«غُفران» رؤية سينمائية لأزمة إنسانية بمُعالجة درامية مُبتسرة
تظل الثقافات المُختلفة بين الأجيال حائلاً يوقف تيار التفاهم والاقتراب ويُضعف إيقاع التواصل على مستويات كثيرة حتى في العلاقات الإنسانية والعواطف الغريزية، فبعضها يتعطل حين يستحيل الانسجام بين الأطراف المُرتبطة بالضرورة عضوياً وسيكولوجياً.
تلك هي المُشكلة التي تدور حولها أحداث فيلم «غُفران» للمخرج المغربي كريم عصارة الذي يحاول كشف التفاصيل المؤدية إلى الاغتراب الموحش بين الأب وابنته بعد أن كانت علاقتهما أشبه بسيمفونية موسيقية يتناغم فيها الحوار الدائر بينهما، لكن ثمة تصدعا حدث في جدران البناية المتينة التي كانت تأوي حُبهما الفطري إثر زلزال تسببت فيه الفتاة الرقيقة البارة بأبيها حين خرجت عن طوعه وتزوجت بغير علمه أو بغير رضاه، هنا تحولت وجهة الحُب وتبدلت المشاعر فصارت عداءً مُحكماً، إذ تم تفسير الاختيار على أنه نوع من العصيان السافر، بينما رأت الفتاة أنها تُمارس حقها الطبيعي في الخروج من شرنقة التقاليد وسيطرة الأبوة المُطلقة فتعاظم الصراع وتصاعدت حدة الخلاف وفقد الأب صوابه فجعل يطرد ابنته من رحمته ومن تحت سقف حمايته.
تكتب المؤلفة دلال مقاري باوش مشاهد الفيلم القصير بحساسية مُفرطة مُتحرية الدقة في وقع العبارات ودلالاتها كأنها تكتب نوتة موسيقية، فأول أبجديات الدقة والتنميق حرص الكاتبة على أن يكون الحوار عربياً فصيحاً لا مجال للهجة العامية فيه كأنها تدفع بالكلمات والعبارات لأن تحل محل البحث العلمي توثيقاً وتسجيلاً لحالة سوء التفاهم الطارئ على العلاقة الحميمة بين الأب وابنته، فضلاً عن أنها تُشير عبر المُساجلات القصيرة بين البطلين في مُعظم المشاهد إلى منطق كل منهما في الدفاع عن وجهة نظره أو بالأحرى حقه أو حريته.
وكذلك يعكس الحوار الفصيح بين الأب والابنة عمق الشقاق والفارق الثقافي بينهما، فالأب المُنتمي لزمن غير الزمن يُدين ابنته ويجرم فعلتها لكنه في ذات الوقت يُغالب شعوراً دفيناً بالتعاطف نحوها ويخبئ فرحته بنبأ طفلتها ليلى التي أنجبتها.
هكذا لم تشأ المؤلفة وكاتبة السيناريو أن تجرده تماماً من أبوته فتُلصق به قسوة مُطلقة ليست عنده، وإنما غاية رصدها لعناده هي كشف الهوة السحيقة التي منعته من عبور الجسر الواصل بينه وبين فلذة كبده وجعلته يُغلق نوافذ الود المُطلة على واحة الرحمة برغم المناديل البيضاء التي تُشهرها ابنته المسكينة في وجهة راجية السلام والرضا.
ربما غلب على الكتابة النسائية للسيناريو والحوار طابع الرقة المُستقى من طبيعة التكوين الأنثوي، الأمر الذي تحولت معه مشاهد الصراع إلى مباراة كلامية بين طرفين يحاول كل منهما الانتصار لفكرته ومنطقة وهي مسألة تقريرية تصلح للمناهج العلمية الأكاديمية لكنها لا تصلح بالضرورة للمُعالجة الدرامية، لا سيما في ظل استخدام اللغة العربية الفُصحى طوال الوقت من بداية الأحداث إلى نهايتها.
ومن إشكاليات الفيلم أيضاً ذلك الانقياد الكامل من جانب المخرج كريم عصارة لأسلوب الكاتبة في مسألة العرض والتحليل لمُشكلة البطلين ونسيانه أن ما يُطرح هو إبداع سينمائي له شروط ومُعطيات وليس مُحاضرة علمية جافه تعتمد بشكل أساسي على المعلومة النظرية.
فقد كان الأولى بالمخرج أن يبتعد قليلاً أو كثيراً عن لغة التلقين والفلسفة ويتعامل مع الأحداث وفقاً لطبيعتها وطبيعة السينما، حتى لو كان الفيلم روائياً قصيراً والتكثيف فيه مطلوباً لأن الجمال في اللغة السينمائية مطلوب أيضاً، حيث يحتاج المُتلقي لرؤية الحدث الدرامي مُشتبكاً مع الفكرة ومُتضمناً داخل إطار فني تجتمع فيه كافة الأدوات ولا ينتهي نهاية مفتوحة مُبهمة توحي بموت الأب أو غيابه عن الوعي.
لقد تم التركيز في فيلم «غُفران» على النقطة المحورية للخلاف والاختلاف بين البطلين بتوجيه رسالة عامه مفادها ضرورة البحث عن صيغ للتفاهم بين الأجيال وسد الفجوات الثقافية بينهم للحيلولة دون اتساع المسافات الفاصلة بين أفراد الأسرة والمُجتمع والإبقاء على العلاقات الطبيعية بنفس قوتها، هذه الأهداف مقبولة بالطبع ولكن ما يعيبها هي طريقة التعبير عنها والغلو في استخدام لغة فلسفية غير مناسبة أدت إلى اغتراب المُشاهد في أجواء تشبه أجواء الفيلم التاريخي، إضافة إلى ضعف الأداء التمثيلي للبطل خالد هجلي الذي أدى دور الأب والبطلة الصغيرة جداً على الدور فاطمة الزهراء حريد التي قامت بتجسيد شخصية الابنة أو التلميذة مع التأكيد على عدم اتساق الدور مع السن والملامح البريئة التي أفقدت الشخصية والأداء الكثير من المصداقية والتأثير وفصلت المُتلقي عن المُعايشة النفسية والوجدانية للشخصيات والأحداث نتيجة المُبالغة في افتراض وعي البطلة الصغيرة وحجم تجربتها الحياتية وعدم التلقائية في الأداء.
اللافت في الفيلم هو المحاولة المُقدرة والنية الحسنة من جانب المخرج كريم عصارة والكاتبة دلال مقاري لعمل شيء جاد يهتم بالمُشكلات الإنسانية والاجتماعية ويسعى لحلها أو طرحها كأضعف الإيمان، ولا يمكن إغفال الموسيقى التصويرية الصادرة عن آلة التشيلو بحُسن توظيفها وملاءمتها للأحداث والأجواء الدرامية والفكرة العامة.