إعدام مُعلمة وابنها الطبيب.. تفاصيل حكاية كتبت برصاص إسرائيلي

غزة– عندما استرق الفلسطيني سعيد المقادمة النظر من الشُباك رأى العشرات من جيرانه يسيرون شبه عُراة باتجاه الجنوب، فيما ألسنة النيران تلتهم البنايات المجاورة وصوت الرصاص والانفجارات لا يتوقف.

حينها، أدرك الرجل الستيني، الذي كان يعيش في شقة تقع ببناية سكنية مجاورة ل بمدينة ، برفقة زوجته الدكتورة يسرى وابنه الطبيب أحمد، أن أياما عصيبة للغاية تنتظرهم.

ولجأ المقادمة للشقة بعد تدمير منزله في منطقة الرمال الجنوبي على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، والذي لاحقه إلى سكنه الجديد وحاصر مجمع الشفاء والمنطقة المحيطة في 18 مارس/آذار الماضي.

لم يخب ظن المقادمة، فبعد 5 أيام من الحصار، وتحديدا في ساعات الفجر الأولى من يوم 22 مارس/آذار، دهم جنود الاحتلال الشقة بشكل همجي، وبدؤوا بالتحقيق مع الأسرة.

أمطر ضباط المخابرات الإسرائيلية عائلة المقادمة بالأسئلة، وخاصة حول طبيعة عملهم، ولما علموا أن "أحمد" يعمل طبيبا في مستشفى الشفاء، بدوا وكأنهم قد عثروا على "كنز".

يسرى المقادمة حاصلة على الدكتوراه في الفلسفة وتعمل منذ نحو 30 عاما مدرّسة رياضيات (مواقع التواصل) كسر أضلاع على الفور، اقتاد الضباط الطبيب أحمد المقادمة إلى إحدى غرف المنزل للتحقيق معه بشكل منفرد، وخلاله سمع الأبوان إطلاق نار فأصابهما الرعب، حيث اعتقدا أن الجنود قد أعدموه، لكنهما علما لاحقا أنهم أطلقوا النار أسفل قدميه وخلف رأسه في محاولة لإرهابه، بعد تعذيب أسفر عن كسر بعض أضلاع صدره وقدمه.

بعد انتهاء الفحص الأمني والتحقيق مع الأسرة، والذي استمر قرابة 45 دقيقة، أمر الجنود الأب سعيد، وابنه الطبيب أحمد بخلع ملابسهما، والنزوح مع الأم يُسرى، إلى جنوب القطاع.

وعند الساعة السادسة صباحا، بدأت الأسرة بالتحرك، وسط رياح باردة، وكان أحمد يعاني من آلام مبرحة جراء التعذيب والكسور التي أصابت أضلاعه وقدمه، كما أنه كان غير قادر على التنفس بشكل طبيعي، كما أخبر والده.

في الطريق، قرر الأب سعيد المقادمة البقاء في غزة، وقال للجزيرة نت، إن نفسه لم تطاوعه على النزوح كونه يرفض الفكرة منذ البداية، وأخذ عهدا على نفسه بعدم الخروج من شمال قطاع غزة، لإفشال مخطط الاحتلال بتفريغه من السكان.

وبالفعل، تمكن من الاستدارة عبر طريق فرعي، والاتجاه شرقا.

لكنّ الطبيب أحمد قرر التوجه نحو الجنوب، لرؤية زوجته وأطفاله النازحين هناك منذ بداية الحرب، وقررت والدته مرافقته، لمساعدته خلال الطريق، ولرؤية أحفادها.

نزوح لم يكتمل بعد عدة دقائق، سمع الأب سعيد صوت إطلاق نار، فانتابه شعور عميق بالخوف، فاتصل بزوجته التي كانت تحمل هاتفا، لكنها لم ترد.

وبعد عدة ساعات، وخلال الأيام اللاحقة، تواصل الأب مع زوجة ابنه أحمد، الطبيبة إسراء عبد الهادي، المقيمة في الجنوب، لكنها أخبرته أنهما لم يصلا.

استبد القلق والخوف بالأب سعيد المقادمة على مدار 10 أيام كاملة، كانت قوات الاحتلال تتواجد فيها في محيط مجمع الشفاء الطبي وتعيث فيه خرابا، دون أن يملك أي خيارات للبحث سوى الاتصال بين الفينة والأخرى بكنّته، لعل وعسى أن تحمل له البُشرى بوصول زوجته وابنه، لكن إجاباتها كانت تعمّق مخاوفه.

وبعد انسحاب الجيش من المنطقة، بداية أبريل/نيسان الجاري، بدأ المقادمة رحلة بحث جديدة في الطريق المؤدي من مجمع الشفاء، نحو الجنوب.

وكانت الفاجعة تنتظره، حيث عثر عليهما، جثتين هامدتين، زوجته الدكتورة يسرى ملقاة على الحجارة، ونجله الطبيب أحمد بجوارها، بعد أن فارقا الحياة برصاص قوات الاحتلال التي أعدمتهما وهما ينفذان تعليماتها بالنزوح نحو الجنوب.

ما يزال الأب الثاكل يعيش تحت وقع الصدمة وغير قادر على تفسير سلوك قوات الاحتلال، داعيا إلى تحقيق دولي نزيه حول هذه الجريمة وغيرها من جرائم الإبادة الأخرى بحق المدنيين الفلسطينيين العزل.

كانت زوجة أحمد المقادمة وأطفاله بانتظاره في جنوب غزة قبل أن يستشهد في الطريق (مواقع التواصل) تقاسم الفاجعة حرم الاحتلال الأب سعيد من نجله أحمد الذي لم يتجاوز 33 عاما من عمره، وكان ينتظره مستقبل واعد كطبيب تجميل، كما حرمه أيضا من زوجته يُسرى (58 عاما)، الحاصلة على درجة الدكتوراه في الفلسفة، وتعمل منذ نحو 30 عاما مدرّسة رياضيات في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا".

وكانت يُسرى تؤجل قرارها بالتقاعد المبكر، حتى ترى حفيدتها آيات (5 أعوام)، الابنة الكُبرى لأحمد، في الصف الأول الابتدائي، ولكن الاحتلال حال دون ذلك وحرمها من لُقيا حفيديها الآخرَين سعيد (4) سنوات، وعمر (8 أشهر).

ويعد إعدام الطبيب أحمد المقادمة ضربة قاصمة لطب التجميل في منطقة شمالي القطاع، الذي يعاني شحا كبيرا من المختصين في هذا المجال، بعد أن أجبر الاحتلال غالبيتهم على النزوح.

ويختص أحمد في طب التجميل منذ عام 2016، وتطوع لخدمة المرضى في 5 مراكز طبية في شمالي القطاع.

وفي جنوبي قطاع غزة، تتقاسم الطبيبة إسراء عبد الهادي، الفاجعة مع حماها المقيم في الشمال، فبعد أن كانت تنتظر وأطفالها الثلاثة، رؤية زوجها على أحر من الجمر، بعد أن فرّق الاحتلال شمل الأسرة، صُدمت بنبأ إعدامه بدم بارد، وحُرمت حتى من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه.

وحتى اللحظة، لا تمتلك عبد الهادي الجرأة لإخبار أطفالها بنبأ استشهاد والدهم، كما تقول للجزيرة نت.

وتضيف "كان أحمد مثالا في التفاني والنشاط، يخدم المرضى والجرحى بلا تردد، وفعله أكثر من كلامه، زاهدا في حياته، محبا للخير".

أما حماتها الدكتورة يُسرى، فكانت -حسب عبد الهادي- "بمثابة الأم، مثقفة، فاعلة للخير، كافلة للأيتام، محبة للأعمال التطوعية والخدمية، حيث عملت منذ بداية الحرب، في مراكز الإيواء، ضمن الأنشطة التثقيفية والخدمية للنازحين".

الوكالات      |      المصدر: الجزيرة    (منذ: 1 أسابيع | 3 قراءة)
.