تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية
الجزء الثاني المفاهيم السوسيولوجية والجغرافية والحقائق التاريخية رغم أهميتها على مستوى إعادة تشكيل وبناء الجهاز المفاهيمي المرتبط بالصراع حول الصحراء، إلا أن المفاهيم الأخرى، سواء القانونية المرتبطة بالقانون الدولي أو بعض المفردات ذات الحمولة السياسية، لا تقل بدورها أهمية على مستوى الترافع عن الوحدة الترابية للمملكة.
لم يسلم القاموس التداولي بشأن النزاع حول الصحراء من التحريف والتزييف، إذ جرى ويجري استعمال وتوظيف بعض المفاهيم القانونية بطريقة تفتقر إلى الدقة، لا سيما أن بعضها مرتبط بقواعد القانون الدولي مثل مفهوم “الاحتلال” “واللاجئين” و”الدولة الصحراوية”.
لقد تمكنت الآلة الدعائية الانفصالية من تثبيت بعض المفاهيم المغلوطة في مخيلة الأنصار والتابعين، بل غدت تلك المفاهيم والمصطلحات مؤسسة وتشكل النواة الصلبة في عملية الاستقطاب وتوسيع دائرة التيار الانفصالي.
#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} أولا، المفاهيم والمصطلحات القانونية تنهل وتعتمد أطروحة الانفصال على قاموس دعائي/ تحريضي يرتكز على مجموعة من المفاهيم والمفردات القانونية المرتبطة بقواعد القانون الدولي بمختلف حقوله وتخصصاته.
لذا فإن تفكيك “بنية الخطاب الانفصالي” يستدعي إعادة قراءة ومراجعة المفاهيم والطروحات المؤسسة، لاسيما أن “الحرب الناعمة”- التي تعرف بأنها القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلاً عن الإرغام، وهي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للوسائل العسكرية والصلبة”- باتت تخاض عبر اعتماد مرجعيات قانونية ودولية بغرض المحاججة والترافع في الساحة الدولية والإقناع وإيجاد مناصرين ومتعاطفين مع القضية.
1- مفهوم تقرير المصير يعتبر تقرير المصير من أهم المبادئ التي تم التنصيص عليها في العهدين الدوليين، سواء الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أو الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعلن عنها سنة 1966.
إلا أن سياق تضمين هذا المبدأ في العهدين ارتبط بمحاولة تشجيع الدول، خاصة حديثة الاستقلال أو الخاضعة للاحتلال، على التوقيع على العهدين.
وقد تم تبني هذا المبدأ من طرف المنتظم الدولي في سياق متسم بمناهضة للاستعمار، مما جعل هذا المفهوم خلال ستينيات القرن الماضي يحظى بانتشار وتأييد واسعين من طرف كافة الدول.
هذا المفهوم، الذي انتشر قبل ولادة البوليساريو بسنوات، سيصبح بعد انحراف هذا التنظيم عن المبادئ وأهداف التأسيس من أهم الشعارات التي يرفعها رفقة الجزائر ضد المملكة المغربية في المحافل الدولية، وقد جرى تحريف استعمال هذا المبدأ بشكل يتعارض مع أهم المبادئ المؤسسة لميثاق الأمم المتحدة وباقي الصكوك الأخرى وهو مبدأ “وحدة وسلامة الدول”.
كما حاولت الجزائر عبر البوليساريو أن تجعل من الاستفتاء آلية وحيدة لتقرير المصير، بل إن هذا الاختزال غير الدقيق لمفهوم تقرير المصير وعلاقته بالاستفتاء غدا من المسلمات التي توظف للدفاع عن أطروحة الانفصال.
في حين لم يرد في الوثائق المرجعية للأمم المتحدة ما يشير إلى اعتماد الاستفتاء كآلية وحيدة لتقرير المصير، حيث حددت الجمعية العامة أربع نتائج لاعتماد تقرير المصير دون تحديد الوسيلة أو الطريقة، الشراكة والاندماج والاستقلال (القرار 1541) وحرية اختيار الوضع السياسي (القرار 2625).
ومنذ سنة 1945 أشرفت الأمم المتحدة على ما يقارب خمسة استفتاءات (اثنان نتج عنهما الاستقلال في نامبيا وتيمور الشرقية، وواحد أفضى إلى اندماج إيريان الغربية في إندونيسيا عام 1963، واثنان نتج عنهما رفض قانون الشراكة الحرة المقترح بين طوكلوا ونيوزيلندا سنتي 2006 و2007.
2- مفهوم الاحتلال يصف دعاة الانفصال المغرب بـ”دولة الاحتلال” حتى صار هذا التوصيف في مخيلة الشباب في مخيمات تندوف وبعض المناطق الخاضعة للمغرب بمثابة “حقيقة” أو “قناعة” لدى البعض نتيجة سنوات من التحريض عبر الآلة الإعلامية.
هذا بالإضافة إلى أن مقولة “الصحراء آخر مستعمرة في إفريقيا” باتت تروج بكثافة حتى صارت بمثابة سردية يرددها البعض في كافة المحافل الدولية والقارية.
وبالعودة إلى قواعد القانون الدولي فإن مفهوم “القوة المحتلة” تم تحديده بدقة بموجب قرار لاهاي لسنة 1907 ومعاهدة جنيف الرابعة الصادرة بتاريخ 12 غشت 1949، حيث تنطبق “القوة المحتلة”، وفق هاتين الوثيقتين، على استعمار أرض دولة موجودة فعلا خلال نزاع دولي مسلح.
وانطلاقا من هذا التعريف يلاحظ أن وصف المغرب بالاحتلال مجرد توصيف دعائي يسائل ضعف وعدم قدرة المملكة على دحض هذه المغالطات وعدم قدرتها على الترافع بشكل عقلاني، لاسيما أن قرارات مجلس الأمن وتقارير الأمين العام منذ بداية مسار التسوية الأممي لم تصف أو يرد فيها ما يوحي أو يشير إلى اتهام المغرب بـ”الاحتلال”.
3- “الدولة الصحراوية” أعلنت جبهة البوليساريو، بإيعاز من الجزائر، سنة 1976 بعد توقيع الاتفاق الثلاثي عما يسمى “الجمهورية الصحراوية”.
وهذا الإعلان/ الادعاء يفتقر إلى أسس وضوابط ومقومات عادة ما يفترض وجودها قبل الإعلان عن “الدولة”.
مفهوم الدولة في القانون الدولي يرتبط بوجود مقومات أساسية، هي: شعب، إقليم، سلطة سياسية، سيادة، وهي مقومات غير متوفرة لدى جبهة البوليساريو.
وارتباطا بهذا المعطى القانوني، فإن تفكيك مقومات الدولة في جوانبها القانونية والسوسيولوجية يجعل هذا التنظيم أبعد ما يكون عن الدولة، وهو ما يبرر عدم اعتراف الأمم المتحدة بهذا الكيان كدولة، بل بالعودة إلى تقارير الأمين العام وقرارات مجلس الأمن يلاحظ أن التوصيف الأقرب من خلال متن ومضمون التقارير والقرارات هو “حركة انفصالية”.
وبالنظر إلى ضرورة التوفر على مرتكزات ومقومات الدولة وفق القانون الدولي، فالبوليساريو حاولت طيلة مسار النزاع أن تقدم إجابات وسد النقائص في هذا الجانب، لكنها فشلت وإن كان الاعتراف بها عضوا في الاتحاد الإفريقي ساعدها قليلا على الأقل من الناحية الدعائية.
وفق هذا الأساس، فالمقومات الأساسية غير موجودة، حيث إن “الشعب الصحراوي”، كمرادف لشرط وجود شعب، يعتبر مفهوما غير دقيق كما تمت الإشارة إلى ذلك سابقا، أما الإقليم، ونظرا لسيادة المغرب على 80 في المائة من الأراضي المتنازع عليها، فقد عملت الآلة الدعائية على الترويج لما بات يعرف بـ”الأراضي المحررة”، وهي أراض تقع في المنطقة العازلة، خاصة على مستوى بئر الحلو وتفاريتي.
أما شرط وجود “السلطة السياسية”، فلا يمكن اعتبار تنظيم مسلح، بالنظر إلى أدبياته وهيكلته المعلنة، على أن له سلطة سياسية، في ظل غياب المرتكزات المؤسسة للشرعية والتمثيلية (الانتخابات)، فالبوليساريو تنظيم مسلح يعتمد على تراتبية صارمة لا تسمح بالاختيار أو مناقشة الاختيارات وتقرير المصير.
ثانيا، المفاهيم والحقائق السياسية إن إطالة أمد النزاع حول الصحراء أفضت إلى تغليب الخطاب الدعائي/التحريضي على حساب الحقيقة والواقع، مما أدى إلى نشر مجموعة من المغالطات تصل لدرجة “الأكاذيب” والمفاهيم والأقاويل غير الدقيقة.
إذ جرى في سياق الصراع القفز على بعض الحقائق التي تعتبر من جوهر وأدبيات هذا النزاع، من قبل طبيعة النزاع، هل هو إقليمي أم دولي أم محلي، وكذلك مفهوم اللاجئين أو “المحتجزين”، بالإضافة إلى طبيعة عضوية البوليساريو في منظمة الاتحاد الإفريقي.
1- طبيعة النزاع حول الصحراء تحاول الأطروحة الانفصالية أن تختزل الصراع بين المغرب وجبهة البوليساريو، وهي مقاربة خاطئة وغير دقيقة لأن الصراع في جوهره إقليمي وإن أخذ أبعادا دولية بفعل تحولات وعوامل دفعت في اتجاه تدويل الملف.
فالمعطيات التاريخية والحقائق السياسية تؤكد أن النزاع إقليمي ولا يغدو أن يكون امتدادا لصراع الريادة والتوسع بين المغرب والجزائر.
لذلك لا يمكن فهم طبيعة النزاع حول الصحراء دون استدعاء التاريخ، خاصة “حرب الرمال”، وغيرها من الأحداث المفصلية.
إن استدعاء التاريخ واستحضار ملف الصحراء ومنطق الزعامة والرهانات الجيو- استراتيجية تعتبر مفاتيح ومداخل مهمة لتفكيك وفهم وتحليل الوضعية المأزومة التي وصلت إليها العلاقة بين الطرفين، لا سيما أن الصراع وقواعد الاشتباك الدبلوماسي لم تعد كما في السابق، حيث باتت المواجهة المباشرة مطروحة وغير مستبعدة في ظل الاحتقان الموجود.
تعتبر “حرب الرمال” واقعة أليمة في سجل العلاقة بين الطرفين، حيث تبرر المملكة المغربية تدخلها عسكرياً للرد على استفزازات حدودية من الجيش الجزائري، والجزائر تقول إنها ردّت أطماعا مغربية في أراض على الحدود.
تتعدد وتختلف المسوغات التي يسوقها كل طرف؛ المغرب يبرر موقفه من خلال الدفاع عن حقوقه التاريخية المشروعة في بعض المناطق المتمثلة في بشار وتندوف وأقصى الجنوب الجزائري، ويعتبر أن الاستعمار الفرنسي اقتطعها منه.
وتبعا لذلك، يرى المغرب أن قادة الجزائر لم يوفوا بعهودهم، لا سيما أن المملكة رفضت ترسيم الحدود الشرقية مع فرنسا وارتأت أن تناقش هذا الأمر مع سلطات الجزائر بعد استقلالها، خاصة بعد تطمينات فرحات عباس، رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، الذي صرح، حسب مذكرات قائد الأركان السابق الطاهر زبير “نصف قرن من الكفاح”، بخصوص مطالب المغاربة بالقول: “نحن الآن في حرب، وبعد الاستقلال سيكون هناك مجال للحديث في هذه المسألة والتفاوض بشأنها”.
وقال الطاهر زبير في مذكراته: “وبنى المغرب موقفه على هذا الكلام”.
2- اللاجئون الصحراويون وسؤال التمثيلية تستعمل جبهة البوليساريو ومن خلفها الجزائر مصطلح “اللاجئين الصحراويين” لتوصيف ساكنة تندوف.
بالمقايل تصفهم الآلة الإعلامية المغربية بـ”المحتجزين”، وإن كانت الجزائر وفق خلفيات وسياقات ترتبط بالحرب الباردة قد تمكنت من شرعنة مفهوم “اللاجئين” على مستوى تقارير وقرارات مجلس الأمن، إلا أن هذا المفهوم لا يتناسب مع حمولته الإنسانية ومقتضيات الشرعية الدولية، لاسيما أن الجزائر لا تزال ترفض إحصاء عددهم وإعمال المبادئ المتعلقة بهذه الفئة.
وبالعودة إلى قواعد القانون الدولي، فإن اتفاقية 1951 المتعلقة باللاجئين تعتبر الإطار القانوني المرجعي لعمل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتعرف هذه الاتفاقية “لاجئ”، وتتضمن كافة حقوقه، بما في ذلك حقوقه من قبيل حرية العقيدة والتنقل من مكان إلى آخر، والحق في الحصول على التعليم، ووثائق السفر، وإتاحة الفرصة للعمل، كما أنها تشدد على أهمية التزاماته/ التزاماتها تجاه الحكومة المضيفة.
وتنص أحد الأحكام الرئيسية في هذه الاتفاقية على عدم جواز إعادة اللاجئين- والمصطلح القانوني هو حظر الطرد أو الرد ـ إلى بلد يخشى/ أو تخشى فيه من التعرض للاضطهاد.
كما أنها تحدد الأشخاص أو مجموعات الأشخاص الذين لا تشملهم هذه الاتفاقية.
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن بروتوكول سنة 1967 أزال الحدود الجغرافية والزمنية الواردة في الاتفاقية الأصلية، التي كان لا يسمح بموجبها إلا للأشخاص، الذين أصبحوا لاجئين نتيجة لأحداث وقعت في أوروبا قبل 1 يناير 1951، بطلب الحصول على صفة اللاجئ.
كما تعرف المادة الأولى من الاتفاقية بوضوح من هو اللاجئ.
إنه شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة بسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب العنصر، أو الدين، أو القومية، أو الانتماء إلى طائفة اجتماعية معينة، أو إلى رأي سياسي، ولا يستطيع بسبب ذلك الخوف أو لا يريد أن يستظل/ تستظل بحماية ذلك البلد أو العودة إليه خشية التعرض للاضطهاد.
ومن خلال تعريف اللاجئ وحقوقه، وبإسقاطه على “ساكنة تندوف”، التي توصف من طرف الجزائر وفي تقارير الأمين العام بـ “اللاجئين الصحراويين”، يتضح أنه هذا المفهوم لا ينطبق على هذه ” الفئة”، لاسيما أن صحراويي تندوف لا تنطبق عليهم مجموعة من المعايير القانونية: صحراويو تندوف لم يتعرضوا للاضطهاد وليسوا مضطهدين، خاصة أن أبناء عمومتهم وعائلاتهم يعيشون بالمناطق الجنوبية تحت السيادة المغربية.
بل هناك من يتبنى الفكر الانفصالي ويعبر عن مواقفه وإن كانت مناوئة للوحدة الترابية المغربية.
حقوق التنقل غير متوفرة في مخيمات تندوف، حيث تخضع المخيمات لإدارة وإشراف الجيش الجزائري.
اللاجئ حسب الاتفاقية هو شخص مدني، والشخص الذي يستمر في الاشتراك في أنشطة عسكرية لا يمكن النظر في منحه اللجوء.
وهذا الأمر مناقض لوضعية البوليساريو، التي تعتبر تنظيما عسكريا، بل تتوفر بشكل علني على مليشيات عسكرية تقدر بالآلاف، وهو ما يطرح علامة استفهام حول هذا الوضع غير القانوني المخالف لقواعد القانون الدولي.
ساكنة مخيمات تندوف تعيش أوضاعا مأساوية نتيجة أزمة العطش التي أخذت هذه المرة منعطفا جديدا، حيث يخرج بين الفينة والأخرى بعض الشبان داخل المخيمات عبر تقنية الفيديو لمطالبة الجزائر والمنتظم الدولي بالتدخل لإنقاذ أرواح الأطفال والشيوخ وإيجاد حلول جذرية لهذه المحنة التي طالت، محنة جاءت لتضاعف معاناة أفراد وأسر، لا ينظر إليهم إلا كأرقام إضافية في سوق السياسة والمصالح.
أما سؤال تمثيلية هؤلاء لساكنة الصحراء فهو مخالف للواقع بفعل عدة تحولات، سيما أن تنظيم البوليساريو كما سبق الذكر هو تنظيم عسكري يعتمد في تركيبته وهيكلته تراتبية صارمة لا مجال فيها للاختيار أو الاختلاف وفق المبادئ الديمقراطية.
انطلاقا من المؤتمرات العامة التي عقدت من طرف تنظيم البوليساريو، فاختيار القادة وانتخاب الهياكل يتم بطريقة صورية ومحسومة سلفا، لاسيما أن الجزائر تتدخل بشكل مباشر في اختيار وتعيين من يقود هذا التنظيم.
فمسألة التمثيلية مرتبط وفق المبادئ الديمقراطية بالاختيار، وهذا الميكانزيم غير موجود وغير متوفر في مخيمات تندوف، حيث يوظف القمع بطريقة مفرطة ضد الأصوات الحرة بدعوى أن “التنظيم” في حالة حرب تارة، واتهام كل من يعبر عن مواقف مخالفة ومناقضة للقيادة بخدمة أجندة المغرب وتخوينهم وسجنهم تارة أخرى.
لكن المفارقة الصارخة تتجلى في كون أغلبية الصحراويين موجودون بالأقاليم الجنوبية للمغرب، ويشاركون في الانتخابات المحلية والتشريعية بشكل دوري، وبالتالي ادعاء تمثيلية الصحراويين من طرف البوليساريو مسألة مضللة وغير دقيقة.
مدير مجلة المغرب الكبير للدراسات الجيوسياسية والدستورية