فكر التكفير

التكفير ليس جديدا في تاريخ الصراعات الدينية، بل هو قديم قدم العنف البشري، فحتى في المراحل السابقة على الديانات الموحدة كان الناس يخافون من الأرواح التي تزهق، إذ اعتقد أنها تظل تطارد القاتل إلى أن تنال منه.

وليصير القتل مشروعا اخترع المحاربون لعبة التكفير، هربا من هوس مطاردة الأموات والقتلى لهم، فكان الفكر المسيحي مطورا لها إبان مواجهاته مع اليهودية والوثنية، ليتحول القتل إلى طريقة لنيل رضى الله.

ولم يستطع الإسلام في تأويليته لضرورة مواجهة الأعداء التخلص من هذه النزعة، فلماذا تخلص منها الفكر المسيحي، وإلى حد ما حتى اليهودية، بينما بقيت لصيقة بالمسلمين؟.

1 التكفير لم تكن فكرة التكفير تشغل بال الحضارة الإسلامية إبان أيام مجدها، فقد حاور المسلمون كل الملل والنحل، وحتى غير الدينيين لم يشكلوا حرجا لرجالات الدين عندما كانوا أهل فكر، لا يشعرون بأي عقدة ذنب أو نقص تجاه المختلفين عنهم، لكن تراجع الإشعاع العلمي والثقافي للحضارة الإسلامية جعل قاعدة المتعلمين تضيق لتتسع قاعدة الجمهور، فصار للفكرة روادها، وهنا بدأت عمليات التبسيط لفهم القيم الدينية الإسلامية، وخوفا عليها من الفشل في مواجهة المختلف عنها ثقافيا وعقديا شحن الذهن الشعبي الإسلامي بالكره لكل مختلف عنه، فبدا الإسلام في نظر عامة الناس مهددا، ما سمح بالبحث عن مبررات التصفية لمن لا يقدسون الآثار الموروثة والمحكيات غير الممحصة، فتمت تصفية حتى بعض المسلمين من ذوي النظر العقلي والرؤية الموسوعية بحجة حماية الملة والدفاع عنها بعد أن أقفلت أبواب الجهاد في وجوه السيافة والمجاهدين المستنفرين لإيمان العنف والثغور.

ولم يعدم أهل الجمود الفكري دعاوى التحريض على التكفير بآيات كانت سياقاتها حربية أو شبه حربية، لتتحول إلى واجب شرعي، ومبرر للتصفية الجسدية للخصوم وتصويرهم بمثابة أعداء لله والشريعة الإسلامية.

وتطورت هذه الصراعات بمسوغات سياسية اعتبرت أن المرتد والزنديق هو كل محاور عقلاني، أو مجادل في ما حسم فيه، فلم يكن من الغريب أن #div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} تنبعث هذه الدعوات من الجماعات التي كيفت الإسلام سياسيا في معاركها مع تجمعات مغايرة لها عقديا، فكانت في كل من الهند وباكستان وغيرها من المناطق الإسلامية، حيث وجدت أقليات غير إسلامية، سباقة للتكفير، حماية لذاتها، وممهدة لانشقاقات وطنية، وطالبة باسم التضامن الإسلامي من دول النفط دعمها في معركتها ضد الكفر.

2 التقتيل إضافة إلى ما سبق فقد عاش المسلمون منذ أيام الخلافة صراعات سياسية، أصبغت عليها لبوسات دينية، لجر الأتباع وحثهم على التكتل عقديا بغية إخفاء النزوعات القبلية، التي استغلت للاستقواء بالقبيلة سرا، والبحث عن دوافع زهدية تجعل المعارك دينية في عمقها.

ولأن تلك المعارك خلفت جروحا غائرة في الوعي العربي الإسلامي فقد بقيت متحكمة في الصراعات، يتم استحضارها لإخفاء المصالح؛ وهنا اشتدت الحاجة من جديد إلى شرعنة التقتيل باسم حماية الدين الإسلامي، فكفر المسلمون بعضهم بعضا، ضربا لمشروعية الحكم ومن هم على سدته، أو التشكيك في إسلامية الداعين لإسقاط الدولة المالكة لزمام الحكم، فلم يكن العنف قانونيا وإنما شرعيا بالمعنى العقدي، لتحرير الفاعلين من عقدة الذنب، بما يشكله القتل من جريمة شنعاء لا تغتفر، سماها المسلمون بالكبيرة، واحتلت كحد بديلا للجهاد ضد الأجانب، أو غير المسلمين.

إنها دينامية لحفظ الوجود والتنفيس عن الشعور بالدونية تجاه الغير، ورفض لكل الأفكار التي يبشر بها حتى إن كان الداعون إليها مسلمين ينزع عنهم هذا الانتماء تبريرا لتصفيتهم والتخلص منهم، حتى وإن كانوا حملة أقلام وأفكار.

3 الإفتاء صيغة الإفتاء تعني الحسم في ما يتطلب قولا فصلا، ليتحمل المفتي وزر فتواه، فهو إعلان للقتل وإبراء لذمة القاتل، الذي يصير مطبقا لأمر إلهي، رغم أن المفتي بالجريمة فقيه أو متبحر في أمور الشريعة، فكأنه القاضي الحاسم في النوايا، الذي يؤسس فتواه على ما بدر من المعني من سلوكيات أو أقوال، يطبق عليها قياسات أثرية حدثت في زمن الحروب، ليقدمها في صيغة قول شرعي.

وبذلك يعتبر المفتي نفسه مجرد مقايس لواضح الشريعة في الردة، أو الجحود العقدي، دون أن يكلف نفسه، عناء التساؤل عمن خول له هذا الحق، في ظل التطورات التي يعرفها العالم المتمدن في التعامل مع المحكومين بالإعدام، والصراعات التي تخوضها الإنسانية لحفظ حياة الأفراد والجماعات، باعتبارها حقا، لا ينبغي أن تطاله المبادرات المستهترة بأرواح الناس مهما بلغت درجة الاختلاف معهم، وإلا سيكون عليه إصدار أحكام حول كل من نطق بكلمة في حق الإسلام والمسلمين، وهذه مؤشرات على إشعال فتن الصراعات الدينية أو حتى التوجهات الدينية داخل الديانة الواحدة، وهو ما لا يمكن قبوله.

4 التكفير: في المغرب هذه الآلية غريبة في التاريخ المغربي، ولم تظهر إلا نادرا، لكن الحركات الإسلامية المغربية، وبفعل تأثرها بالتقاليد السلفية المشرقية، تبحث عن الأضواء، كمحاولة لجس نبض الشارع المغربي، وكل قواه السياسية والمدنية وحتى الثقافية، وقد بلغت حد تكفير شهداء يساريين ومفكرين، وامتدت للكاتب العام لحزب الاتحاد الاشتراكي، ليبدو المفتي غيورا على القيم الشرعية الإسلامية، ليحول الصراعات السياسية بين كل من حزبي الاتحاد الاشتراكي المعارض والعدالة والتنمية الحاكم إلى صراعات دينية، وهي لعبة غايتها عزل الاتحاد وكل قوى اليسار، في الزاوية، وليثبت العدالة والتنمية أن لديه متطرفيه حتى خارج جمعية الإصلاح والتوحيد، الذراع الدعوية للحزب، ما يفرض على كل القوى المدنية الحداثية واليسارية اعتبار المعركة جدية في توقيتها وأدواتها.

خلاصات: لا محيد عن مواجهة الفكر التكفيري، سياسيا وثقافيا وحتى قانونيا، فهذه معركة توعية بخطورة استخدام الإسلام سياسيا أو التهديد به، من خلال شحن عقول الناس بالعنف واعتباره جهادا، بينما الجهاد الحقيقي هو التخلص من براثن التخلف والإقلاع الاقتصادي الذي لو تحقق لما وجدت هذه الأفكار الإفتائية من ينصت لها أو يعيرها انتباها.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 2 أسابيع | 3 قراءة)
.