كلاب غزة
تمنيت أن أكتب في إحدى المواضيع ذات الراهنية، كالذكاء الاصطناعي ودوره في تغيير وجه العالم، أو قضايا التغيرات المناخية وتأثيرها على مستقبل البشرية، أو الهيدروجين الأخضر والابتكارات المرافقة له، أو مواضيع ذات طابع سياسي كالقول بأفول أدوار الأحزاب السياسية في تأطير المواطن: الحال والمآل، أو الثابت والتحول في السياسة الدولية، أو مواضيع ذات أبعاد نفسية، كالتعريف بنظرية ماسلو وهرمه في تدرج الحاجيات، أو قانونية من قبيل ما مصير محكمة العدل الدولية بعد إصدار مذكراتها الأخيرة، أو غير ذلك من المواضيع التي تحترم ذكاء القارئ، وتعود عليه بالفائدة، وفي نفس الوقت تشعرني بمتعة “الكتابة الراقية”.
هذه الأماني دفعتني إلى التخلي عن مسودة مقال حول “حمير غزة”، تلك الحمير التي لا تشبه جميع حمير العالم: لا الحمار الفرعونى، المعروف بالإله ست، ولا جحش المسيح، حسب المعتقد المسيحي، ولا حمار عزير، ولا حمار جامعة مادور بالجزائر، العروف ب“الحمار الذهبي”، ولا حمار جحا، ولا حمار الحكيم، ولا حماري أنطاكيا، ولا حمير يحيى حقي.
ولا حمار من الشرق، ولا حمار أنس زاهد في منفاه، ولا حمار سانشو، في مغامرات الدون كيشوت دي لامانشا، ولا الحمار العجوز بنيامين، أو ما يعرف بحمار جورج أورويل في كتاب “مزرعة الحيوان”، ولا حمار صوفي فيودور، صاحب الخواطر العجيبة.
ولا تشبه حمير غزة أيضا، حمار حسن أوريد، ولا ملك جمال الحمير الذي يتم اختياره كل سنة بمهرجان الحمير، الذي ينظم بقصبة بني عمار ناحية زرهون، ولا الحمار الديمقراطي، الذي اختاره المرشح أندرو جاكسون في الرئاسيات الأمريكية سنة 1828شعارا لحملته الانتخابية.
#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} إن حمير غزة تعيش مع أهل القطاع تفاصيل معاناتهم، تجوع لجوعهم وتظمأ لظمئهم، وتصيبها قذائف الصهاينة، كما تصيب الصبية والنساء والشيوخ.
تتشبث بالأرض كما يتشبث رضيع بصدر أمه…حمير غزة تضحي بسخاء، معوضة سيارات الإسعاف التي دمرتها الآلة العسكرية الإسرائيلية، فكثيرة هي الصور التي تداولتها وسائل الإعلام، التي تظهر العربات المجرورة بالحمير تجوب غزة حاملة ما تبقى من صبي لم يبلغ الفطام بعد، إلى جانبه جثة شيخ بلغ من الكبر عثيا، زينه ما تبقى من دم الشهادة على لحيته التي غزاها الشيب منذ زمن الشتات الأول، وبجانبهما امرأة لا هي من الأموات ولا هي من الأحياء…يسرع الحمار إلى مستشفى المعمداني، أو مستشفى الشفاء، أو مستشفى الشهيد كمال عدوان، أو مستشفى العودة، أو أي مستشفى يمكنه احتضان الضحايا.
يهرول الحمار محاطا بمن تبقى من بأبناء غزة، راسما مشهدا جنائزيا أقرب إلى كرنفال فرح، يشعرك أن لا فرق بين الشاهد والشهيد… تركت حمير غزة كارها، إلا أن مشهد كلابها وهي تحوم حول جثة شهيد في محور نتساريم، سافر بي على عجل إلى عوالم حالكة الظلمة… تزاحمت الأسئلة الحارقة في ذواتي: الكلاب الضالة تنهش الشهداء في الحارات أمام أعين العالم التي لا تنام؟ أمام أعين هيئة الأمم المتحدة، بمجلس أمنها وجمعيتها العامة؟ ومنظمات حقوق الإنسان، وحقوق الحيوان، والاتحاد الأوروبي، واليونسكو، وجامعة الدول العربية، ومنظمة الدول الإسلامية، وهيئة جزر الواق واق، والسند والهند؟ أين شعار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يتحدث عن السلام والكرامة والمساواة على كوكب ينعم بالصحة؟ كلاب تنهش جثة شهيد/ إنسان، تجوب العالم…أليس المشهد سوط جلاد ينزل على ضمير الإنسانية؟ أليست البشرية كلها ذاك الشهيد/ القتيل؟ أليس النهش نهشا في كرامة أمم الأرض كلها؟ ألهذا الحد انعدمت الإنسانية في الإنسان، فسلم بعضهم بعضا للكلاب؟ لا عليك أيها القاتل الغاصب…فالكلاب الضالة قد تنهش جثة شهيد لكنها لا ولن تنهش القضية الفلسطينية… لا عليك أيتها البشرية، فقد سجل التاريخ، أنه في يوم ما، وفي كان ما، نهشت الكلاب الضالة، الموتى في الطرقات، أمام أعين العالم المتحضر.
عالم بربطات العنق ولباس أنيق، وأحدية شديدة اللمعان، وابتسامات ماكرة، وشعارات كاذبة، وبأشياء أخرى بدون طعم أو لون أو رائحة… بشاعة المشهد أنستني أن الكلاب الضالة نهشت عبر الأزمنة شعوبا وقبائل أحياء، وما تزال تنهش فيهم.
فنهش الكلاب للميت أخف وأرحم من نهشهم للأحياء.