×

كتاب الزمان ( قَضيّةُ تّقَاعُد -الحلقة الثامنة): بطالة مقنعة تحول العراق الى دولة وظيفية عاطلة

كتاب الزمان ( قَضيّةُ تّقَاعُد -الحلقة الثامنة): بطالة مقنعة تحول العراق الى دولة وظيفية عاطلة | Azzaman

كتاب الزمان ( قَضيّةُ تّقَاعُد -الحلقة الثامنة): بطالة مقنعة تحول العراق الى دولة وظيفية عاطلة

 

لندن – الزمان
تنشر صحيفة (الزمان) سلسلة من حلقات كتاب جديد بعنوان “قضية تقاعد”، من تأليف الكاتب والأديب والإعلامي العراقي فيصل عبدالحسن، أهداه إلى رئيس مجموعة الاعلام العراقي المستقل، سعد البزاز.

تتناول حلقات الكتاب الوقائع المريرة لمغترب زار بغداد، وعاد بعدها أكثر اغترابًا، حيث يروي فيها تفاصيل رحلته وتجربته الشخصية في طريق اجراء معاملة تقاعد عادية، مسلطا الضوء على الأخطبوط السري الذي يحرك لعبة الفساد المتجذرة وكيف مسخت شخصية رجل الخدمة العامة ، كما يتحدث جوانب مختلفة من الحياة والتحولات التي شهدها العراق.

تعد هذه السلسلة من الحلقات مدخلاً مثيرًا للاطلاع على واقع المجتمع العراقي الذي نخرت في كيانه سوسة الاحزاب والفساد ،وملمحًا لأحداث وتجارب يومية حقيقية، مثيرة للاهتمام والتأمل.

إطلاق كِتاب “قضية تقاعد” يعزز تعاونًا جديدًا بين صحيفة الزمان وأصحاب القلم من إعلاميين وكتاب إصحاب الرؤية الكاشفة ،ويعد خطوة مهمة نحو إثراء المحتوى الإعلامي البناء وسط الانهيارات التي يشهدها الإعلام المسيس لاسيما في الوسط الرقمي.

قَضيّةُ تّقَاعُد – فيصل عبد الحسن

الجزء الثامن

كان من المفروض أن أخذ حمّاماً صباحياً منذ يومين لكنني لم أفعل ذلك بسبب البرد الشديد، والسماء كانت ممطرة، واليوم حدث لي ما كنت أخشاه، وأنا في المغرب عند عزمي على السفر إلى العراق، التسمّم الغذائي!! وقد أصبت به صباح اليوم بعد أن فطرنا على خبز السيّاح العراقي (يصنع من دقيق الرز) مع القيمر العراقي (القشطة) ويبدو أننا بسبب حرماننا من هكذا خبز شعبي عراقي في المغرب أكلتُ منه أكثر من قرص مع البيض المقلي والفول المدمس، فأصبت بعد الفطور بألام في المعدة ثم أخذ يشتد الألم كلما مرّ الوقت، ولكن هذه الآلام لم تمنعني من تنفيذ وعدنا لأبنة عم زوجتي بزيارتها، وتناول وجبة الغداء عندهم.

لم أذق طعام الغداء بسبب الأم معدتي مع المدعوين زوجتي وأبني وأخت وبنات المدعوة، وعملوا لي مشروب النومي بصرة ظناً منهم أن ذلك سيوقف الأمي وبعدما تناولته هرولت إلى الحمّام وتقيأت بشدة ما في جوفي مع زيادة بالألم، وقررنا العودة إلى الحسينية إلى بيت إبن أختي على أمل أن نجد طبيباً يصف لي دواء لما أعانيه من آلام وفي الطريق إلى الشارع العام، وكانت الأرض موحلة بسبب أمطار الصباح والشارع قد تحول إلى مستنقع حقيقي وقبل أن نحصل على تاكسي لنكتريها تقيأت بشدة، وكأني ساقييء أمعائي وطلبت الماء، وكان وقتها مرض كورونا منتشراً بشدة والناس تخاف من العدوى وأنا وسط الشارع اتقيأ من فمي قيئا كالشلالات التي تصب من عل، وكنت قريباً من إحدى المحلات، وحالما سمع صاحب الدكان ندائي بطلب الماء هرول إلى دكانه وجلب لي كأساً من الماء وقنينة كاملة وبدأ يصب لي الماء لكي أغسل وجهي، وبعد ذلك ملأ لي الكأس لأتناول منه جرعات أعادت لي الحياة.

نظرتُ إلى وجه الشاب صاحب النخوة. كان وجهه الأسمر منيراً بقسمات جميلة وابتسامة كلها أمل ومحبة، وكانت له لحية أثيثة تغطي حنكه، وكان منظر وجهه يبدو كوجوه الأئمة التي تبدو في الصور التي تنتشر هنا وهناك، فرفعتُ وجهي له وفي عيني نظرة شكر وعرفان عميقة، وقلت له وأنا استرد أنفاسي الحمد لله شكرا لك !!

كان شكري له بمليون شكر قلته لأحد في حياتي، وقدم لي الشاب كرسياً لارتاح عليه، وشعرت أن أجمل ما في العراقيين هذه النخوة، وهذا الكرم والشجاعة والتضحية بكل شيء من أجل أن يرفعوا رؤوسهم أمام الغير بأنهم أهل للإنسانية والأخلاق الرفيعة، وقلت في نفسي الحمد لله لا يزال في بلادنا أمثال هذا الشاب بالرغم من كل الظروف الصعبة التي مرَّ بها ويمرُّ بها وطننا وأخيراً حصلنا على تاكسي يعود بنا إلى الحسينية، وفي الطريق طلبتُ من السائق أن يجد لنا صيدلية في الطريق لأشتري منها الدواء وهمستُ بأذن زوجتي: أن منيتنا أتت بنا من المغرب الى العراق!!.

فقالت:
ــ اطمئن ستكون بخير !!
وتوقف السائق قرب إحدى الصيدليات وشرحت لصاحبها ما أعانيه، فأعطاني أقراصاً وكأس ماء وطلب مني أن أتناول إحداها، ووعدني بأني سأكون أحسن حالاً ..
وبالفعل ما أن تناولت القرص وعدت إلى السيارة المكتراة حتى أخذ وضعي بالتحسن التدريجي.
هذا اليوم من رحلتنا إلى “العراق” لن أنساه ما تبقى لي من عمر، فهو اليوم الذي رأيت فيه الموت في أبشع صوره في شارع مملوء بالحفر وموحل، وتمثل كل حفرة فيه مشروع غرق لطفل يضع قدمه خطئاً في إحدى حفر الشارع العميقة المغطاة بالوحل ومياه المطر. كان نهاراً بلا شمس تشعر وأنت تسير على رصيف شارعه المرتفع محاذراً من الأنزلاق غربة لا حد لها، وأنك في بلد مملوء بالبشر ولكن ليس فيه ناس سوى أئمة قليلين ينجدون كل مضطر يستنجد بهم كأمثال الشاب الذي أكرمني بكأس ماء الحياة وأنا أوشك على أن ألفظ أنفاسي الأخيرة !!.

أخذت حمَّامي الصباحي لأول مرة بعد يومين خوفاً من البرد الشديد، ونهار اليوم قضيناه في غرفة الضيوف في بيت إبن أختي، ولم نخرج خارج البيت بسبب المطر الشديد وأعراض المرض الذي اعتراني بعد التسمّم الغذائي الذي تعرضت له، ومن تلك الأعراض، الدوار والفراغ في الرأس الذي أشعره، وكأني أطير في السماء وبالمناسبة بعد ذلك التسمم فقد حاولنا تغيير عاداتنا الغذائية التي كان مضيفونا يفرضونها علينا بكرمهم وأريحيتهم ظناً منهم أن عاداتنا الغذائية تشبه عاداتهم، كما أننا صرنا مثلهم لا الوقت لنا ولا المكان المناسب للرياضة اليومية، كما أن ما كنا نتناوله في غربتنا عن الوطن المحدد بصحن السلطة المنوعة كطبق رئيسي، وبعض الإضافات البسيطة من اللحوم والبطاطا أو شرائح السمك المشوي.

وكان يمنعنا الحياء من طلب ما اعتدنا على تناوله طوال عمرنا السابق في الغربة، ولكن بعد أن مرضت وأوشكت على الهلاك طلبت زوجتي من زوجة إبن أختي طبق حساء من العدس للغداء مع القليل من أوراق الخس، والشلغم المسلوق وفي العشاء طلبنا حبة تفاح وبرتقالة لكل واحد منا، واستمر المطر ظهراً واستمر بعد ذلك إلى العصر، وطوال هذه الفترة كان الأطفال الذين لوحت الشمس وجوههم وأقدامهم كلها وحل يطلون علينا من فتحة باب الضيوف بوجوه مبتسمة، فقد سمعوا من أبائهم أننا قدمنا من خارج العراق، فكانوا يطلون علينا وكأنهم يرون أشخاصاً قادمين من المريخ أو من كوكب آخر !!

وكانت في عيون الأطفال دهشة عميقة وفرحة الاكتشاف، فقد كانوا ينظرون إلى ملابسنا التي لم يعتدها أهل هذه المدينة، التي لا زالت تحمل كل عادات وتقاليد القرية وجميع تحفظات أهلها على أنواع وأشكال ما يُرتدى من ملابس وهو الغريب على ما اعتادوا عليه من ملابس وطعام للغداء والعشاء، فهم لم يروا أحداً في مدينتهم يتناول للعشاء حبة تفاح واحدة، ويذهب إلى النوم شعباناً رياناً، فمثل هذا العشاء كما أخبرتنا زوجة إبن أختي سيتركها تتقلب في الفراش جوعاً ولا تستطيع أن تخلد إلى النوم من دون عشاء حقيقي من نوع صحن باجة بلحمة رأس، وثريد بدسم المرق أو صحن بإقلاء بالدهن أو نفر كباب مع صحن كبير من حلوى البقلاوة بالدهن الحر !! فاخبرتها زوجتي أننا لو فعلنا ذلك لوجدونا ميتين في فراشنا في الصباح !!.

وما أن حل المساء وبعد أن مضى من الليل منتصفه والغيث لا يزال يهطل وقد تحول إلى مطر مؤذ، واستمر بالهطول طوال الليل، وقد غرقت المساحة القريبة من باب البيت الرئيسي، وكذلك غرق مطبخ مضيفينا، وصار خروجنا إلى التواليت الذي يقع في منطقة مكشوفة من ساحة الدار من أصعب الأمور !!
وبسبب زخ المطر الشديد على رأس من يخرج من غرفة الضيوف ليقضي حاجته فيعود مبللاً من فوق ومن تحت !! وكان من لطف الله بنا أننا في المساء، وقبل أن نخلد إلى النوم وتقول لنا زوجة إبن أختي بابتسامة ليس على الأرض ألطف وأحن منها: “نوم العوافي حبايبنا !!”

ما ألطف هذه المرأة وأكرمها لم أصادف امرأة عراقية في حياتي بمثل كرمها ولطفها وأريحيتها، فهي لا تتعامل معنا لوحدنا بهذا اللطف والخلق الكريم بل مع جميع سكان بيتها الكبير الذي ضم شقيق زوجها وزوجته وأبنتية وإبن شقيق زوجها وزوجته وبناتها ونسيبها وزوجته اللذين يقضون جل وقتهم مع طفليهما في ضيافتها إلا فيما ندر من الأيام.

في هذه الليلة تحدثت معنا زوجة ولدي من السويد وشاهدنا أحفادنا، وتحدثنا مع ولدي وفرحنا برؤيتهم، وحدثناهم بكل ما لقيناه من لطف مضيفينا ومحبتهم ورأينا إلى كم الشوق في عيون أحفادنا وولدي وزوجته لنا، كل ذلك هون علينا البقاء في الدار حبيسين المطر الشديد في الخارج ليومين متتاليين ومن دون توقف، وقد امتلأت شوارع المدينة بمياه المطر، فلا توجد للمدينة شبكة أنابيب لتصريف مياه المطر أما تلك التي للمجاري العادمة فقد امتلأت وأخرجت أوساخها لتندفع منضمَّة إلى مياه المطر في الشوارع في مهرجان لا حد لأذاه، فلذلك انقطع كل نشاط في المدينة أو الخروج منها أو القدوم إليها، فهي الآن مدينة محاصرة بالمطر الشديد الذي لا ينقطع ومستنقعات الوحل !!

كانت ليلة ليلاء حقاً بسبب شدة الأمطار وقوة صوت الرعد، وقد عرفنا من نشرة الأخبار أن الأمطار الشديدة لا تزال تهطل على بغداد وجميع محافظات العراق وامتد ذلك ساعات متواصلة، وقد تهاوت الكثير من البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وتسببت في موت جماعي لتلك العائلات، ولأن البلاد تخلو من الدفاع المدني الفاعل ما عدا أعداد قليلة من أصحاب الكروش الذين يقضون معظم الشهور في بيوتهم لأن معظمهم جاءوا بوساطات من رجال الدين والمتنفذين ولا غرض لهم سوى الحصول على راتب من الحكومة يعطون نصفه لمسؤوليهم نهاية كل شهر، وامتيازات ولا غير ذلك، أما مساعدة المواطنين وقت الكوارث، فذلك متروك إلى الله وحده ولا شأن لهم به !!
وليس وحدهم بهذا الوضع بل أكثر من 80 بالمائة من موظفي الدولة هذه حالهم إضافة إلى أن أكثرهم من المرتشين أو ممن يستخدمون وسائل الدولة لقضاء مصالحهم الخاصة، نعم لقد ترك ضحايا الأمطار وسقوط سقوف البيوت على رؤوس ساكنيها لمصيرهم المحتوم بحجج واهية، كعدم وجود السولار الكافي” وقود السيارات والمعدات الثقيلة” لآليات الدفاع المدني، وعندما يتحقق متحقق من الأمر فسيجد بكل بساطة أن الموظفين الفاسدين في هذه الدوائر قد باعوا حصة الدائرة من وقود الآليات في السوق السوداء لمصلحتهم، وهم يفعلون ذلك كل شهر ويمثل هذا الأمر مورداً شهرياً ثابتاً يضيفونه إلى رواتبهم !!.

أما في بغداد، فأن تهيئة الطرق من واجبات أمانة بغداد، ولكن معظم طرق بغداد في هذا المطر الشديد غرقت بالمياه والوحل ومنذ الساعات الأولى لبدء الأمطار، وصار من العسير أن تسير حافلة في هذه الطرق من دون ان ينطفىء محركها وتصير من ضمن المعدات والآليات الغارقة في الفيضان!!

وتسببت الأمطار كذلك في قطع التيار الكهربائي القادم من المولدات الخاصة، أما التيار الكهربائي القادم من الكهرباء الوطنية التابعة لمؤسسات الدولة، فهو مقطوع مقطوعع مقطوع قبل أن تبدأ كارثة الأمطار بسبب احتراق المحولات للطاقة الكهربائية في معظم أحياء مدينة الحسينية !! وهناك من يذكر من المواطنين أن قطع التيار الكهربائي الرسمي يتم باتفاق مبرم بين أصحاب المولدات، والموظفين المرتشين في وزارة الكهرباء؛ فهؤلاء الموظفون عليهم مهمة قطع الكهرباء الوطنية عن بيوت المواطنين إن وجدت حصة كهرباء!! ليضطر السكان لسحبها عن طريق الموالدات الخاصة، وطبعاً يتم ذلك الاتفاق الشيطاني لقاء رشى شهرية تجمع من أصحاب المولدات لهؤلاء الموظفين الفاسدين!!

وكان المواطنون يعرفون هذه الحقيقة ولكن عليهم الأذعان في الظاهر لما يطلب منهم من مال لأصحاب المولدات، والدعاء إلى الله على هؤلاء الظالمين حين تضمهم بيوتهم!! ويحرصون على أن لا يسمع غريب دعاءهم على الظالمين؛ وتبعاً لانقطاع الكهرباء ينقطع الأنترنت وشبكة الاتصالات كاقة في المدينة المنكوبة !!

قضيت أياماً في مدينة الحسينية التابعة لمدينة بغداد التي يسكنها أكثر من مليون وربع المليون من البشر، وهي مدينة بائسة بحق!!.. الماء فيها الذي تضخه أسالة بغداد في الأنابيب فيه رائحة ماء المجاري العادمة وطعمها، وغير صالح حتى للاستحمام!! لا حدائق في هذه المدينة ولا وسائل تسلية للأطفال. لا ملاعب كرة قدم للأشبال وشوارعها أما حفر ووحول ومياه مجاري أو تلال من مخلفات الزبالة مختلطة بمخلفات البناء، لا رقابة صحية على مطاعمها.

مدينة وجوه البشر فيها أقرب لوجوه الموتى، ولا يوجد فيها مستشفى ولا مستشفى للطوارىء، ويبعد عنها ردهة مصحة أكثر من 10 كيلومترات، ما كان يسمى سابقاً ب”مستشفى حمادي شهاب “، الصيدليات القليلة التي فيها تبيع الدواء بأسعار ما أنزل الله بها من سلطان!!.

والأطباء في عيادات خاصة تغص بالمرضى، ويقطع قلبك صراخ الأطفال، وازدحام الأمهات عند أبواب هؤلاء الأطباء ورؤية البؤس على وجوه الأطفال وأمهاتهم، مدينة من مليون والربع من البشر عجبت كيف لا يخرجون للشوارع ويعلنون العصيان المدني؟!! بسبب ما يعيشونه من ضيم وظلام حتى يتم توفير الخدمات الإنسانية لهم، ولا شيء في هذه المدينة يوحي بالحياة بل أنها مقبرة كبيرة للأحياء!! بانتظار أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة، لتدفنهم عواصف الغبار التي تثيرها عجلات مئات عربات التكتك التي تسير على طرقاتها الترابية والأخرى المسفلتة، المملوءة بالحفر والوحل، وحتى الشوارع القليلة المبلطة ليست أحسن حالاً مما تجمع عليها من الوحل ومياه المجاري العادمة .. ووضع المدينة يذكر بمدن العراق بداية القرن الماضي 1900 ـــ 1920 والغريب أن فيها ما يسمى بحديقة ألعاب، وهي حديقة بائسة وحيدة تقع على الشارع العام اليتيم بالمدينة، وهي بلا إنارة ليلاً تجوس فيها الكلاب المتوحشة والقطط والجرذان، ولا خدمات حقيقية فيها، وخالية تقريباً من الأطفال الذين أقيمت من أجلهم لغلاء أجور استخدام الألعاب البدائية، وهي بالمناسبة نصفها عاطلة والمستعمل خطر جداً ولا تعرف ماذا سيحدث لطفلك عندما تزأر محركاتها وتبدأ بالحركة دواليبها !! …

نمنا ليلتنا مبكرين؛ فالظلام ساج والبرد والمطر لا مثيل له هذه العوامل الثلاثة من أكثر أسباب الكآبة لدى البشر!! استيقظنا بعد نوم قلق كان يوقظنا خلاله صوت الرعد المزلزل، وشدة نور البرق!!

في الصباح توقف المطر وطوال الليل كانت زوجتي تعاني من ألام في معدتها؛ ويبدو أن الالتهاب الذي أصابها في المعدة جاء من جراء تناولنا لخبز السيّاح؛ ومن الواضح أن دقيق الرز كان منتهي الصلاحية !! فقد دأبت وزارة التجارة العراقية على توزيع الحصة الغذائية في فترات متقطعة، وفيها مواد غذائية تالفة، ومنها الرز الذي يطحن بعد ذلك في مطاحن خاصة، ويباع كدقيق لعمل خبز السيّاح ويتصرف أصحاب المطاحن من أجل زيادة ربحهم بإضافة مواد أخرى تالفة هي أيضاً، مما تسبب كل ذلك في تسمّيمنا. أنا تسمَّمت قبلها، وقد شافاني الله بمجرد أن تقيأت في ذات اليوم كل ما تناولته من طعام، أما هي فلم تبدُ عليها علامات المرض إلا بعد يوم من الواقعة، ولذلك اصطحبتها زوجة إبن أختي إلى ممرضة تعيش في الحي المجاور، وينعتها الجميع بالدكتورة، فهي تحدد نوع المرض ونوع الدواء، وهي التي تبيعه لمرضاها، وقد توفي الكثيرون على يديها الكريمتين!!

ولم نكن نعرف كل تلك المعلومات قبل أن تذهب إليها زوجتي صحبة زوجة إبن أختي لمرتين في الأولى زرقتها إبرة قالت لها أن فيها الشفاء وحين عادت منها، وبعد قليل من العودة ساءت حالتها، فعادت بها قريبتنا إلى هذه الدكتورة المزعومة فزرقتها هذه المرة بإبرتين !!
وبشرتها أن ضغطها معتدل وأن سكر الدم معتدل!! وكنا نعرف ذلك، فزوجتي لا تعاني من الضغط المرتفع ولا من مرض السكر!! وشاء الله أن ينقذها من الالتهاب وزرقات إبر الدكتورة المزعومة الصبر على المرض وتحمل ألامه وترك الجسد يداوي نفسه؛ وبقينا اليوم أيضاً في بيت مضيفينا وأخذنا نتابع أخبار غرق بغداد من خلال التلفاز الذي يزود بالكهرباء من عمل مولدة الكهرباء الخاصة ببيت إبن أختي، وفكرت أن من يقصد مركز بغداد سيضيع يومه في زحام السيارات، وتقطع الطرق بالوحل والمياه العادمة، لذلك بقينا في غرفة الضيوف طول النهار، وقد عملوا لنا الغداء، وكان الغداء “تشريب الدجاج” مع الرز والمرق الأصفر ومساء وبالرغم من الظلام زارنا إبن أختي الأصغر وتحدثت معه طويلاً حول الدنيا، وما يحدث فيها وعن اقتراب يوم القيامة!! وكان كل ذلك الظلام والبرد يشجع على حكاية القصص المرعبة عن أهوال الآخرة !! وكانت كؤوس الشاي تحملها لنا حفيدتي أبنة إبن أختي، ومعها التمر العراقي بدلا من استخدام السكر في كؤوس الشاي بين وقت وآخر …

استيقظت في الثامنة والنصف صباحاً وأنا أشعر بالأعياء، فأنا لا أزال مريضاً، وكذلك زوجتي وكان مرضنا يعود لالتهاب المعدة بسبب ذلك السيّاح اللعين، الذي تناولناه قبل يومين في فطورنا، وقد تحسنت زوجتي اليوم قليلاً، لكننا لم نخرج من بيت مضيفينا بسبب ما تركته الأمطار الغزيرة من مستنقعات وطرق موحلة وبرك في الشوارع، وسمعنا عن غرق طفلين ببالوعات المجاري التي بلا أغطية معدنية في الحسينية، وما سمعناه في الأخبار من فيضانات في مناطق مختلفة من بغداد عطلت سير السيارات، وبالرغم من كل هذا الخراب فمن المفروض أن أراجع هيئة التقاعد في علاوي الحلة للسؤال عن مصير معاملة التقاعد الخاصة بي!! فحول مسألة الحصول على المرتب التقاعدي تتوقف أمور كثيرة أولها، أننا سنبقى في الوطن لنبدأ حياتنا من جديد في بلدنا، وننسى سنوات الغربة المريرة !!
فإن تحقق لنا ذلك فسنبحث في وطننا عن وسيلة عيش لولدنا الشاب الذي يصحبنا وهو أصم أبكم، المهم حصولي على حقوقي التقاعدية!! التي ستكون المورد المالي للعيش لنا في بلدنا بالرغم من ضآلته!!.

وبالرغم من صعوبة الخروج من بيت مضيفنا بسبب فيضانات الأزقة وشارع الحسينية الوحيد، إلا أنني خرجت مضطراً باحثاً عن صيدلية فاتحة أبوابها لشراء دواء أعرفه، فالصيدليات في العراق بخلاف صيدليات مدن العالم كافة تغلق أبوابها طيلة الصباح وفترة الظهر وتفتح أبوابها عصراً ومساء!! وبعد بحث طويل وجدت صيدلية صغيرة فاتحة أبوابها، فاشتريت حسب خبرتي السابقة بالأدوية في العراق شريطاً من حبوب المثبريم، لمعالجة الالتهابات في المعدة والأمعاء، وكذلك اشتريت علبة حبوب فلايجيل المضاد للفطريات في الأمعاء، وهو دواء فعال لقتل الجراثيم في الأمعاء، وما أكثر الجراثيم في طعام أهل العراق بسبب تلوث المياه والنباتات والهواء!!.

مشاركة
2

العراق      |      المصدر: الزمان    (منذ: 4 أسابيع | 2 قراءة)
.