حكايتي مع تشرين 

تشرين يشبهني.

تعودت أن أكتب فيه.

تأتيني الكلمات والجمل والقصص طوعاً.

الاستعارات والتشابيه والكنايات والمجاز المختال تتهاطل من سماء اللغة بلا حدود.

يكفي أن أفتح نافذة غرفتي حتى تحط اللغة فوق أوراقي المتناثرة مثل أوراق الشجر.

البيت الذي انتقلت إليه منذ سنتين تفتح أبوابه على الأشجار، وسطحه مكشوف على البحر والجبل، أما غرفة نومي فيفتح شباكها على شجرة لا أعرف اسمها لكن وردها الأصفر مثير ومحفز.

لا أذكر أنني راودت اللغة في تشرين، أو رجوتها أن تزورني.

كان يكفى أن يأتي هو فتهب رياحه المثمرة بإلهام ما، يكون كرنفاًلا لروحي العطشانة دوماً للكلمات.

جاء تشرين الأول هذه السنة، ولم يكن يشبهني، صرت اليوم أبتكر الحيل لأجعل اللغة زائرتي، ولكنها لا تمنحني حتى فرصة مراودتها.

تبدو الأشياء من حولي عليلة ومنشطرة وضباببة، والكلمات ليست فقط «بطاقات ملصقة على الأشياء»، بل شرنقة لا مرئية، وسلاسل و قيود لزجة.

تخنقني بشدة فأشعر بأني صرت الفريسة.

تستمر في خنقي وتختنق داخل حلقي.

فأبدأ بالهلوسة.

ومادمت مكممة فيمكنني أن أخاطب الكلمات؛ لكنها صماء وجامدة.

الكلمات الخانقة تحول تشرين إلى وحدة  قياس، شهر آخر تعيس وبائس يمضى من حياتي التي تشبه «تشرينات» القديمة أحب أن أسميه تشرين، يأسرني الاسم بشدة.

يتغير جسدي أيضا في تشرين، بشرتي تصبح فاتحة بدرجتين، وقلبي زائدة نبضاته نبضتين، شعري يتساقط وينمو بدلاً منه عشب، ومشابكي تصير أزهار بابونج، وكل الندبات تصبح أوشاماً حتى الجرح في خاصرتي، الوتد الذي يشدني إلى أنوثتي ويذكرني بها يصير أصفر على الرغم من حرصي الشديد على بقائه رمادياً.

تمر أيام تشرين هذه متشابهة، ممزوجة بالخوف، وبوجع خفي لا أدرك مصدره تماماً.

  إنني أصير كاذبة أيضاً لا فقط مهزومة ورمادية، لأنني أعرف أن ابتسامتك هي ما ينقذني، ما يجمّل ليالي الخريف وأيامه.

إني كاذبة للمرة الثانية، الحقيقة أن ابتسامتك تجمّل كل الفصول، والحقيقة المطلقة أني أحب تشرين لأن روحي تضج بالكلمات، وأنسى قليلاً أن قلبي مزدحم بتلك الاستعارة التي تقتله وتحييه.

تلك الاستعارة التي مازلتُ أسميها ابتسامتك.

في كل تشرين لا أكون كاذبة ولا خائفة ولا مهزومة ولا مأزومة الفؤاد، أحمل السعادة وأوزعها في كل مكان، وأعلق أماني كثيرة على أبواب جيراني الغرباء، فاللغة فيه تصبح مثمرة مثل أشجاره، ونديّة مثل تربته، وممتعة مثل رذاذه، وخفيفة مثل نسماته.

في كل تشرين تزيد هشاشة قلبي وقوة جسدي ويزيد عنادي.

أمّا الآن فأنا مثل فقاعة.

كان يمكن أن أكون بالوناً أخضر أو ورقة صفراء من شجرة تين، لكن قسوة هذه الأيام سجنتني داخل فقاعة، فلا أنا خضراء ولا صفراء، لا حيّة ولا ميتة.

.

وصارت كل أيامي فقاقيع رمادية.

أيامي لا مرئية مادمتُ أتحرك ويعتقد الآخرون أني كما أنا مندفعة وسعيدة.

لذلك لا يحاول أي كان أن يفجرها ليحررني، فربما أبكي وأنهزم.

  أنا هكذا الآن؛ خلافاً لكل خريف أصير امرأة حزينة داخل فقاعة رمادية، يكفي أن ينتبه أحدهم فيثقب البالون ويحررني.

 

منوعات      |      المصدر: مجلة سيدتي    (منذ: 1 سنوات | 58 قراءة)
.