إستراتيجية أميركا لمنع الصراع ودعم الاستقرار (7) | خطة هاييتي والمستحيل

تؤكد خطة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الإستراتيجية لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار في هاييتي في السنوات العشر القادمة؛ أن "الولايات المتحدة ملتزمة بمساعدة هاييتي لتصبح دولة أكثر أمنًا واستقرارًا وديمقراطية".

فما الذي ستقوم به الإدارة الأميركية لتحقيق هذا الهدف الذي أعلنت مرارًا وتكرارًا حرصها على تحقيقه من دون جدوى؟ هل ستنجح هذه المرة، وتصدق في وعودها، أم أن الأمر لا يعدو كونه خطابا إنسانيا أجوف يحجب الدوافع الحقيقية لهذه الإستراتيجية، على نحو ما أسلفنا في المقالات السابقة؟ وهل ستنهي الخطة هشاشة هاييتي في هذه المدة، وتنهي معها الأزمات الإنسانية التي يعاني منها الشعب الهاييتي، أم أنها ستستمر عقودا قادمة، ما لم يتحرك قادة الشعب الهاييتي لمعالجة مشكلاتهم الداخلية بإرادة وطنية كاملة بعيدًا عن التدخلات الخارجية؟ تقرّ الخطة بأنه رغم النوايا الحسنة واستثمار موارد كبيرة حتى الآن، فإن الجهود الدبلوماسية وجهود المساعدة التي تقودها الولايات المتحدة لمساعدة هاييتي؛ لم تحقق دائما أهدافها، ولم تسفر عن نتائج شاملة وعادلة.

قبل استعراض خطة الإدارة الأميركية لمعالجة الهشاشة في هاييتي في السنوات العشر القادمة، ينبغي التذكير بأن تناولنا لدولة هاييتي في هذا السياق كان محاولة لفهم الأسباب والدوافع التي وقفت وراء اختيار هاييتي لتكون على رأس قائمة الدول الهشة التي تستهدفها الإدارة الأميركية في السنوات العشر القادمة، رغم أنها ليست الأكثر هشاشة بين الدول الهشة، على نحو ما أسلفنا، وقد أوضحنا في الأسباب والدوافع التي تعتبر مبررات قوية لهذا الاختيار، بعد أن استعرضنا قانون الهشاشة العالمي وإستراتيجية الولايات المتحدة لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار، وبعد أن قمنا بالتعريف بالهشاشة والدول الهشة.

تعد هاييتي في هذا المقام نموذجًا لعشرات الدول الهشة التي تعاني الأمرّين في شتى المجالات، على مسمع ومرأى العالم المتقدم بمؤسساته الدولية والمحلية، التي تفشل دومًا في أن تضع حدًّا لهذه الهشاشة، ولا تفعل أكثر من ذر الرماد في العيون بتقديم بعض المنح المالية والمساعدات الإنسانية الخجولة، ولتؤكد في الوقت ذاته حاجة العالم إلى آليات جديدة قادرة على معالجة الهشاشة، وتحسين الأوضاع الإنسانية.

وما يحدث في هاييتي نعيشه يوميًا من حولنا في العديد من دول العالم العربي والإسلامي.

أهداف الخطة أشارت إلى أنه تم إعدادها بقيادة السفارة الأميركية في هاييتي بمشاركة الجهات المعنية في الولايات المتحدة، وبالتشاور الشامل مع أكثر من 230 فردًا يمثلون الحكومة الهاييتية والمجتمع المدني والمنظمات متعددة الأطراف والثنائية والقطاع الخاص والأوساط الأكاديمية والشتات الهاييتي والخبراء وممارسي الخطة، بالإضافة إلى مداولات سياسية واسعة بين الوكالات الأميركية المعنية بوضع إستراتيجية طويلة الأجل حول هاييتي، انطلاقًا من رؤية قانون الهشاشة العالمية (GFA) الأميركية، وستستمر مجموعة العمل هذه كآلية تنسيق أثناء تنفيذ الخطة.

وستكون الخطة داعمة وموجهة لجميع إستراتيجيات المساعدة الدبلوماسية والخارجية للحكومة الأميركية الخاصة بهاييتي، بما في ذلك ، .

وتهدف الولايات المتحدة بشكل عام من وراء هذه الخطة إلى مساعدة مواطني هاييتي وحكومتها على "تقديم رؤية مشتركة وبيئة تسمح بتحقيق الاستقرار على المدى الطويل"، ويحرص هذا الهدف العام على أن تصبح المؤسسات الحكومية أكثر قدرة واستجابة للاحتياجات الأساسية للهاييتيين.

وفي الوقت نفسه، زيادة ثقة الهاييتيين في المؤسسات العامة للمشاركة في العمليات المدنية والسياسية.

وانطلاقا من ذلك حددت الخطة هدفين رئيسيين تعمل على تحقيقهما: الهدف الأول: تعزيز الإدارة والأمن سريع الاستجابة والخاضع للمساءلة.

الهدف الثاني: دعم المواطنة المتفاعلة الناجحة.

مع اتباع نهج تدريجي، وإعطاء الأولوية لجهود قطاع الأمن والعدالة منذ البداية نظرا للسياق المضطرب الراهن الذي تمرّ به هاييتي.

التدخلات الغربية في هاييتي في العقود الماضية ضاعفت معاناة الشعب الهاييتي، وتسببت في إزهاق أرواح عشرات الآلاف من المواطنين، من دون أن تتم محاسبة المسؤولين عنها.

اعتراف بلا محاسبة تنقسم الخطة إلى 3 مراحل رئيسية، على النحو التالي: المرحلة الأولى: تعزيز الشراكة بين المجتمع المدني الهاييتي والشرطة الوطنية للعمل المشترك على ترسيخ أمن المواطن وسيادة القانون، مع ضمان حماية وتعزيز حقوق الإنسان والمحاسبة.

وستركز الجهود الأولى على الأحياء الرئيسية التي ترتفع فيها معدلات الجريمة والعنف والمواصلات الرئيسية والمراكز الاقتصادية.

المرحلة الثانية: بعد النجاح في تحقيق الأمن والعدالة في المرحلة الأولى، يبدأ العمل على معالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار، والبناء على إصلاح قطاع العدالة، مع معالجة إشكالات المشاركة المدنية، والفرص الاقتصادية.

المرحلة الثالثة: العمل على توسيع أنظمة الدولة ليكون لها تأثير مستدام، يؤدي إلى إحداث تغييرات مؤسسية أساسية.

وتفترض الخطة أن اتباع نهج التدريج سيمكّن حكومة الولايات المتحدة من التكيف مع الظروف المتغيرة على الأرض، والاستفادة من الفرص.

وتقرّ الخطة بأنه رغم النوايا الحسنة واستثمار موارد كبيرة حتى الآن، فإن الجهود الدبلوماسية وجهود المساعدة التي تقودها الولايات المتحدة وغيرها من الجهود الدولية لمساعدة هاييتي؛ لم تحقق دائمًا أهدافها، ولم تسفر عن نتائج شاملة وعادلة.

كما تقرّ الخطة بأنه لا بد من الاستجابة للدروس المستفادة من العقود السابقة من التدخلات في هاييتي؛ هذه التدخلات التي زادت من معاناة الشعب الهاييتي، وتسببت في إزهاق أرواح عشرات الآلاف من المواطنين، من دون أن تتم محاسبة المسؤولين عنها.

هذه التدخلات أصبحت مجرد وثائق أرشيفية للخبرة التاريخية والمعلومات المرجعية، لم تتم محاسبة الدول التي قامت بها، ولم تُفرض عليها أي عقوبات أو تعويضات، ولم تتهم بالإرهاب، ولم يُلاحق قادتها لمحاسبتهم وتقديمهم للعدالة، ولم يطلب منها مجرد الاعتذار عما قامت به من جرائم وانتهاكات، وهذا كله فقط لأن التدخلات قامت بها الدول الغربية الاستعمارية التي تتستر براية العدالة والتنمية وحقوق الإنسان لتداري بها هذه الجرائم والانتهاكات.

نجاح هذه الخطة الطموحة الواعدة يصطدم مع الخبرة التاريخية للشعب الهاييتي الذي ذاق الويلات على أيدي الدول الاستعمارية.

التزامات وسياسات النجاح حرصًا من الإدارة الأميركية على النجاح في خطتها وعدم تكرار الفشل الذي مُنيت به الإدارات الأميركية على مدى العقود السابقة؛ حددت التزاماتها بوضوح، ووضعت لها مجموعة من السياسات التي تضمن القيام بها.

فقد ذكرت الخطة على وجه التحديد أن حكومة الولايات المتحدة ملتزمة بما يأتي: تطبيق نهج مرحلي وهادف، يتخذ نظرة شاملة طويلة الأجل، تغتنم الإرادة السياسية وفرص الشراكة.

التركيز على التقدم في البرامج التي يجري تنفيذها، وعلى التفكير المستقبلي الذي يعطي الأولوية للنتائج المستدامة في المجالات ذات الأولوية.

تحرّي الابتكار مع توسيع نطاق النجاح، وتحديد المبادرات المبتكرة القائمة على الأدلة.

زيادة التنسيق الداخلي للحكومة الأميركية، والتأكد من أن جهودها عبر الإدارات والوكالات المختلفة متسقة جيدا وفقا لإستراتيجية مشتركة.

إعطاء الأولوية للحلول المقدمة محليا، بأن تضمن الخطة أن الشراكة والتنسيق المحليين يدعمان جميع عناصر الإستراتيجية، وهذا سيضمن استدامة أكبر وتأثيرا أطول للجهود الأميركية.

تعزيز التنسيق الدولي بين المانحين لتجنب الازدواجية وتعظيم التأثير.

سياسات النجاح ومن أجل ذلك أشارت الخطة إلى أن الحكومة الأميركية ستلتزم بالسياسات التالية في تنفيذها للخطة: العمل بأساليب مبتكرة تعتمد على الأدلة والبيانات.

توسيع التخطيط ليمتد إلى ما هو أبعد من التمويل التقليدي.

والعمل مع الجهات الفاعلة في الحكومة الهاييتية حيثما أمكن ذلك.

إشراك القادة ذوي العقلية الإصلاحية على المستويين الوطني والمحلي.

العمل على تعميق المشاركة مع القادة وأصحاب المصلحة الهاييتيين والمجتمع المدني الهاييتي، بما في ذلك الجماعات الدينية والمنظمات غير الحكومية.

تعميق المشاركة مع المانحين الدوليين الآخرين، ومنظمات الشتات الهاييتي، والمنظمات متعددة الأطراف.

إعداد خطة اتصال إستراتيجية لضمان تعزيز الجهود التي تموّلها الحكومة الأميركية بشكل فعال في جميع أنحاء هاييتي.

ومع ذلك فإن الخطة تقرّ صراحة بالعديد من المخاطر التي يمكن أن تعرقل تحقيق الأهداف، خاصة المخاطر المترتبة على الوضع السياسي والأمني العام في هاييتي.

ومن هنا ستعمل الحكومة الأميركية على تكييف جهودها حسب المتغيرات على الأرض، وحيثما تكون البرامج أقل نجاحًا فإنها ستقوم بتقليصها أو إنهائها أو تغير المناهج المتبعة في تنفيذها، مع المراقبة الصارمة والتقييم المتواصل لنجاح هذه الخطة.

هذه الخطة الطموحة الواعدة يصطدم نجاحها مع الخبرة التاريخية للشعب الهاييتي الذي ذاق الويلات على أيدي الدول الاستعمارية، وتصطدم مع سياسات الهيمنة والمصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها، وتصطدم مع الأهداف الحقيقية التي تحكم الموقف الأميركي من هاييتي، كما تصطدم مع تقلبات الإدارات الأميركية المتعاقبة والأيديولوجيات المتحكمة فيها، كما تصطدم مع حقيقة السلوكيات الراهنة لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في العالم، التي تتناقض مع ما تزخر به هذه الخطط الإستراتيجية من أفكار وآليات وسياسات لمعالجة الهشاشة وتحقيق الاستقرار والتنمية، التي أصبحت بعيدة المنال عن الدول المصابة بها، وتجعل خطة معالجة الهشاشة في هاييتي أشبه بالمستحيل.

(يتبع: ليبيا والآخرون) الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

الوكالات      |      المصدر: الجزيرة    (منذ: 10 أشهر | 1 قراءة)
.