غزة وأحجار على رقعة الشطرنج

لم تعد خافية قصتها على أحد، فالأعمى رأى مشاهد الدمار من قسوتها، والأصم سمع صراخ أهلها من شدة قصف الصواريخ، والأخرس نطق من شدة ما رأى، معلنا كفره بالقانون الدولي الكذاب.
قد يسأل سائل ما علاقة غزة بأحجار الشطرنج؟ الإجابة أن وليام غاي كار، مواطن كندي ولد عام (1895- 1959) كبر حتى صار ضابطا في سلاح البحريّة الكندي، قرر أن يمارس إنسانيته بطريقته الخاصة في فضح المنظمات العالمية التي تواصل الليل بالنهار من أجل إفساد منظومة القيم الأخلاقية للعالم والسيطرة على مقدراته، ليصبح أعضاؤها قادة هذا العالم بلا منازع، فكشف ألاعيبهم ونظرتهم للآخرين، حيث اكتشف بعد رحلة غوص عميقة في بحر الوثائق والوقائع والتجارب الشخصية، بأن هذه المنظمات معول هدم للقيم الإنسانية، وبأن قادتها هم كائنات بلا أخلاق، ويتعاملون وينظرون لمن دونهم بحقارة، وعلى أنهم "أحجار على رقعة الشطرنج".
لم يكن ما ذكره وليام غاي كار، صاحب الرواية، مبالغا فيه أو كذبا، ألم يذكر عن هرتزل أنه قال "سنولي عليهم سفلة قومهم"؟، والسافل هو أحط الناس قدرا ويفعل ما يُطلب منه دون تردد حتى لو كان المطلوب إجراما، فنحن نعيش في عصر نرى فيها تلك الأيدي الخفية الخبيثة تمتد إلى تفاصيل حياة الشعوب والأمم وتحركها بما يحقق مصالحها دون مراعاة لأخلاق أو قيم إنسانية، فتسهّل وصول الفاسدين لمراكز صناعة القرار، وتحدد لهم خارطة طريق يسيرون عليها، وإن زاغوا فلا بقاء لهم، وربما يكون مصيرهم القتل، وهذا راجع إلى مستوى زيغهم وانحرافهم.
الداعي لاستحضار الرواية التي قرأتها منذ ما يزيد عن خمس سنوات، هو اعتراف المتحدث السابق باسم الخارجية الأمريكية ، مؤخرا بأن بإسرائيل ارتكبت جرائم حرب في غزة، مؤكدا أنه قبل استقالته كان يعبر عن رأي الإدارة الأمريكية وليس رأيه الشخصي.
ما قاله ماثيو يؤكد بلا أدنى شك ما جاء في رواية "أحجار على رقعة الشطرنج"، أن تلك الشخصيات في تلك المناصب العليا ليس لها من أمرها شيء.
وهنا نطرح السؤال: لو بقي ماثيو في منصبه هل سيقول ما قال؟ الإجابة "لا"، لأنه ينفذ سياسة في ظاهرها لدولة وفي باطنها لمؤسسة خبيثة، وهذا يؤكد وجود آلاف مثل ماثيو في كل دوائر صناعة القرار في العالم، وفي أمريكا نفسها، والدليل أيضا أنه لو قرأنا مذكرات الرؤساء والقادة والشخصيات البارزة في العالم سنجد أنهم كتبوها وفيهم نوع من الاعتراف المبطن بأنهم كانوا يمارسون أفعالا ضد الإنسانية حتى لو كانوا هم من صنعوا القانون الدولي الإنساني الذي يدعى حرصه على الإنسانية.
وهنا أذكر من يثق بالوعود الأمريكية، ويرتمي في أحضانها دون أن يملك القوة، ظنا منه أنها البيت السعيد، بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي: "مخطئ من ظن يوما أن للثعلب دينا".
لقد قالها ذات يوم يحيى السنوار بأن هذه المدينة ستكشف وتفضح الجميع، وها هي توقعاته تتحقق، فكم من شخصيات العالم كنا نظن بها خيرا سقطت في أول الطريق، ولم تنتصر لغزة بكلمة، وكم من عالِمٍ ملأ الدنيا خطبا حول نصرة المظلوم والجهاد، لكن اكتفى بفتاوى الحيض والنفاس، ولم يفعل كما فعل العز بن عبد السلام الذي قاد الجهاد ضد الصليبيين، لكنهم لووا رؤوسهم خشية من بطش السلطان ونسوا أن أعظم جهاد كلمة حق إمام سلطان جائر، ورضوا بأن يكونوا "أحجار على رقعة الشطرنج" يحركهم الزعيم كما يشاء وقتما يشاء.