نقباء ونشطاء ينعون النويضي.. نزاهة فكرية ونباهة علمية وحنكة نضالية

جمعت أربعينية عبد العزيز النويضي، المنظمة بعنوان “المحامي والمناضل ورجل العدالة وحقوق الإنسان” نقباء محامين ورجال قانون وأكاديميين وصحافيين ونشطاء حقوقيين، بحضور عائلته.

وقد نظمت حفل التأبين، الجمعة بالعاصمة، كل من “ترانسبرانسي المغرب”، التي كان مسؤولَها، وهيئة المحامين بالرباط.

رمز حقوقي وسياسي قال نقيب المحامين السابق عبد الرحيم الجامعي إن الفقيد النويضي “رمز حقوقي وسياسي” كان يتأمل في المستقبل، ويرى بدايته مع نهاية الريع والفساد في الانتخابات وعالم المال، مشيرا إلى أن “نهاية سطوة المال والزبونية والمحسوبية لن تكون إلا ببناء حقيقي لدولة القانون والمؤسسات (…) عندما اقترب قلب الفقيد من نبضاته الأخيرة، واقترب من لحظة الوداع كان يطرح الأسئلة السياسية والفكرية والفلسفية الكبرى، الحرية في الحق، والحق في التنظيم، والحق في مساءلة من يمتلك السلطة والمسؤولية والقوة، ويرافع من أجل عدالة بلاده، ويحاول أن يمسح عنها الظلمة والظلم، وظواهر تزيد الهوة بين القضاء والمتقاضين والثقة بينهما”.

وتابع “هو من الكبار في مواقفه وسلوكه ونزاهته، منار لمجتمعه (…)، هو ممن إن كتبوا يعلّمون، وإن تحدثوا أقنعوا، وإن صمتوا تعلمنا ذبذبات قلوبهم الحلم الواسع”.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} واستعادَ الجامعي تساؤلاته وصديقه وزميله الراحل حول كيفية إصلاح القضاء، واسترجاع قطاع العدالة عدالته الحقيقية، في مسار تقعيد الأسس الثابتة لدولة القانون، وتأسيس نموذج مدرسة أخرى للمحاماة تقف أمام مواجهة انحدار سيادة القانون، والعبث بقيمته ومقوماته، والتصدي لسطوة الفساد والمفسدين والفاسدين، وحاجة المواطنين للقانون بالأخلاق والمساواة، ومهام المثقفين وحملة الضمير والفكر، ومهام نساء ورجال الإعلام والصحافة، ومكانة المنظمات المدنية لتتعبأ لخلق “مغرب الغد، وهو محصن بعدالة تحطّم التمييز والامتيازات والمحاباة والميوعة والفساد، عدالة لا مكان فيها لمعتقدات السيد والمسود أو الراعي والرعية، مغرب باقتصاد قوي وتنمية شاملة، وبتوزيع لثرواته ووقف نهبها والسطو عليها وتهريبها، مغرب الحريات، فردية وجماعية، منظمة بقانون عادل منصف لا يسرق بمسطرة مزيفة أو بسلطة التعسف والشطط”.

واعتبر أن الراحل النويضي، الذي “حمل بذلته وجاب المغرب من محكمة إلى أخرى، يدافع عن هذه المبادئ وينادي بالانتصار للمحاكمة العادلة فهي السبيل”، دون أن يستريح طيلة عمره، مشيرا إلى أنه “أسّس مدرسة الأخلاق والحرية”.

وخاطب رفيق دربه الراحل قائلا: “بهذه المدرسة ترى الألم يشدك لما يجري في فلسطين وغزة، وكنت تفكر بتنظيم محاكمة كبرى لمجرمي الحرب والمطبعين من كل الآفاق من البحر إلى البحر (…) وكنت تتهيّأ لها.

ستُعقد، فهي حق علينا لمناصرة شعب قهرته دبابة الحرب، ولم يكن لينتصر إلا بانتصار الشعوب على المطبعين كما هو حال الشعب المغربي”.

من جهته ذكر السياسي والأكاديمي محمد الساسي أن النويضي “لم يكن مجرد ناشط حقوقي من أجل ترسيخ مقومات دولة القانون وحقوق الإنسان وحماية المواطنين من كافة أوجه الخرق، وفضح الانتهاكات والتجاوزات، بل كان منظرا في الحقل الحقوقي، ومستوعبا لإشكالاته، ومنتجا لنظريات وحلول، ومتتبعا للمسألة الحقوقية في العالم، فربط النضال بالعلم والمعرفة، والاستفادة من الدروس والتجارب”.

وأضاف “في كلية الحقوق لم يكن أستاذا عاديا، بل عمل بإتقان ورهافة الفنان ليجعل الآخرين يتوصلون إلى القدر المطلوب من الفهم والإدراك وتذوق حلاوة الدرس ومعناه (…) وكان محاميا عادلا، ونصوص مرافعاته دروس قانونية قيمة”.

كما شدّد على سداد آراء واجتهادات الفقيد وما عُرف به من “نزاهة فكرية ونباهة علمية وحنكة نضالية”.

هذه الصفات، يردف الساسي، “منحته مصداقية عالمية لدى المنظمات الحقوقية ذات الصدى الواسع، واستندت على تقييمات وتحليلات له، ودعته باستمرار إلى مؤتمراتها وفعالياتها وفرق عملها (…)، ولا يمكن للحقوقيين ورجال وأساتذة القانون والباحثين في السياسة والإعلام والاجتماع الاستغناء عن الكتب والمقالات والأبحاث التي تركها، فهي متن غني تناول قضايا متعددة تهم حقوق الإنسان، والنظام الدستوري المغربي، وتجربة التناوب، وحصيلة الإنصاف والمصالحة، والانتقال، والعدالة الانتقالية، والصحافة المغربية أمام القضاء، وإشكالية التنمية، والمنظمات الدولية”، مشيرا إلى أن الراحل “كان شغوفا بالأدب والفنون أيضا”.

وتابع قائلا: “كان من دعاة توحيد اليسار الديمقراطي، وبذل من أجل ذلك جهودا مضنية، وحث رفاقه على لم الشتات، واقتنع بأن حزبا واحدا لا يمكن أن يكون بديلا عن الوحدة؛ فنادى بإطار موحد، وانخرط بفعالية وحماس في المؤتمر الاندماجي لفدرالية اليسار (…)، واختاره المؤتمرون عضوا في لجنة التحكيم والأخلاقيات اعترافا بحكمته وتبصره ونضجه السياسي وقدراته القانونية”.

وختم الساسي شهادته حول النويضي بالقول: “لقد كان شعلة متقدة بالحماس والحيوية، ثاقب الفكر والذكاء، محبا للحياة، متفائلا دائما، دائم الإنتاج، مرحا، متواضعا، منظَّما في تحركاته ونشاطه اليومي، مقدرا لقيمة الزمن، ينصح رفاقه وأصدقاءه بتغيير طريقة العمل، وهجر التقاليد البالية في العمل السياسي، والاستناد إلى العلم المعرفة والعقلانية في العمل الحزبي (…)، وكان رجلا استثنائيا، وحقوقيا متفانيا، وصاحب خبرة مشهودا له بها عالميا، وشخصية ودودة، ومواطنا سبق زمانه”.

وصايا أخيرة عزيز رويبح، نقيب المحامين بالرباط، قال إن ما عاشه مع النويضي في الأيام الأخيرة من حياته يجعله “ملزما أخلاقيا بالحديث عنه”؛ فـ”كل لقاءاتي معه، منذ اختياري نقيبا، كان فيها فعلا كأنه يعطي وصاياه الأخيرة لي وللجيل الجديد من المحامين والمحاميات”.

وأضاف “كانت كلماته كلها تقرن بين عالَمين: عالم المحاماة وعالم الصحافة، وكان يربط بينهما في كل كلماته وتحاليله، ويرى أن من المسؤوليات الجسيمة الملقاة على النقيب ومجلس هيئة المحاماة الإسهام في نشر ثقافة حقوق الإنسان في صفوف المحاميات والمحامين الجدد، معتبرا أنهم درعٌ واق للحقوق والحريات، والضامنون وحراس العدالة في هذا الوطن”، مشيرا إلى أنه “كان يركز على هذا الوعد بقوة”.

كما أوصى النويضي بالحفاظ على “جذوة النضال متقدة” لأنها “ساهمت بشكل كبير في التأسيس لحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون منذ سنوات الرصاص”، وظلّ صادقون “قابضين على جمرها إلى يومنا هذا (…) رغم العياء الذي بدأ يدبّ في الأجساد والعقول”.

وعلّق النقيب على هذه الوصية بالقول: “سنبقى أوفياء للدفاع عن الحقوق والإنسان والحريات ليكون البلد جميلا وقويا، ولا قوة (له) إلا بالديمقراطية ووطن الحرية وحقوق الإنسان كما تصورته وحلمت به ونحلم به”.

عادل لحلو، في كلمته نيابة عن “ترانسبارانسي” المغرب، استحضر “مواقف نبيلة” للفقيد كان لها “أثرها في المجتمع”؛ فهو “أحد أعمدة النضال الحقوقي والديمقراطي في بلادنا، ورمز من رموز الدفاع عن الحقوق والحريات، ومثال في الإخلاص والتفاني في الدفاع عن القضايا الإنسانية، وكان في مقدمة المدافعين عن حرية التعبير وحقوق الإنسان (…)، وهو صوت مؤثر في دعم القضية الفلسطينية ودعم المظلومين في كل مكان بإيمان راسخ بأن الإصلاح يمر عبر محاربة الفساد وإرساء منظومة وطنية للنزاهة”.

واستحضر لحلو أول دراسة أجراها الفقيد حول حق الحصول على المعلومات، كانت هي أساس الترافع حوله، الذي تُوّج بالمصادقة على قانون الوصول إلى المعلومات، قبل أن يصدَم بـ”تهديد حرية المعلومات والوصول إليها بسبب الاستثناءات في القانون الصادر، فاستمر في الترافع من أجل التعديل”.

كما ذكّر بخبرة الراحل المهنية والقانونية لتطوير منظومة القوانين ضد الفساد، ومن أجل المحاكمة العادلة، وتركيزه في “ترانسبرانسي” على “تعزيز آليات قانونية لمحاربة الفساد”.

جميلة السيوري، رئيسة جمعية “عدالة من أجل الحق في محاكمة عادلة”، ذكرت، من جانبها، أن الرئيس المؤسس للجمعية كان “أحد المناضلين الأحرار والأبرار للطيف الحقوقي، وعمل بتواصل وصمود، وبفكر وخبرة وإصرار، رغم ضيق فضاء الحريات الأساسية أحيانا، واستشراء اليأس أحيانا أخرى، واستمرار مسلسل انتهاك حقوق الإنسان، وفشل السياسات العمومية لإقرارها بشكل شامل وغير مشروط”.

هذا العمل لم يقم به من أجل “ريادة وقيادة أو مصلحة، بل كان حاضرا في كل المبادرات الحقوقية والمدنية والمحطات إلى جانب المدافعين عن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والأمن القضائي والقانوني”، وشارك في مظاهرات “20 فبراير”، وساهم في تأطيرها، وآزَر معتقلين سياسيين إلى جانب رموز في المحاماة من قبيل عبد الرحمان بنعمرو، وعبد الرحيم الجامعي، وعبد الرحيم برادة، وخالد السفياني.

وفضلا عن مرافعاته من أجل “حرية الرأي والتعبير”، أبرزت السيوري دقة وأهمية المفاهيم والحجج التي كان يوظّفها، وثراء كتاباته وإسهاماته التي “أغنت المكتبة الفكرية والقانونية”، مشيرة إلى أن النويضي أسهم في تطوير النقاش العمومي والقانوني بالإسهام في مذكرات، من بينها تلك التي وجّهتها جمعيات من أجل إصلاح القضاء قبل حركة “20 فبراير”، واعتُمدت من قبل فاعلين رسميين ومدنيين للإصلاح الدستوري وإصلاح القضاء.

وأضافت أنه أسهم في الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، وشارك في أول تقرير حول العدالة بالمغرب، وكانت له بصمته في دلائل حول حرية الصحافة والتعبير، وعيا بضرورة بناء “إطار جمعوي صلب”.

وفي سبيل حفظ ذاكرة وعمل النويضي، أعلنت السيوري عن “الشروع في تأسيس مرصد عبد العزيز النويضي للحقوق والحريات”، داعية إلى “دعم هذه المبادرة لصون ذكراه وعمله”.

أما نبيل النويضي، نجل الفقيد، فقال إن العائلة فخورة بإنجازاته، مؤكدا أنه سيبقى بالنسبة لها “رمزا للتضحية وقدوة صالحة” أفنى عمره من أجل الشأن الديمقراطي والكرامة الاجتماعية والعدالة ومعتقلي الرأي، إضافة إلى الدفاع عن القضية الفلسطينية التي رفض وسام شرف فرنسيا تضامنا معها.

رمزية لقاء الوداع مسير لقاء التأبين وصديق الفقيد، الصحافي رشيد البلغيثي، قال إن هذا الموعد “إعادة وبعث واسترجاع واحتفاء” بالنويضي لـ”إحياء القيم التي عاش بها وأجلها، واحتفاء بما أنجز، والقانون الذي درّس، وحوله إلى درع في ساحة المحاكم للدفاع عن الحريات”.

وأضاف أن النويضي كان مؤمنا بـ”أهمية التكوين والنقاش”، اللذين يصبان في “واد كبير ومهم هو العمل السياسي من أجل مغرب متعدد وديمقراطي”، خدمه من جانب “الأسرة التقدمية الكبيرة”.

كما تذكّر ابتسامته التي كان “يفشيها في الناس”، وعمله “الموفِّق الجامع لهم”، قائلا إن هذا اليوم التأبيني “احتفاء باعتداله”، فهو “المشارك في اللجان إذا كانت في ذلك خدمة للوطن، والمعارض في الميدان إذا كانت في ذلك خدمة للوطن”، قبل أن “يتوفاه الله أمام الميكروفون رافعا صوته من أجل الكرامة”.

ومن بين ما تطرّقت إليه كلمة رشيد الفيلالي المكناسي، القيادي بمنظمة “ترانسبرانسي المغرب”، “براغماتية النضال” لدى النويضي، مقدما مثالا على ذلك بـ”الإثراء غير المشروع”، الذي لدى المنظمة قناعة بأنه ينبغي “العمل من أجل تجريمه”، بينما عبّر في آخر لقاءاته عن رؤيته أنه يمكن “مصادرة الأموال ربما دون السجن”، وهو ما فسره بأن “هذا النص ظل جامدا سنوات، فطرح هذا الحل البديل مفكرا في فتح المجال لمناقشة جديدة للموضوع بالتزامات دولية”.

كما شهد على أيام الإعداد الأخيرة للمجلس الوطني لـ”ترانسبارانسي المغرب”، التي أكّد خلالها، بوصفه كاتبا عاما، على ضرورة إعطاء أهمية خاصة “لغزة وقضية فلسطين، والحالة التي وصلت إليها هيئات الحكامة ببلادنا في ظل مأساة هيئة المنافسة، وتراجع الحكومة عن الخطة الوطنية لمحاربة الفساد”.

السياسية والبرلمانية السابقة حسناء أبوزيد استدعت، من جهتها، رمزية اللقاء الصحافي المصور الأخير للنويضي الذي توفي أثناءَه، وقالت: “هو مناضل فاعل قابض على الهم السياسي ببلادنا (…)، لا نستطيع إهمال رمزية لقاء وداعه؛ فقُدّر له أن يسافر إلى النهاية في بذلة كاملة، أناقة كاملة، وابتسامة كاملة، وأطروحة كاملة، وخطة نضالية متكاملة الأركان على الأثير، ما يقابل استشهادا في ساحة الشرف”.

وأردفت قائلة: “متّعه القدر بشرف تأبين نفسه بنفسه، والأثير يوثق الصفحة الأخيرة من حياته (…)، وقال إنه فعلا وقولا من زمرة من صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وما بدّل تبديلا، وأكد الموت ذلك بعد الشهادة”.

وأبرزت “قوة هذه الحالة النضالية، التي تكمن في طاقة الأمل النابعة من إيمانه بفكرة التغيير من داخل المؤسسات (…)، مع صبر بموضوعية علمية، وتفكيك لمعضلة التغيير في الاستمرار والتدرج والانتقال، والبناء على المكتسبات ضد حملات التراجع المكلفة”.

ومن بين الوصايا التي تركها النويضي، وفق أبوزيد، “ضرورة قراءة أعطاب تدبير الشأن العام، وحالة الانتكاس التي ترزَح تحتها طموحات الإصلاح (…)، والصبر لتسليط الضوء على خطر الزبونية السياسية، والصراع من أجل الدمقرطة والتحديث”.

وبالتالي لم تكن “تقوية الصرح الديمقراطي ببلادنا كلاما نخبويا أو انتهازية أو حشوا، بل إصرارا لدعاة الإصلاح من داخل المؤسسات، وتعبيرا عن حس ومسؤولية وطنيين، فهو في حد ذاته صمام أمان ضد حالة الاضطراب العالمي، ولا نملك غيره لتحصين بلادنا وشعوبنا” في ظل الأفق المجهول للعولمة.

وختمت أبوزيد، مستلهمة أطاريح الراحل النويضي، قائلة: “المجتمع أول الفاعلين لضمان الاستقرار والتنمية والتحديث وصوت المجتمع الفعل السياسي والسياسة الجادة (…)، ولا يتحقق الاستقرار والتنمية دون فعل سياسي حقيقي (…)، أما تعطيل ورش الدمقرطة وتغليب الزبونية السياسية فينتجان مجتمعات غير مبالية، تعوزها الوطنية غير الحقّة، باستقرار هش مستنزف للحقوق والحريات وقيم المواطنة”.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 2 أيام | 8 قراءة)
.