من الاستعمار وتحقيق الاستقلال٬ لأن العالم ضائع بدون سياسة صالحة…”.

وخلال هذه الفترة عرف الجمهور (السبعاوي) أول مرةً شاعراً يمجد المواقف البطولية من خلال قصيدته المعنونة (اللعب بالنار) والتي رثا فيها عبد المحسن السعدون (رئيس وزراء العراق) بعد انتحاره في ١٣ تشرين الثاني ١٩٢٩ ٬ وحرض فيها على الثأر من الإنكليز معتقداً أنهم كانوا بأساليبهم وألاعيبهم قد دفعوا السعدون الى الانتحار٬ ومما جاء في مطلع القصيدة التي يسجل فيها شجاعة السعدون:

الموت جل جلال الموت قد عظمت أثـاره وأخـاف النـاـس نـاعيـه
الموت جـل جلال الموت قد شـملت روعاته القطر قاصـيه ودانـية
ما أحسن المـوت من عـهــد تحـققه وأحسن الموت عن قطر تفاديه

ويختتم السبعاوي قصيدته٬ مطالباً بالثأر والثورة على الإنكليز المحتلين وطردهم من البلاد بقوله:

إني رأيت صـروح الوضع واهيـة بعين من خدمة الأوطان تعنيه
يا قوم لا تنثروا هذي الدموع على من مات فالدمع من أدنى مراثيه
خيـر الرثاء إذا صحـت عزيمتـكم الثــأر مـمــن مـاتـت عــواديــه
وإن بقيتـم فسحوا الدمـع وانتحبـوا ويـرحم الله مـن خابت أمـانيــه

في هذه الفترة انغمر (السبعاوي) في العمل السياسي لا سيما عن طريق عمله الصحفي فضلاً عن مشاركته في التصدي لمعاهدة ١٩٣٠ بين العراق وبريطانيا – كما سنرى – يتبع

 

 

 

 

 

مشاركة
2

العراق      |      المصدر: الزمان    (منذ: 11 أشهر | 2 قراءة)
.