الحرب على غزة بين الجمود العسكري والعجز السياسي

تشهد الحرب على غزة حالة من الجمود في الميدان العسكري، فلا قوى المقاومة، رغم الأداء البطولي، أو الجبهات المساندة في لبنان واليمن – قادرة على تصعيد المقاومة إلى حدّ يجبر الاحتلال على الاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني المحقّة والعادلة، ولا الاحتلال – وحلفاؤه وبالذات الولايات المتحدة الأميركية – قادر على فرض إملاءاته، أو تحقيق أهداف حربه الدموية.

لم يستطع هؤلاء القضاءَ على المقاومة وتجريدها من سلاحها، ولا استعادةَ الأسرى لدى المقاومة، كما أنهم لم يتمكنوا من فرض أية صيغة إدارية لقطاع غزة بعيدًا عن حركة حماس، فحتى يومنا هذا لم توافق أي من الدول على المشاركة في قوات دولية أو عربية تتولى إدارة القطاع، ولم تقبل أي من القوى الفلسطينية المحلية: العشائر والوجهاء ورجال الأعمال وقوى المجتمع المختلفة، التعاونَ مع الاحتلال في هذا الشأن، وما زال الشعب الفلسطيني ومقاومته يظهرون صمودًا استثنائيًا.

عجز دولي وإقليمي وعربي بموازاة ذلك تستمر حالة الجمود والعجز في المشهد السياسي المرافق للمعركة على مختلف المستويات: المحلية والإقليمية والدولية، فلا مقاربات قادرة على تجاوز الأزمة، ولا مبادرات سياسية عملية مطروحة.

لقد فرضت موازين القوى الدولية، التي ما زالت تميل بشكل كبير لصالح الولايات المتحدة الأميركية الحليف والراعي للكيان الصهيوني، استمرارَ تفرُّد الولايات المتحدة بملف الصراع، وأظهرت عجزًا واضحًا في سلوك المنظومة السياسية الدولية والإقليمية، ومؤسسات المجتمع الدولي، فلم يتمكن أي طرف من تقديم مخرج سياسي معقول ومقبول لدى الطرفين: "المقاومة والاحتلال".

وبما أننا نعيش في موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية، بالإضافة للعوامل الأخرى الكثيرة التي تقف خلف الانحياز الأميركي المطلق للاحتلال الصهيوني، فإنّ الولايات المتحدة ترفض وتعيق ممارسة أي ضغط حقيقي وفعّال على حكومة الاحتلال – التي هي بطبيعتها يمينية فاشية – للقبول بصيغة يمكن أن تفتح أفقًا سياسيًا للفلسطينيين.

فلا حديثَ جادًا عن الدولة، ولا نقاشَ لمشروع سياسي يعطي الأمل للفلسطيني بإمكانية إنجاز بعضٍ من حقوقه السياسية، وإنما يستمر الموقف الأميركي بالرضوخ والاستجابة والتماهي مع الحكومة الفاشية في إسرائيل.

يستمر القتال في غزة دون أن يستطيع أحد الطرفين حسمه، وذلك فيما يتواصل حال الجمود والعجز في المشهد السياسي الدولي والإقليمي والعربي، فإلى أين يمكن أن يقودنا ذلك؟ عربيًا أعاد العجز السياسي المرافق للحرب على غزة التذكيرَ بأن النظام العربي ما زال مفككًا وضعيفًا، حتى وإن حاول التحرك ولو شكليًا – كما يحدث في الجامعة العربية – فإنه لا يمتلك رؤية واحدة ولا توافقًا على القضية الفلسطينية ومستقبلها.

وبدا أيضًا أن عددًا كبيرًا من دول العالم العربي وكأنها على غير ذي صلة بالموضوع، ومنفصلة تمامًا عن القضية الفلسطينية وتطوراتها.

أما الدول التي تتفاعل وتهتمّ بالحرب فليس لديها القدرة، وقد يكون ليس لدى بعضها الرغبة في بلورة مشروع سياسي يمكن أن يشكل مخرجًا لهذه الحرب.

فلسطينيًا فإن عجز القيادة السياسية الرسمية الفلسطينية، وهامشية دورها، إن وُجد، في هذه الحرب، هو من أبرز ملامح هذه المرحلة، ولعلّه من أهم نقاط ضعف الحالة الفلسطينية.

فقد حرصت قيادة منظمة التحرير، والسلطة الفلسطينية على أن تظهر وكأنها ليست جزءًا من المعركة، وغير معنية بما يجري من حرب في قطاع غزة، ولا بالصمود الاستثنائي للشعب الفلسطيني، ولم تتصرف استنادًا لكونها قيادة، ولم تتحرك للحديث عن دورها القيادي إلا في إطار المناكفة السياسية الداخلية أو التعطيل.

فلا وجود لمبادراتٍ سياسية على المستوى الوطني، ولا تحركٍ سياسي على المستوى الإقليمي والدولي، ولم تقدِم على أية خطوة سياسية أو حركة عملية يمكن أن تساهم أو تشكل مدخلًا لوقف العدوان وإنهاء الحرب.

وتتواتر الأخبار عن الإصرار على إدارة الظهر لكل المبادرات الوطنية الفلسطينية، وحتى العربية والإسلامية الهادفة للمّ الشمل، وترتيب البيت الفلسطيني كمتطلب أساسي لوقف الحرب.

وفي هذا الإطار، يمكن الادعاء بأنّ استمرار الواقع السياسي الفلسطيني كما هو عليه، يزيد من أمد الحرب ويعيق الوصول إلى اتفاق لوقفها.

 سيناريوهان محتملان وعليه فالجمود في المشهد العسكري والذي يوازيه عجز وجمود في المشهد السياسي، حال دون التوصل إلى مخرج لهذه الحرب، وبالتالي لن تضع هذه الحرب أوزارها في المدى القريب، وفي ذات الوقت فإن الصيغة القائمة لا تصلح للاستمرار طويلًا؛ لاعتبارات كثيرة مرتبطة بكافة أطراف الصراع والمتأثرين والمؤثرين فيه.

وبالتالي سنكون أمام السيناريوهين التاليين: الأول: التصعيد النوعي وتوسع المعركة إذ قد يلجأ أحد طرفي الصراع لتصعيد نوعي كبير؛ كي يجبر الطرف الآخر على الاستجابة لشروطه والنزول عند مطالبه السياسية، وهنا إما أن تقوم المقاومة وحلفاؤها في المنطقة بالتصعيد النوعي الذي يجبر الاحتلال على التجاوب مع مطالب المقاومة، المتمثلة في وقف الحرب والخروج من قطاع غزة، وإنجاز صفقة التبادل وإعادة الإعمار، وما إلى ذلك.

أو قد تقدِم الولايات المتحدة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي على تصعيد نوعي في المنطقة، بشنّ حرب على لبنان، أو تصعيد الاشتباك بشكل مباشر مع إيران واستهداف الأراضي الإيرانية؛ بهدف الضغط من أجل فرض الإملاءات، ومساعدة الاحتلال الإسرائيلي على إنجاز أهدافه المعلنة للحرب.

في كلتا الحالتين سنكون أمام تصعيد استثنائي، نوعي، ولا يمكن التنبؤ بنتائجه، ولا بالمنتصر فيه.

لكن يمكننا – استنادًا إلى طبيعة الأشياء وحقائق التاريخ – أن نتوقع – وكون الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق، وهو الذي يقاتل دفاعًا عن حقوقه الأساسية، ويدافع عن أرضه وحريته وكرامته – أن يصمد في مواجهة أي تصعيد للعدوان، ويواصل مقاومته وصولًا لإنجاز أهدافه الوطنية المشروعة.

كما أن الولايات المتحدة الأميركية لديها سجل طويل من الفشل في المنطقة في التعامل مع القضايا القومية والوطنية، والاحتلال الإسرائيلي أصبح دولة غير قادرة، بل وعاجزة عن إنجاز أهدافها بذاتها، وعليه فإن تطورًا من هذا النوع، على الأرجح، سيصبّ في صالح القضية الفلسطينية ومقاومتها.

المشهد ما زال مرشحًا لمثل هذا التطور ما لم تبادر قوى إقليمية ودولية فاعلة وقادرة على بلورة رؤية سياسية تخدم المشروع الفلسطيني، والقضية الفلسطينية، وتتحرك بشكل جادّ وفاعل، وتضغط في كل اتجاه، من أجل إعطاء الفلسطينيين ما يمكن أن يقنعهم بوقف هذه الحرب، وإنجاز حدّ معقول من الحقوق للشعب الفلسطيني بعد كل ما قدّموه من تضحية وبطولة وصمود، ويلجم هذا التوحّش والإجرام والممارسات الدموية التي يقترفها الاحتلال منذ ما يقارب سبعة أشهر.

الثاني: حرب استنزاف ممتدة  الممكن الآخر هو الاستمرار بذات الوتيرة من المواجهة مع تغيّر نسبي في المستوى بين الحين والآخر.

مما يعني أن تتحول المواجهة إلى ما يشبه حرب الاستنزاف طويلة الأمد، أو موجة نضال ومواجهة فلسطينية جديدة، تشبه إلى حد كبير ما حدث في الانتفاضة الأولى عام 1987م، والانتفاضة الثانية عام 2000م، ما فارق في طبيعة ومستوى المواجهة، وهو أمر معتاد في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، فلكل مرحلة نضالية سماتها وخصائصها التي تميزها عن غيرها.

وهذا السيناريو مرتبط بشكل كبير بعوامل ومؤثرات غالبيتها ليست فلسطينية.

فإذا كانت الدول المؤثرة في المواجهة – وبالذات الولايات المتحدة الأميركية، وإيران، وحكومة الاحتلال – لديها قرارات قاطعة بعدم المشاركة في حرب إقليمية واسعة ومباشرة، وغير معنية لأي سبب كان بأن تنخرط في تلك المواجهة، فسيبقى المشهد على حاله، وستستمر هذه الدول وغيرها في إسناد المعركة، وممارسة أقصى أنواع الضغط ضمن سقوف محددة متفق عليها ضمنًا، ويبقى كل طرف يعوّل على عامل الزمن وما قد يفعله بعدوّه.

مما يعني الدخول في مرحلة استنزاف طويلة الأمد قد تستمر أشهرًا طويلة، إن لم تكن سنوات.

هذا السيناريو على ما يحمله من تحديات ومخاطر على الفلسطينيين، فإنه قد يفتح المجال أمام الشعب الفلسطيني؛ كي يتحول إلى مواجهة شاملة ينخرط فيها كل الشعب الفلسطيني، ولا تقتصر على قطاع غزة وحده.

كما أنه أيضًا قد يشكل فرصة لقوى كثيرة في المنطقة للاستثمار في هذه اللحظة التاريخية والانخراط في المواجهة مع المشروع الصهيوني، بوصفه مشروعًا استعماريًا يستهدف المنطقة برمتها.

فقد ترتفع وتيرة المواجهة الحالية وتتوسع لتطال ساحات ومواقع متعددة في الإقليم.

كما أن هذه المواجهة الممتدة ستحمل في ثناياها مخاطر جمّة، على مشاريع دولية وإقليمية، وكذلك على عدد من الأنظمة والدول في المنطقة؛ لأنَّ التباين الواضح في المواقف بين الشعوب والأنظمة سيتطور ويزداد مع الوقت، مما يشكل خطرًا على استقرار عدد من الدول في المنطقة.

إن الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته وقواه، وكذلك القوى والشعوب والدول الداعمة للحق الفلسطيني والمدافعة عن القيم الإنسانية، أمام فرصة تاريخية لمواجهة قوى الهيمنة والاستعمار والعنصرية والتطرف ولجم هيمنتها ونفوذها، وإن الاستثمار في هذه اللحظة التاريخية هو مسؤولية كل المؤمنين بقيم العدالة والحرية والكرامة الإنسانية، فقد أضحت القضية الفلسطينية هي المعبّر الحقيقي العالمي عن هذه القيم، وعليه فواجبُ نصرة غزة والفلسطينيين هو واجب، وطني وقومي وأخلاقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

الوكالات      |      المصدر: الجزيرة    (منذ: 2 أسابيع | 3 قراءة)
.