الشيخ ياسر مدين يكتب: كيف وصلتنا السُنة (12)

رأينا كيف أن السنة دُونت منذ العهد النبوى إلى أن وصلنا إلى جيل تابعى التابعين، وأشرنا إلى كتاب الإمام مالك المعروف بالموطَّأ، ولم يكن هو وحده مَن دوَّن، ولا كتابه هو الكتاب الوحيد، بل عاصره آخرون، منهم مَعْمر بن راشد (ت 153هـ) وله كتاب «الجامع»، وهو أقدم من «موطأ مالك»، وعبدالله بن المبارك (ت 181هـ) وله كتب حديثية مثل: «الزهد والرقائق»، و«الجهاد»، و«المسند»، وتلميذ الإمام مالك عبدالله بن وهب المصرى (ت 197هـ)، ومن كتبه «الجامع» و«الموطأ» أيضاً، ووكيع بن الجراح (ت 197هـ)، ومن كتبه كتاب «الزهد»، وأبوداود الطيالسى (ت 204هـ)، وله كتاب «المسند».

واستمر التصنيف فى السنة حتى وصلتنا كتب موسوعية كبيرة مثل «مسند الإمام أحمد بن حنبل» (ت 241هـ)، وقد صنف فى السنة غيره أيضاً، ككتابه «فضائل الصحابة»، وغيرهما من الكتب، إلى أن نصل إلى البخارى الإمام الكبير محمد بن إسماعيل بن إبراهيم (ت 256هـ)، صاحب الكتاب المشهور، وله غيره فى السنة ككتاب «خلق أفعال العباد»، و«بر الوالدين»، و«الأدب المفرَد»، وليس المقصود بالأدب هنا ما يتصل بالفنون الأدبية المعروفة، وإنما المقصود به الآداب التى تندرج فى عصرنا هذا تحت «البروتوكول» و«الإتيكيت».

ولم يكن التصنيف فى السنة قاصراً على علماء الحديث، والفقهاء الملتزمين بالسنة والآثار، بل كان لمدرسة أهل الرأى فى الفقه التى يترأسها الإمام الأعظم أبوحنيفة النعمان رضى الله عنه (ت 150هـ) كتب فى الحديث، فها هو القاضى أبويوسف (182هـ) كان له كتاب فى السنة اسمه «الآثار»، وهذا الكتاب جمع فيه الأحاديث التى أخذها عن شيخه الإمام أبى حنيفة، وزاد عليها ما يرويه عن غيره، فهو فى أصله «مسند الإمام أبى حنيفة» مع زيادات، فهو كتابان فى كتاب واحد، وكذلك كان لمحمد بن الحسن (ت 189هـ) ثانى أشهر تلاميذ الإمام أبى حنيفة كتاب «الآثار» أيضاً، هذا غير روايته موطأ الإمام مالك.

وغير هذه الكتب كثير جداً، ويكفى أن نقول: إن جميع هذه الكتب التى أشرنا إليها وصلتنا أصولها المخطوطة، وحُقّقت تحقيقاً علمياً وفق قواعد فن التحقيق المتفق عليها بين المحققين فى الشرق والغرب، فهى وغيرها -مما أعرضنا عن ذكره خشية الإطالة- سُبلٌ وقنواتٌ عِلمية وثيقة وصلت إلينا من خلالها السنة المطهرة وصولاً لا شبهة فيه إلا عند الجاهلين بسبل وصول العلم ونقله وتوثيقه! أو عند مَن ينكر الشمس وظِله تحت قدمه! وصدق القائل: وليس يصحُ فى الأذهانِ شىءٌإذا احتاجَ النهارُ إلى دليلِ ثم لا بد هنا من بيان أمر آخر، وهو أنه لم يكن التأليف فى السنة النبوية هو السبيل الوحيد لنقلها، بل هناك سبل أخرى علمية وصلتنا السنة من خلالها، فإن مَن يتكلم فى الفقه أو فى التفسير أو فى غيرهما من علوم الإسلام، فإنه يسوق فى كتبه أحاديث السنة المطهرة من باب الاستدلال، والغالب على هذه القرون أنهم كانوا يسوقون الأحاديث بأسانيدهم إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يُعد سبيلاً توثيقياً آخر وصلت السنة من خلاله، ومن هذا السبيل وصل إلينا «مسند الإمام الشافعى»، وهو الأحاديث التى رواها رضى الله عنه فى كتبه بسنده عن أشياخه، ككتابه «الأم» و«الرسالة» وغيرهما، حيث قام بعض العلماء بجمعها من كتبه وجعلها فى كتاب مستقل.

وقد استمر هذا النوع من التصنيف سبيلاً تصل إلينا منه السنة النبوية، ونلمس هذا فى كتب الإمام الكبير محمد بن جرير الطبرى (ت 310هـ) صاحب التفسير الكبير المشهور «جامع البيان» والتاريخ الكبير «تاريخ الرسل والملوك» المعروف بتاريخ الطبرى، وهذان الكتابان يحويان كثيراً من الآثار المسندة، هذا بالإضافة إلى أنه له كتاب خاص فى السنة هو كتاب «تهذيب الآثار»، وقد وصلت إلينا هذه الكتب، وحققت أيضاً تحقيقاً علمياً.

وأظن أن هذا العرض العلمى الموجز المركز يبين بجلاء خطأ فكرة تأخر تدوين السنة! وأنها ظلت زماناً تُروى روايةً شفاهيةً دون كتابة!

مصر      |      المصدر: الوطن نيوز    (منذ: 1 أشهر | 7 قراءة)
.