اليهود والفلسطينيون والإنسانية على مسرح الأوسكار

إن البثّ التلفزيوني لحفل توزيع جوائز الأوسكار السنوي في لوس أنجلوس، ليس برنامجًا تلفزيونيًا عاديًا.

ففي كل عام – في ليلة يبدو أنها تمتد لفترة أطول من الطبيعي – يمتلئ المسرح لساعات بسحر أكثر مشاهير هوليود القديرين، وتتخلله عروض باهظة، فيما أصبح حدثًا تلفزيونيًا عالميًا.

ويقدم نجوم السينما أنفسهم جوائز الأوسكار التمثيلية الذهبية والقيمة للغاية لأقرانهم.

وتكون ترشيحات جائزة الأوسكار رسميًا لأولئك الذين يعتبرون المنتجين والمخرجين ونجوم أفضل الأفلام التي تم إصدارها في العام السابق.

ويبدأ البثّ بأبّهة واحتفال مع وصول نخبة هوليود.

وبعد أن تطأ أقدامهم الأرض من السيارات الفاخرة، تتابعهم الكاميرات على السجادة الحمراء، وهم يرتدون ملابس مصممة بآلاف الدولارات، وجواهر متلألئة من تصميم علامات تجارية مشهورة.

وقد شاهد البث التلفزيوني لحفل توزيع جوائز الأوسكار السنوي السادس والتسعين الذي تم بثه في 14 مارس/آذار 2024 ما يصل إلى 19.

5 مليون شخص.

وبينما كان الجمهور يشاهد، كان الأشخاص المحتفى بهم في تلك الليلة يتحدّثون بشكل مباشر وغير مكتوب، وكان ما قالوه مهمًا للغاية.

في اليوم التالي، عادة ما تنشغل وسائل الإعلام بما قيل حول مظهر المذيعين والحاضرين وما يرتدونه، ومن تصرف بشكل سيئ، ومن فاز بجائزة الأوسكار.

ولكن عندما فاز المخرج البريطاني جوناثان غليزر بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم روائي طويل دولي عن فيلم "ذا زون أوف إنترست"، قلب تصريحه أثناء تسلُّم الجائزة عالم المشاهير رأسًا على عقب، وطغى على الكثير من الصخب الذي أعقب البثّ التلفزيوني.

يقدّم فيلم "ذا زون أوف إنترست" نظرة جديدة على مفهوم تفاهة الشر عند الفيلسوفة حنا أرندت.

يتناول الفيلم الحياة اليومية للأشخاص المتواطئين في جرائم مروعة، حيث يصور عائلة القائد النازي رودولف هوس الذي أشرف على معسكر الاعتقال أوشفيتز، وكيف تمتع هو وزوجته المدللة الطموحة بمنزل آمن ومريح مع أطفالهما الذين يلعبون على أرض ممتلكاتهم.

وعند جدار حديقتهم مباشرة، تنفث المداخن أبخرة داكنة من الجثث المحترقة في محرقة الجثث.

نظرة للماضي وبيان للحاضر أوضح غليزر -عندما صعد على المسرح- أن الفيلم عبارة عن نظرة نقدية للماضي، وهو أيضًا بيان عن الحاضر.

وقال للجمهور: "كل اختياراتنا اتخذت لتعكسنا وتواجهنا في الحاضر، لا أقول انظروا إلى ما فعلوه آنذاك، بل انظروا إلى ما نفعله الآن.

يُظهر فيلمنا إلى أين يؤدي التجريد من الإنسانية في أسوأ الحالات، لقد شكل كل ماضينا وحاضرنا".

أساء بعض المعلقين الإعلاميين تفسير كلماته، وفي بعض الحالات كان ذلك عن عمد.

وفي إشارة إلى ضحايا 7 أكتوبر/تشرين الأول والهجوم الإسرائيلي على غزة، قال غليزر لجمهور حفل توزيع جوائز الأوسكار: "الآن نقف هنا كأشخاص يدحضون يهوديتهم والمحرقة التي اختطفها الاحتلال الذي أدى إلى مصرع العديد من الأبرياء".

بهذه الكلمات عبّر عن مشاعر العديد من اليهود الذين طالبوا بوقف إطلاق النار، وعملوا على وقف الإبادة الجماعية في غزة.

ويعارض غليزر أن يتم استخدام يهوديته كسلاح لدعم الإبادة الجماعية.

وقد كان خطاب غليزر بعيدًا عن الإجماع المؤسسي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حيث لا يزال قادة المجتمع اليهودي البارزون وأصحاب النفوذ يدعمون أي أعمال عسكرية تتخذها إسرائيل ضد غزة، بغض النظر عن مدى بشاعة هذه الأعمال.

لقد فعلوا ما يرفضه غليزر، وهو استخدام يهوديتهم؛ لتبرير القتل الجماعي للمدنيين والجرائم ضد الإنسانية.

وقال: إن الدرس المستفاد من المحرقة هو أن تجريد الناس من إنسانيتهم وثقافتهم لا ينبغي أبدًا أن يُستخدم مرة أخرى لتبرير الشر.

وصلت شيطنة الفلسطينيين إلى مستويات متطرفة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، عندما وصفهم المسؤولون الإسرائيليون بأنهم "ليسوا بشرًا" و"حيوانات".

وفي الآونة الأخيرة، تضخم هذا التجسيد بشكل كامل في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان "فهم الشرق الأوسط من خلال مملكة الحيوان" لتوماس فريدمان، الذي قارن أهداف حملات القصف الأميركية بالحشرات، مما جعل جيم نوريكاس من "فير" يقول: "إنه نوع من الاستعارة التي استخدمها المروجون تاريخيًا لتبرير الإبادة الجماعية".

لقد قام مرتكبو الإبادة الجماعية الإسرائيليون ومروجوها بتكرار الخطاب النازي المستخدم ضد اليهود الذين تم تشبيههم بمجموعة من المخلوقات المحتقرة، بما في ذلك العناكب والحشرات الطفيلية.

وتُدرج منظمة مراقبة الإبادة الجماعية مثل هذا "التجريد من الإنسانية" باعتباره مرحلة من مراحل الإبادة الجماعية، حيث يتم "مساواة المجموعة المستهدفة بالحيوانات أو الحشرات أو الأمراض" في عملية "تتغلب على الاشمئزاز البشري الطبيعي من القتل".

واختتم غليزر خطابه بسؤال: "مع كل ضحايا هذا التجريد من الإنسانية، كيف نقاوم؟".

عوقب العديد من الذين قاوموا الإبادة الجماعية سابقًا في هوليود.

قال الممثل الحائز جائزة "إيمي"، ديفيد كلينون، وهو مؤيد منذ فترة طويلة لحقوق الفلسطينيين، لصحيفة الغارديان: "لقد اعتادت هوليود على الإجماع في إظهار إعجابها وولائها لإسرائيل، لقد بدأ جيل جديد من الأعمال الاستعراضية في تحدي تلك الأيديولوجية السائدة، وبالطبع فإن الحرس القديم سيبذل كل ما في وسعه لترهيبهم".

وقد شمل هذا الترهيب طرد الممثلة ميليسا باريرا من فيلم "سكريم الجزء السابع" من إنتاج شركة "سباي غلاس ميديا".

وصفت باريرا الهجمات الإسرائيلية بأنها "إبادة جماعية" وقالت: إنها "تقتل بوحشية الفلسطينيين الأبرياء والأمهات والأطفال بحجة تدمير حماس".

كانت مها دخيل واحدة من أهم المديرين في وكالات المواهب المؤثرة في هوليود، وكالة الفنانين المبدعين (CAA)، حتى انتقدت حرب إسرائيل على غزة على وسائل التواصل الاجتماعي واصفة إياها بـ "الإبادة الجماعية".

وقد سُمح لها بالبقاء في الوكالة ومواصلة تمثيل عملائها القدامى، لكن استقالت ردًا على الانتقادات.

يهود في وجه يهود يشكل غليزر وآخرون ممن يدعون إلى وقف إطلاق النار تهديدًا حقيقيًا لأفراد المجتمع اليهودي الذين ظلوا يستخدمون يهوديتهم على وجه التحديد كسلاح لتحقيق أهداف سياسية في خدمة إسرائيل ومشروعها المستمر منذ عقود لإزالة الشعب الفلسطيني من وطنه التاريخي.

ويواصل هؤلاء، مع وسائل الإعلام الرسمية، تغطية أخبار إسرائيل على الرغم من إعلان المجتمع الدولي لحقوق الإنسان أنها دولة فصل عنصري.

كما أنها دولة قضت محكمة العدل الدولية بأنها تواجه تهمة معقولة بارتكاب جريمة إبادة جماعية.

تعرّض غليزر لانتقادات من قبل محررة مجلة نيوزويك، باتيا أونجار سارجون، التي شوّهت خطابه واتهمته بـ "العفن الأخلاقي"؛ لأنه ينكر يهوديته، لكنه بدلًا من ذلك كان يرفض الكيفية التي يتم بها تشويه يهوديته ويهودية شعب آخر والمحرقة من قبل المدافعين عن الإبادة الجماعية.

وكما أكد جوناثان كوك، من المؤكد أن أونجار سارجون تعرف أن خطاب غليزر كان أكثر اللحظات التي تم الاستماع إليها ومناقشتها في حفل توزيع جوائز الأوسكار.

لقد سمع الناس بأنفسهم ما قاله غليزر، ومن غير المرجح أن يصدّقوا ما قالته أونجار سارجون وآخرون.

لطالما كانت وسائل الإعلام الرسمية في الولايات المتحدة عازمة على دعم الحديقة المسوّرة وحماية شعوب العالم من الأهوال التي يفرضها مجرمو الحرب على الجانب الآخر، لذا يجب أن نستمع إلى أولئك مثل غليزر الذين يحاولون هدم الجدار؛ ليظهروا لنا حقيقة ما يحدث خلفه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

الوكالات      |      المصدر: الجزيرة    (منذ: 4 أسابيع | 4 قراءة)
.