صباح اليوم التالي لحفل تتويج رواية “قناع بلون السماء” للأديب الفلسطيني باسم خندقجي، الأسير في السجون الإسرائيلية منذ ما يزيد عن عشرين سنة، تلتقي لجنة التحكيم لأول مرة بمجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية للإنصات لدواعي تتويج هذا العمل الأدبي بأبرز جوائز الرواية في العالم العربي؛ في تقليد يروم “احترام استقلالية لجنة الاختيار بعدم مناقشتها قبل حفل التتويج”، وفق ما استقته هسبريس.
حفل الدورة السابعة عشرة من “الجائزة العالمية للرواية العربية” بالعاصمة الإماراتية أبوظبي كان ذا طعم خاص في سنة 2024 الراهنة؛ الحرب الإسرائيلية على غزة مستمرة، والروائي المتوج فلسطيني قابع في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ شبابه الأول، ولا سبيل لمناقشة العمل الأدبي مع صاحبه؛ فالحاضر الأكبرُ غيابه، وهو ما تكررت معانيه في أحاديث صحافيين، وأعضاء من مجلس أمناء الجائزة، ولجنة تحكيمها أيضا.
في الندوة الصحافية للدورة السابعة عشرة من الجائزة التي عرفها القراء باسم غير معتمد رسميا “بوكر العربية”، حضر لدى لجنة التحكيم، وناشرة الرواية، ومجلس الأمناء؛ تخوف على وضع باسم خندقجي داخل سجنه الإسرائيلي، فهو المحكوم بثلاثة مؤبدات، على خلفية اتهام إسرائيل له بالمشاركة في “عملية سوق الكرمل”، أمضى منها إلى اليوم 21 سنة، من سنوات عيش لا تزيد عن الأربعين إلا بشهور.
في هذا الإطار، قال ياسر سليمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية، بالندوة الصحافية التي أعقبت حفل التتويج: “أي شيء يقال هنا قد يحسب على باسم. لذلك، نمتنع عن الإفصاح عن أمور. هو في الأسر، ولا نريد أن نعقد من الوضع القائم”.
وفي تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية كان ليوسف خندقجي، الوكيل الأدبي لأخيه الروائي الأسير، الرأي نفسه: “كيف خرجت الرواية؟ يبقى هذا وضعا حساسا (…) بالنسبة لباسم. وألف مبروك له، ولجميع كتّابنا الأعزاء من الوطن العربي الذين فازوا بمحبة الناس، فوصولهم إلى القائمة القصيرة في حد ذاته فوز”.
وتابع: “باسم يُهدي هذا الإنجاز والجائزة إلى شعبنا الفلسطيني في غزة، والرواية فازت أولا بمحبة الناس والقراء (…) وهذه روايته السادسة بعد دواوين شعرية، ومقالات نقدية وفكرية تتحدث عن الكولونيالي المستعمر والكولونيالي الآخر المستعمر، ونتمنى أن يكون بيننا في القريب العاجل، ليتحدث عن هذه الرواية وطريقة إخراجها، وطريقة كتابتها”.
وقرّب شقيق الروائي الأسير القراء من بعض مسار باسم خندقجي، قائلا لهسبريس: “العائلة تمتلك أقدم مكتبة بفلسطين ‘المكتبة الشعبية’، وبدأت قراءاته منذ أيام دراسته بالمدارس الابتدائية إلى غاية دخوله الجامعة، وإلى غاية اعتقاله عام 2004، في هذه اللحظة بدأت رحلته الأدبية تكبر؛ إلى أن أنتج ديوانيْ شعر، وست روايات آخرها رواية “قناع بلون السماء”، وهي مشروع أقدم على كتابته قبل أربع سنوات، مشروعٌ متعب قليلا، وجزء من ثلاثية تحمل اسم “ثلاثية المرايا””.
هذا المشروع الأدبي الذي تطبعه دار الآداب ببيروت، يضم ثلاثة عناوين بدأ صدورها سنة 2020، وهي: “قناع بلون السماء” و”سادن المحرقة”، و”شياطين مريم الجليلية” التي لا تزال في طور الكتابة.
لكن، في ظل الظرفية الراهنة التي تعرفها فلسطين المحتلة عامة وغزة خاصة، التي لا تزال تقصف إسرائيليا، لا يمكن تجنب سؤال: هل كان التتويج النهائي وانتخاب رواية باسم خندقجي من القائمة القصيرة للجائزة مبادرة تضامنية أكثر منها أدبية؟
الناشرة رنا إدريس، مديرة دار الآداب البيروتية، ذكرت أن الرواية “وصلت إلى لجنة القراءة مجهولة، حتى يكون الحكم بشكل مجرد على مخطوط بدون اسم رواية ولا كاتبها”. أما جواب لجنة التحكيم فكان بالإجماع: “لا”.
رغم أن تتويج “قناع بلون السماء” قد تم بإجماع لجنة تحكيم ضمت أدباء وصحافيين وأكاديميين من سوريا والسودان وفلسطين والتشيك ومصر، فإن الهاجس الأدبي كان هو البوصلة؛ فوصف الأكاديمي التشيكي فرانتيشيك أوندراش العمل الأدبي الفائز بالجائزة بـ”العمل العظيم”، موردا: “كنا نتعامل مع كل الروايات بأخلاقيات ومبادئ ومنطلقات لجنة التحكيم؛ نفكر في كيف نقدم للقارئ العربي عملا ممتعا؟”.
بدورها، قالت سونيا نمر، عضو لجنة التحكيم، في الندوة الصحافية للجائزة: “قرأنا كل رواية من روايات القائمة القصيرة ثلاث أو أربع مرات، وتخوفتُ من اختيار اللجنة هذه الرواية تعاطفا، وأنا فلسطينية وقلتُ لهم إن كان هذا سبب الاختيار فلن أقبل؛ لكن كلما قرأتها وجدت فيها طبقة مختلفة، وكأني عالمة آثار تكتشف كل مرة شيئا جديدا، والرواية فرضت نفسها علينا”.
ثم أردفت قائلة: “هي سردية مقابل سردية بنيت عليها كذبة دولة، صدقها العالم وكأنها حقيقة… يذبح الناس ويقول أدافع عن نفسي؛ وبلعها العالم!؟ رواية باسم أعطت الجميع السردية الحقيقية (…) ويريد فيها استرداد مريم المجدلية، وإرجاع التاريخ إلى أهله، ووضع الأحجار في مكانها الصحيح”.
في كرسي آخر من كراسي الندوة الصحافية، قعد روائي فلسطيني، هو أسامة العيسة الذي كانت روايته “سماء القدس السابعة” مرشحة بدورها في القائمة القصيرة للدورة السابعة عشرة، ولم يرقه التحليل المذكور.
هذا الأديب سبق أن انتقد “الاحتلال الذي لا تستطيع عقليته استيعاب أن أسيرا معتقلا منذ نحو عقدين يمكن أن يكون كاتبا بارزا وينجح في إيصال صوته”، في تعليق على آراء إسرائيلية واكبت إعلان القائمة القصيرة وهي تضم أحدث أعمال خندقجي الأدبية، وأدرج “التحريضات” على الأديب الأسير ضمن “محاربة الإنتاج الثقافي الفلسطيني”.
لكن أسامة العيسة لا يعتقد بصفاء مطلق فلسطيني وعربي، مقابل تزوير الطرف الآخر؛ وكان تدخله في الندوة الصحافية: “نحن الكتّاب الفلسطينيين نعاني من مثل هذه الآراء؛ الكل يكذب ويزور الجانب الفلسطيني أو الإسرائيلي، وما قدمه باسم ليس سردية الجماعة الوطنية، هناك أحزاب سياسية تقدم سرديات، وفي حياته الشخصية حمل السلاح وقاوم (…) الهوية الفلسطينية ديناميكية متطورة، وكل فلسطيني له ايديولوجيته وجانبه الوثني واليهودي والمسلم… والفلسطينيون غيروا ديانتهم ثلاث أو أربع مرات ولما دخلوا في الدين الجديد دخلوه بشروطهم، وهو ما نراه في الأعياد الفلسطينية الوثنية والإسلامية واليهودية والمسيحية”.
ثم انتصر للكاتب الفردي في باسم، قائلا: “نعتز به ككاتب، وليس شرطا أن يرد على أكاذيب الإسرائيليين، ويقدم سردية الجماعة الوطنية، ولنا أيضا أكاذيبنا العربية وكل جماعة بشرية تخترع”.
ومن الرؤى المعبر عنها في الندوة الصحافية قول ياسر سليمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية، إن الروائي باسم خندقجي سعى إلى استعادة الإرث المسيحي الفلسطيني من قراءات أوروبية مثل ما كتبه دان براون حول مريم المجدلية.
ثم استرسل المتدخل قائلا: “بل وقبل قدوم الحركة الصهيونية؛ الإرث اليهودي كان إرثا فلسطينيا، وعلينا استعادة هذا؛ فسفر التكوين وثيقة أنثروبولوجية تحكي المجتمع الفلسطيني (…) والقضية الفلسطينية قضية أخلاق وإنسان، وتتجاوز نفسها”، وما أراد أن يقوله لنا باسم: “هذا إرث فلسطيني، إرثنا”.
وما دام الكاتب في سجنه، أجرت القضبان لسانه ولو لم تسطع حبس القلم، يبقى للقارئ حق التأويل. وخشية تقول الاقتباس الأدبي الذي يُصير رد شخصية في سيرورة حكي موقفا، ولعبة أقنعة تروم الفهم جوهرا ثابتا، لا يبقى لشاهد اللحظة إلا نقل أبيات من جدارية الشاعر محمود درويش، ارتضاها الأديب باسم خندقجي عتبة لروايته:
“غنيت كي أزن المدى المهدور
في وجع الحمامة
لا لأشرح ما يقول الله للإنسان
لستُ أنا النبي لأدّعي وحيا
وأعلنُ أن هاويتي صعود”.
رواية مؤثرة جدا تفيض بالمشاعر المختلطة. أتمنى أن تصبح يوما ما فيلما يعرض في قاعات السينما.