الماكينة الألمانية وهواجس الكساد

يواجه الاقتصاد الألماني كغيره من اقتصادات الدول المتقدمة أزمات التضخم والفائدة المرتفعة والتباطؤ والركود، والآثار المترتبة على الحرب في أوكرانيا، فضلا عن الانعكاسات الخطيرة التي تركتها جائحة كورونا على كل الاقتصادات في العالم.

لكن الوضع في ألمانيا يبقى أكثر إثارة من غيره، نظرا إلى ما يتمتع به هذا البلد من قوة اقتصادية متينة، بحجم اقتصاد هو الأكبر على الساحة الأوروبية كلها.

ويعتمد الاتحاد الأوروبي بصورة أساسية على متانة ألمانيا من الجانب الاقتصادي، في حين يتذكر العالم أن المال الألماني تحديدا هو الذي أنقذ دولا مثل إيطاليا وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا من مصاعب اقتصادية خطيرة ألمت بها أواخر العقد الأول من القرن الحالي، وكيف أنقذت برلين الاقتصاد اليوناني الذي وصل بالفعل إلى حافة الانهيار آنذاك.

ولا تزال أزمة الطاقة تعصف باقتصادات دول أوروبا عموما والاقتصاد الألماني خصوصا، فقد توقع خبراء اقتصاديون دخول أكبر اقتصاد في أوروبا خلال هذا العام مرحلة الكساد بسبب الارتفاع المستمر في أسعار الطاقة، وأن تواجه البلاد خطر أزمة اقتصادية واجتماعية.

وتخطط ألمانيا لإنفاق 200 مليار يورو لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة، في وقت بلغ فيه التضخم في البلاد أعلى مستوى في ربع قرن.

ومن هذا المشهد الصعب والقاتم، فإن الوضع في ألمانيا يبقى أكثر إثارة من غيره، نظرا إلى ما يتمتع به هذا البلد من قوة اقتصادية متينة، بحجم اقتصاد هو الأكبر على الساحة الأوروبية كلها.

واستنادا إلى الوضعية الألمانية هذه على الساحة الأوروبية، ومكانة البلاد ضمن نطاق الاقتصاد العالمي، فإن أي مخاطر تتعرض لها ما يسمونها "الماكينة الألمانية"، تترك آثارا أكبر في محيطها قياسا بغيرها.

بالطبع تعود المصاعب التي تمر بها ألمانيا حاليا إلى "الآفة" التي لم توفر أحدا وهي التضخم.

وهذا الأخير سيواصل ضرباته لأعوام مقبلة، خصوصا أنه بلغ 7.

2 في المائة ليسجل أعلى مستوى له مقارنة ببقية دول الاتحاد الأوروبي.

دون أن ننسى، أن البلاد تتأثر أيضا بفائدة مرتفعة يفرضها البنك المركزي الأوروبي لعلاج التضخم، ما أثر في معدلات النمو، بل أدخل البلاد في حالة ركود مؤقتة.

أما لماذا مؤقتة، فلأن الاقتصاد الألماني يتمتع بمرونة تمكنه من إعادة تشغيل الماكينات بالكفاءة السابقة نفسها.

بالطبع الجانب الأهم في هذه المسألة، أن الأسعار المرتفعة للسلع والخدمات عمقت المشكلة بانعكاساتها سلبا على الطلب الكلي، وبالتالي على الشركات والمؤسسات الألمانية الإنتاجية.

هناك محركات لهذا الاقتصاد لا تعمل في الوقت الراهن بالكفاءة المطلوبة، لكن الأمر يتطلب وقتا لتدارك هذه المسألة، خصوصا أن العوامل المسببة للتباطؤ الألماني لا تزال موجودة، ولا سيما الحرب الدائرة في أوكرانيا التي رفعت من أسعار الطاقة إلى حدود خطيرة في بلد كان يعتمد تماما على الطاقة الآتية من روسيا.

والحق أن هذا الجانب يخص كل الدول الأوروبية التي اعتمدت لعقود على هذه الطاقة لأسباب تتعلق بقلة تكاليفها، إضافة طبعا إلى المعايير الجغرافية المتمثلة في قرب دول المصدر من ساحة الدول الأوروبية.

وفي كل الأحوال، من الصعب على أحد أن يتوقع استمرار الأزمة الاقتصادية بشكلها الراهن في الساحة الألمانية لوقت طويل.

فحتى في ظل تراجع اقتصاد هذا البلد بنسبة 0.

5 في المائة في الربع الأول من العام الجاري، كان يستقطب عشرات الشركات البريطانية الهاربة من المملكة المتحدة بحثا عن موطئ قدم لها في السوق الأوروبية الموحدة، في أعقاب خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي "بريكست".

بل بدأت الجهات البريطانية الرسمية في الإعراب عن قلقها ليس فقط من نزوح الشركات نحو ألمانيا "وعدد من الدول الأوروبية الأخرى"، بل من انتقال شرائح من الخبرات النادرة والمميزة في مجالات أساسية مثل التكنولوجيا والإدارة والمصارف وغيرها.

وهذا يؤكد مجددا أن أكبر اقتصاد في أوروبا يمكنه أن يستقطب مزيدا من الاستثمارات والخبرات حتى في ظل ظروفه الصعبة الراهنة.

وبعيدا عن المقارنة التقليدية بين بريطانيا وألمانيا، فإن الأخيرة يمكنها أن تتجاوز الأوضاع الراهنة، كما أنها ستبقى المحور الاقتصادي الأهم بين دول الاتحاد الأوروبي، والضامن الثاني "بعد فرنسا" لهذا الكيان الضخم.

المهم بالنسبة إلى برلين أن تعيد عجلات الإنتاج الهائلة والمميزة إلى ما كانت عليه قبل الحرب في أوكرانيا وجائحة كورونا، والموجة التضخمية الحادة الحالية.

السعودية      |      المصدر: الاقتصادية    (منذ: 9 أشهر | 2 قراءة)
.