الشيخ ياسر السيد مدين يكتب.. كيف وصلتنا السُّنة؟ (3)

كان من المنتظر أن نبدأ فى عرض بيان كيفية انتقال السنَّة إلينا منذ عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رأيت قبل البدء فى هذا أن أعرض شيئاً من تطور أمر التدوين منذ العهد النبوى الشريف تمهيداً للحديث عن السنَّة المطهرة.

ومعروف أن القرآن الكريم بدأت كتابته فى العهد النبوى بما يُؤمَن معه ما قد يعرض للمكتوبات من محو أو تآكل أو تأثّر، مع حفظه فى موضع خاصٍّ، وقد كان هذا بإشارة من الوحى الكريم الذى نزل واصفاً القرآن الكريم بأنه كتاب وبأنه صحف من باب المجاز باعتبار ما سيكون إشارةً إلى ضرورةِ أن يصير كذلك بأيدى المسلمين، قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، وقال سبحانه: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً}.

وقد كان الصحابة يدونون ما ينزل لأنفسهم، وفى قصة إسلام سيدنا عمر رضى الله عنه أنه آيات مدونة فى صحيفة مع أخته رضى الله عنها، وكانت الكتابة تتم عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيدُنا ابن عباس رضى الله عنهما: كانت المصاحف لا تُباع، كان الرجل يأتى بورقة عند النبى صلى الله عليه وسلم فيقوم الرجل فيحتسب فيكتب، ثم يقوم آخر فيكتب حتى يفرغ من المصحف.

وقد زاد الاهتمام بالعلم والتدوين فى عهده صلى الله عليه وسلم، وقد رُوى عن عدد من الصحابة عبارة «قيدوا العلم بالكتاب»، وبعضهم يرويها عنه صلى الله عليه وسلم، بل قال سيدنا أنس رضى الله عنه: كُنّا لا نَعدُّ عِلمَ من لم يكتب عِلمَه علماً، وهذه العبارة واضحة الدلالة فى اعتناء الصحابة بتدوين العلم، ولذا نجد الاعتناء بإنشاء كتاتيب للعلم، يقول سيدنا عبدالله بن مسعود رضى الله عنه: «قرأتُ من فِى [فم] رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت له ذؤابة فى الكُتَّاب»، كما أنه صلى الله عليه وسلم اهتم بتعليم الكبار أيضاً، يقول سيدنا عبادة بن الصامت رضى الله عنه: علّمتُ ناساً من أهل الصُّفّة الكتابةَ والقرآن.

وبدأ فى عصره صلى الله عليه وسلم الصورة الأولى للديوان بفروعه المختلفة، فهناك ديوان خاص بالجنود، وفى صحيح البخارى أن رجلاً جاء يستأذنه صلى الله عليه وسلم فى أنْ يُرافقَ زوجتَه فى الحجَّ بعد أن تم تسجيل اسمه فى جيش سيخرج، وهذا واضح الدلالة فى وضع نظام دقيق لتسجيل الجند.

كما كان هناك كُتَّابٌ لمراسلات الملوك، وقد أَرسَى صلى الله عليه وسلم برسائله آداباً صارت معروفة متبعة فى المراسلات من حيث ما تُصدّرُ به الرسالة، وفى البدءِ بذكْرِ المرسَل إليهِ أو المرسِل، وفى طريقةِ الانتقالِ من موضوعٍ لآخر، وفى ختم الرسالة، وغير هذا.

وقد كان له صلى الله عليه وسلم عدد من الكُتّاب المتخصصين، فمنهم من يكتب للملوك، ومنهم من يكتب المعاهدات، ومنهم من يكتب المداينات والعقود، ومنهم من يكتب الغنائم، ومنهم من يكتب فى الحوائج العامة، ومنهم مَن ينوبُ عمَّن غاب عن عمله من الكُتّاب.

كما كان فيهم من تخصص فى الترجمة.

وبدأ فى عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جمع العلم والأدب فقد كتبَ سيدُنا عمر رضى الله عنه إلى المغيرة بن شعبة وهو عامله على الكوفة أنِ ادعُ مَن قِبَلك من الشعراء، فاستنشدهم ما قالوا من الشعر فى الجاهلية والإسلام، ثم اكتبْ بذلك إلىَّ.

بل كان لبعض الصحابة مصنفات، يقول موسى بن عقبة: وَضعَ عندنا كُريْب حِملَ بعيرٍ مِن كُتبِ ابنِ عبّاس، وسوف نذكر شيئاً من هذا فى المقال القادم إن شاء الله تعالى.

وكذلك انتشر التصنيف فيمن بعدهم فكان لعبيدة السلمانى (ت 72هـ) كتبٌ محاها قبل موته وقال: «أخشى أن يليَها قوم يضعونها غير موضعها»، وكتب عروة بن الزبير (ت 93 هـ) فى سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان له كتب كثيرة أبيدت فى وقعة الحَرَّة وكان يتحسر على ذلك، وكذلك كتب أبان بن عثمان بن عفان (ت 105هـ) كتاباً فى السيرة النبويّة، وكان للحسن البصرى (ت 110هـ) كتب يتعهد النظر فيها، وكان لزيد بن أسلم (ت 136 هـ) كتاب فى التفسير، بل كانوا يرون أن من شرط العالم كتابة العلم، يقول معاوية بن قرة (ت 113 هـ): «من لم يكتب العلم فلا تعدوه عالماً»، بل كثر التدوين والتصنيف حتى إن أبا عمرو بن العلاء (ت 154هـ) -وهو أحد القراء السبعة وأحد أئمة اللغة والأدب- كتب عن العرب الفصحاء كتباً ملأت بيتاً له إلى قريبٍ من السقف.

مصر      |      المصدر: الوطن نيوز    (منذ: 2 أسابيع | 3 قراءة)
.