منشوب: التلفزة تعدم مظاهر حياة في المغرب .. والسياحة تنتهك جمال الأمكنة

يعرض الفنان المغربي إدريس منشوب هذه الأيام، برواق مؤسسة دار بلارج لرعاية الثقافة والتراث بالمغرب، معرضا للصور عنوانه ذكريات فاس.

يقيم الفنان ويعمل في مدينة بيرن بسويسرا، وتعد أعماله بحثا عن الهوية وكشفا عن منسيات الذاكرة المغربية؛ يستعيد في هذا المعرض مسارات تجربته الفنية الخاصة بالمغرب.

ذكريات فاس: متواليات بصرية تشهد على قوة إحساس المبدع وكذا على شاعرية الصورة.

تلتقط عين منشوب تفاصيل الحياة اليومية في كل من سويسرا والمغرب.

وتجدر الإشارة إلى أن الفنان سبق أن نشر كتابا عن الزواج في سويسرا: تحقيقات مصورة جمعها الفنان في بيرن بعد سنوات طويلة من العمل؛ ويحتفي عمله الأخير بذاكرة وشاعرية المكان… التقيناه على هامش المعرض المنظم في مدينة مراكش فكان هذا الحديث: #div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} إدريس منشوب، لو سألتك في بداية حديثنا هذا أن تقدم نفسك، ماذا تقول؟ ولدت في فاس الجديد خلال الخمسينيات، دخلت المدرسة فتركتها في الطور الابتدائي، وغادرت المغرب في سن العشرين فعملت في شركة فرنسية، وبعد مرور سبع سنوات توجهت إلى سويسرا فأصبحت ملاذا لي.

وقد سبق أن عملت في فنون الخط.

وغداة وصولي إلى مدينة بيرن في بداية السبعينيات بدأت أشتغل بها بصفتي مصورا فوتوغرافيا، وقد مكنني فن التصوير، وقتئذ، من الاندماج داخل الحياة السويسرية، وأعدت اكتشاف بلدي عن طريق هذا الفن.

أقيم في بلد يعرف جيدا أهمية الثقافة ودورها.

ومما لا شك فيه فإن فن التصوير يستدعي معرفة مسبقة بجميع الفنون الأخرى.

إن عالم الصورة هو أفضل طريقة لمعرفة البلدان وثقافتها.

أعيش الآن داخل ثقافتين، وبذلك أصبحت هويتي وليدة هذا التمازج الثقافي.

وأحاول دائما أن أحافظ على ذلك التوازن الذي يمنحني شعورا بالرضا ويقودني بعيدا عن متاهات الذات الآخر، أقصد الاحتكاك الإنساني.

ورغم أني أقيم وأعمل في بيرن يظل المغرب دائما بلدي الأصلي.

أحس دائما بأني لا محال سوف أعود يوما وأقضي ما تبقى من العمر في فاس.

أتنقل بين ثقافتين مختلفتين وأستقي منهما عوالمي.

هل لنا أن نعرف كيف ومتى بدأت علاقتك بفن التصوير؟ بدأت علاقتي بعالم الصورة عام 1975، اكتشفت صدفة داخل كشك لبيع الجرائد بباريس عددا من مجلة العدسة الدولية، فتحتها فوجدت بداخلها صورا بالأبيض والأسود، وأشعلت هذه الصور فتنة التصوير بداخلي.

اقتنيت حينئذ آلة تصوير قديمة من صنع روسي، وهكذا شرعت أصور لألبي رغبة داخلية محضة.

وقد بدأت بالتقاط مشاهد الطبيعة، ثم أصبحت مع مرور الوقت أصــور الناس.

وجاء وقت كان لا بد أن أربي ملكة التصوير فدرست قواعد هذا الفن.

عملت على تربية عيني وطريقة النظر عبر المشاهدة، وقد تأثرت حينها بالغ الأثر بأعمال مصورين فوتوغرافيين أمريكيين وفرنسيين، أذكر على سبيل المثال لا الحصر أعمال وليام كلاين وهنري كارتيي بروسون، وروبير فرانك وأوجين سميت وإينسيل أدامس، ومان راي… وغيرهم.

تنتمي أعمالي في جانب منها إلى فن التجريد، وفي هذا الإطار أنجزت تحقيقات مصورة عن الحياة اليومية في سويسرا.

يلاحظ متتبع أعمالك ولعك بالظلال والأضواء، وبين الحين والآخر تظهر صور بالألوان، كيف تنجز أعمالك؟ إن الأساس في هذا المجال هو مسألة التركيز.

تنضبط ذاتي داخل عالمين: فالأبيض والأسود يجمعان عالم الظلال والأضواء.

لو لم يكن الضوء لما كان ثمة للصورة وجود.

يتوحد الظل والإنسان فتكون الحركة، يعبران الوقت معا فتخرج الصورة من رحم العلبة السوداء (السجاف).

وتتم عملية التصوير بسرعة كـبـيـرة.

ليس لدى المصور وقت كاف للتفكير والتأمل، فالصورة بنت الومض، تولد في ثانية.

وفضلا عن ذلك فقد تعلمت التصوير في حضن الثقافة، فالثقافة والإحساس يكونان دائما عونا للمصور.

تلتقط العين المشهد في سرعة الموت.

وأما عوالم الألوان فإنها تستدعي مراسا وضبطا للقواعد، وينسجم الضوء واللون، فينبثق المشهد من الإطار الصغير الذي منه تنطلق الرؤية فتكون صورة، يسجل الأبيض والأسود حركة ونظرة الناس.

يثيرنا عند مشاهدة أعمالك ذلك الطابع اللوني وكأن الصورة لوحة فنية، أنت ترسم بواسطة العين؟ أهتم كثيرا بالتشكيل وأذهب بصفة مستمرة لأرى المعارض، أرسم من خلال العلبة السوداء ما لم تستطع يدي تحقيقه.

ألتقط صورة حائط متسخ فتكون النتيجة عملا سهرت العين على تشكيله.

يعد المغرب بحق معرضا كبيرا ومجالا للمشاهدة لا متناهيا.

لما أحل بالبلد أرى الأمكنة صورا، يكفي أن يركز المرء نظره فيقطف بعض الصور، المغرب بلد الألوان والضوء.

يشكل عالم الأسواق وحياة الفقر موضوعة أساسية في أعمالك، ما سر هذا الاختيار؟ قضيت طفولتي في حي شعبي يدعى فاس الجديد، ولحسن الحظ فإنني لم أتابع آنذاك أي دراسة أكاديمية، بل تعلمت الكثير برفقة أطفال الشوارع.

كان الناس بعيد الاستقلال يشكلون عائلة واحدة.

ومازلت أتذكر الصورة التي كان عليها البلد زمن رحيلي.

تجعلني خصوبة تلك التجربة أنظر للفترة نظرة حنين، ولهذا السبب بالذات فإنني أحاول دائما عند زياراتي البلد أن ألتقط صور طفولتي: أرى زمن الصبا مجسدا في مشاهد اخترت تصويرها.

لم يكن للتلفزة وقتئذ وجود وكان الناس يسردون حكاياهم في جنان السبيل.

لقد قضت التلفزة منذ وصولها إلى المغرب على العديد من معالم الحياة، وغابت مشاهد لتحل محلها مشاهد «العصرنة»! أصبح الفلاحون في القرى يلبسون سترا غريبة وتغير طابع الحياة فيها، وفضلا عن ذلك فقد كان للحركة السياحية دور سلبي في حياة الناس.

لم يتبق من مغرب ما بعد الاستقلال سوى مجموعة من الصور كان قد أنجزها مصورون فوتوغرافيون أجانب.

أصـور المغرب، الآن، انطلاقا من هذا الحنين وقلبي بوصلة النظر.

لم تعد مشاهد فاس الأصيلة موجودة، وكلما شاهد المرء صور الماضي يشعر بالحنين لحياة كانت موجودة ورحلت مع من رحلوا.

يا للعهد الجميل.

جاءت الآن حضارة الحاسوب لتقتل الجوهر، والحال فإنه يجب استعمال الإمكانيات الحضارية بطريقة ذكية.

يتعلق الأمر هنا تحديدا بمسألة الحنين، فقد انقرضت معالم كثيرة.

أجد عندما أطوف داخل الأسواق والأزقة حياة عائلية رائعة، التقط صورا لأشياء سوف يغيرها الوقت لا محالة.

وإن كان الأجانب قد سجلوا صورة ذلك الوقت فإنني أحاول أنا ومجموعة من الأصدقاء أن نقدم صورة المغرب من منظور الذات.

ذكريات فاس: متواليات من الصور تسرد وقائع حياة، «سيرة ذاتية» هدفها صون الذاكرة، لمَ هذا الاختيار؟ وما هي دواعي الذاكرة؟ من المؤسف أن مدينة عريقة مثل فاس لا تملك أرشيفا خاصا بها ولا متاحف تحوي ذاكرتها، والنتيجة الحتمية لذلك هي فقدان الذاكرة.

يقوم المصور الفوتوغرافي بتحقيقات عن الحياة اليومية في زمن ما، كيف كان الحال بالأمس القريب، كيف كان معمار المدينة، ولا جواب.

لن نتقدم أبدا مع فقدان الذاكرة.

وبديهي إذن أن نعيش مع هذا الفقدان داخل دوامة مستديرة.

بلد لا يملك ذاكرة ولا ثقافة له ولا خصوصيات هو بلد ميت.

فعل الذاكرة هو حفر في الجذور وانحدار نحو النبع وبذلك تسير الأمم قدما.

يستثمر الآخرون مبالغ كبيرة من المال في سبيل الثقافة، كل ذلك بغية صون الذاكرة.

تتحاور العين واليد وتأتي الصورة كنتاج لهذا الحوار.

يشكل العضوان المذكوران «أداة» المصور الفوتوغرافي.

.

ما رأيك؟ تأتي عملية التصوير من توحد العين والقلب والأصبع، فيحل انسجام وتكون الحركة كاملة.

وإن تخلف أحد الأعضاء المذكورة حصل الخلل.

تولد الصورة في زمن قصير جدا: ثانية من الوقت، ناهيك عن مسألة التجربة.

إن جوهر فن التصوير الفوتوغرافي هو الحركة.

ليس للمصور الحق في التفكير.

أتجول فأرى مشهدا فأصوره على عجل حتى لا تضيع الحالة.

المصور شاهد يرى أشياء الحياة وضوءها، ويحدس حركات الحزن والفرح.

أرى أحيانا متشردا في حياة تحت العراء فأصوره، وأفعل ذلك لأني رأيت في المشهد أشياء تتجاوز الفعل ذاته وحركته.

أقتحم وقتئذ عوالمه الداخلية، لأفهم وضعه وأشاركه فيه.

ولهذا السبب أصور الحياة في أقصى تجلياتها.

تلعب الثقافة بدون شك دورا أساسيا في فهم أعماق الإنسان.

يرفض الناس هكذا تصوير لأنهم في حقيقة الأمر يرفضون المتشرد.

ظهر خلال العقد الأخير في المغرب جيل جديد من المصورين الفوتوغرافيين.

كيف تنظرون لما ينجز الآن في مجال فن التصوير الفوتوغرافي بالمغرب؟ وما هي الحالة الصحية للصورة الفنية؟ كان المغرب منذ وقت مبكر مثار اهتمام المصورين الفوتوغرافيين الأجانب، بيد أنه لم يكن للصورة بعيون مغربية أي وجود، ونتج عن ذلك فراغ كبير على مستوى الذاكرة.

وقد ظهر بالفعل منذ وقت قريب جيل من المصورين الفوتوغرافيين يقيم أغلبهم في الخارج، قدم العديد منهم في بلاد الهجرة صورة المغرب على أحسن وجه.

ونشير في هذا الصدد إلى أن مصورة فوتوغرافية مغربية قد أنجزت تحقيقا مصورا عن أطفال الشارع في كل من طنجة والدار البيضاء، كان له صدى عالميا كبيرا.

اكتشفت غداة لقاءاتي بمصوري الداخل أنهم يعيشون في غاية التعاسة، لا أحد يفهمهم وليس لهم وضع اعتباري.

ثمة نقص في قاعات العرض ومعاهد التصوير الفوتوغرافي منعدمة.

أعرض الآن في المغرب رغبة مني في المشاركة في الحياة الثقافية لبلدي، ويرى المشاهد صورا بعين مغربية.

يجب تلقين فن التصوير داخل المدارس.

وأعتقد أن السنوات المقبلة سوف تعرف حركة فوتوغرافية مهمة، لاسيما أن ثمة الآن شبابا يملكون قدرة كبيرة على الإبداع؛ ويستدعي تحقق ذلك عملا طويل الأمد ودعما من لدن المسؤولين عن الشأن الثقافي.

لا يعود الفن عن البلد بأرباح مادية غير أنه يعمل على صون وحفظ ذاكرة المغرب.

أنت مسافر أبدي، تقيم في بيرن وتعيش في السفر.

هل لنا أن نعرف ما هو درس السفر بالنسبة لتجربتك الفنية؟ لقد انتهى الآن عهد الأسفار.

لا يركب هواة السفر طائرات.

أسافر بين الحين والآخر في سيارتي فألتقط صورا هنا وهناك، أسافر إلى أمكنة مازالت بكرا ولم تنتهك السياحة بعد جمالها.

أسافر لكي أنجز تحقيقات مصورة من أجل دار نشر خاصة بالتصوير الفوتوغرافي أسستها بمعية صديق مغربي عام 1992.

نعمل سويا على تجاوز ثقافة الاجترار وفن النمط.

يعاني المصورون النساخ من فقر الخيال، وتنقصهم ثقافة تمكنهم من النظر إلى أشياء جديدة وابتكار أعمال فريدة.

يجب البحث عن معاني وأشكال جديدة وليس الاقتصار على تقليد أعمال الغير.

لم نتحدث حتى الآن عن علاقتك بالصورة، هلا كشفت لنا أسرار عشقك لآلة التصوير؟ كيف هي صلتك بفن التصوير؟ أعتقد أن عمل التصوير هو شبيه تماما بعمل النباذة: يصبح النبيذ طيبا مع مرور الوقت.

عندما أفرغ من إنجاز الصور أضعها داخل أدراج مكتبي، وبعد مرور الوقت أخرجها من مخبئها فأكتشف صورا أخرى.

إنها لعبة وقت، هذا لأقول إن نظرتي لأعمالي تتغير باستمرار بحيث أصبح بدوري مشاهدا لأعمال سبق أن أنجزها ذلك الآخر الكامن في دواخلي.

أهجر صوري بمجرد أن أفرغ من متعلقات الإنجاز.

عمل المصور الفوتوغرافي هو شبيه بعمل الصياد.

ماذا يكون الصيد هذا النهار؟ لا أعرف.

أمشي أحيانا في بيرن على قدمي خلال ساعات طويلة فلا أجد سوى مشهد بصري واحد، تتحقق الصورة بعد ولادة عسيرة ومؤلمة.

يلاحظ متتبع مساراتك الفنية أن صورك تحتمي أحيانا بالفن المعماري، أنت تلتقط صورا في مدن تصنف عادة بكونها مدن الفنون.

ترى العين معمار الأندلس فتصاب بالدوار: الأقواس والأبواب، الزليج والخشب، ناهيك عن النقش الذي يعض الحيطان.

أثارني معمار فاس منذ ولادتي فوشم المخيلة.

أركز عندما أدخل القرويين، مثلا، على تفاصيل المكان، أقصد الخطوط والضوء، لذلك حاولت دائما أن أبرز من خلال الصورة الشمسية تلك القيمة الثقافية والروحية للمعمار المخضرم.

فاس: مسقط الرأس لا ألوان تميزها لذلك يقوم المصور بإضافة اللون.

من الصعب تصوير فاس.

مراكش: مدينة الأضواء واللون: الحمرة والنخيل والحياة تستمر طيلة اليوم والحركة دائمة.

الصويرة: مدينة الفنون والبحر، عجيبة وفاتنة، تتبدل أضواء المدينة في كل لحظة، تتبدل على وتيرة حياة الناس.

الجنوب: تجسد اللامتناهي وحياة البساطة، ولحسن الحظ فقد عشت في الجنوب خلال أوقات متعددة من السنة: الربيع والخريف، الصيف والشتاء.

جمال لا يمكن التعبير عنه، كم بكيت وأنا في الجنوب: ثمة نقص في الماء والمشهد عظيم… أقيم في بيرن حيث الماء جار في كل الأمكنة، أجلس أحيانا على ضفة نهر كبير ويبدأ فعل الخيال: «لو كانت عندي عصا سحرية لكنت قد حملت هذا النهر ووضعته في جنوب المغرب.

هناك هو مكانه الحقيقي، سأضعه ما بين ورزازات وزاكورة… ثمة سيكون لا محالة أسعد من وجوده في هذا المكان».

هذا لأقول إني أعيش سفرا مزدوجا.

ثمة في الجنوب وجود الإنسان وتلك الأمكنة هي ذاتي: صفرة الرمال إلى جانب زرقة السماء.

حياة الجنوب هي ألوان الوقت.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 1 أشهر | 3 قراءة)
.