"تي إس إم سي" درع السيليكون التايوانية .. مركز الصراع حول مستقبل التكنولوجيا

قليل من الأشخاص الذين يعرفون ماذا يعني هذا الاسم المختصر "تي إس إم سي"، وربما أقل منهم يعلمون أنه اختصار لشركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة Taiwan Semiconductor Manufacturing Co.

ومن المؤكد أن الأغلبية - إن لم يكن الجميع - لم يسمع من قبل عن موريس تشانج ولا من هو مارك ليو.

على أي حال لا يوجد غضاضة في ذلك، فعالم أشباه الموصلات عالم شديد التخصص، لم يكن يهتم به من قبل سوى المختصين في مجال الإلكترونيات وثلة من الخبراء الاقتصاديين.

لكن الاهتمام بهذا العالم التقني طفا على السطح وبات محل حديث الجميع مع جائحة كورونا والمشكلات التي اجتاحت سلاسل التوريد العالمية، فحاجة الاقتصاد الدولي الماسة إلى الرقائق الإلكترونية دفعت وسائل الإعلام خاصة الصحف الاقتصادية لتكثيف الضوء أكثر وأكثر على تفاصيل تلك الصناعة وحجمها، والأهم التركيز على درة التاج فيها والمقدر قيمتها بمليارات الدولارات، إنها الشركة التايوانية لصناعة أشباه الموصلات المحدودة.

على الرغم من أن اسم شركة تي إس إم سي لا يعد من الأسماء ذائعة الانتشار على غرار أبل وأمازون وجوجل وفيسبوك، إلا أنها وبلا منازع أكثر شركات الرقائق الإلكترونية أهمية دوليا والمهيمنة على إنتاج الرقائق الإلكترونية على المستوى العالمي.

باختصار إنها الشركة التي تجعل عالم وصناعة الإلكترونيات مستمرين في النمو، فمن الهواتف والساعات الذكية إلى أجهزة الكمبيوتر المحمول مرورا بالثلاجات الحديثة وانتهاء بالسيارات فإن بصمة الشركة التايوانية موجودة عليهم جميعا، إنها الشركة التي تفخر شركات بحجم أبل وأنتل وإيه أم دي ونفيدا أنهم عملاء لديها.

وسط الحديث عن الشركة التايوانية وأهميتها يغيب في الأغلب اسم موريس تشانج، رغم أنه العقل المنظم والمؤسس لهذا العملاق الاقتصادي.

ولد في 1931 في منطقة تشجيانج الصينية، حيث أحلام الصبا أن يكون روائيا أو صحافيا، إلا أن المطاف انتهى به لدراسة الهندسة الميكانيكية في الولايات المتحدة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

وبفشله مرتين متتاليتين في اختبارات التأهل للدكتوراه، عاد إلى الديار ليصعد في السلم الوظيفي، وليعين من قبل الحكومة التايوانية في 1985 للمساعدة في تطوير صناعة أشباه الموصلات، وفي 1987 أسس الشركة التايوانية لصناعة أشباه الموصلات المحدودة كمشروع مشترك بين حكومة تايوان "21 في المائة" وعملاق الإلكترونيات الهولندي متعددة الجنسيات فيليبس "28 في المائة" ومستثمرين آخرين من القطاع الخاص، وليتوج حياته المهنية بثروة شخصية قدرت في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بـ2.

8 مليار دولار، ربما عوضته بعض الشيء في أحلام لم يحققها بأن يكون روائيا أو صحافيا.

تسيطر الأيقونة التايوانية "تي إس إم سي" بقيمتها البالغة 550 مليار دولار على أكثر من نصف السوق العالمية للرقائق الإلكترونية المصنوعة حسب الطلب، ولديها سيطرة أكبر بكثير على ما يعرف بالمعالجات الإلكترونية الأكثر تقدما، إذ تلتهم بمفردها 90 في المائة من حصة السوق العالمية من تلك المعالجات التي يتوقع أن تكون أسرع بنسبة 70 في المائة وأكثر كفاءة في استهلاك الطاقة من المعالجات المستخدمة حاليا.

ويعلق لـ"الاقتصادية" المهندس بيتر هنري الاستشاري المتخصص في أشباه الموصلات لـ"الاقتصادية" قائلا، "نمت أهمية أشباه الموصلات بشكل كبير في النصف الثاني من القرن الماضي، وبلغت مبيعات الرقائق الإلكترونية العالمية 440 مليار دولار 2020، ومن المتوقع أن تنمو بأكثر من 5 في المائة سنويا، ويسميها الرئيس جو بايدن بالمنتجات المهمة التي يمكن أن تعرض الاضطرابات فيها حياة الأمريكيين وسبل عيشهم للخطر، بينما تقارن حكومتا كوريا الجنوبية واليابان أهمية أشباه الموصلات بالأرز الغذاء الرئيس للشعبين".

وبدرجة من التهكم يضيف المهندس بيتر هنري "الصين تهدد دائما باحتلال تايوان، لكن شركة تي إس إم سي، تضمن لتايوان أن العالم لن يتركها بمفردها في مواجهة بكين، إذ يبدو أن تلك الشركة هي الضامن الحقيقي لدفاع العالم على استقلال تايوان، إذ لا يمكن للغرب أن يترك الصين تهيمن على تلك الصناعة الاستراتيجية".

نجاح شركة تي إس إم سي في السيطرة على هذه السوق الحيوية، وتحالف تايوان مع الولايات المتحدة، والتوترات بين بكين وتايبيه وواشنطن، دفعت بوزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون إلى الضغط على إدارة البيت الأبيض للاستثمار بشكل أكبر في صناعة الرقائق المتقدمة، فالنقص العالمي في الرقائق أثر في 169 صناعة تمتد من الصلب والخرسانة الجاهزة إلى وحدات التكييف، وأبطأ جميع منتجي السيارات في العالم إنتاجهم وقاموا بإيقافه في بعض الأحيان، ما جعل عدد السيارات التي دخلت صالات العرض العالمية العام الماضي أقل من 2020 بنحو أربعة ملايين سيارة.

باختصار ندرة الرقائق على المستوى العالمي حولت شركة تي إس إم سي من شركة مهمة غير معروفة للجمهور، إلى شركة استراتيجية ومركز صراع عالمي حول مستقبل التكنولوجيا.

وتقول لـ"الاقتصادية" الدكتورة دورثي التون أستاذة الاقتصاد الدولي في جامعة كامبريدج "ستلعب الشركة التايوانية دورا كبيرا في تحديد شكل صناعة أشباه الموصلات في العالم في نهاية هذا العقد، فأزمة المناخ وتزايد التوترات الجيوسياسية وتنامي دور الذكاء الاصطناعي، وحتى محاربة الأخبار المزيفة من خلال التحقيق الآلي للحقائق على وسائل التواصل الاجتماعي، كل هذا سيتطلب رقائق إلكترونية شديدة السرعة، والشركة التايوانية ستكون في المقدمة والمورد الرئيس لتلك الرقائق".

وتضيف "اذا كانت شركة تي إس إم سي رمزا للنجاح وطالما ظل العالم في حاجة إلى الرقائق الإلكترونية، فما هي المشكلة، دعونا نكرر تلك التجربة الناجحة على أرضنا.

كانت تلك تصريحات لأعضاء في الكونجرس الأمريكي، تساءلوا: لماذا لا تقوم واشنطن بإنشاء شركة مماثلة للشركة التايوانية؟ فالولايات المتحدة تتمتع بالمقدرة المالية والتقنية للقيام بذلك، فلماذا تظل مرهونة لشركة تايوانية يمكن أن تذهب في تسونامي صيني قد يغرق الجزيرة يوما ما؟".

بالطبع الأمر ليس بهذه السهولة، ولا يتعلق فقط بالتكلفة المالية الباهظة الواجب تحملها إذا كانت هناك رغبة لإنشاء شركة مطابقة للعملاق التايواني، لكن الأمر الأهم أن عملاء الشركة التايوانية يدركون أنهم لا يتعاملون مع مورد تقليدي، وإنما شركة فريدة من نوعها في سوق تميزه خصائص معقدة يتداخل فييها الاقتصادي والسياسي والاستراتيجي.

ففي حزيران (يونيو) 2018 وعن عمر يناهز 86 عاما سلم موريس تشانج مقاليد الشركة إلى الرئيس التنفيذي الجديد "مارك ليو"، حينها أعتقد كثيرون أن الشركة ستبدأ في فقدان بريقها، فمن ذا الذي يستطيع تعويض العقلية الفذة التي تمتع بها تشانج وقادة صعود الشركة إلى مصاف الشركات العالمية، لكن ما اعتقد البعض أنه بداية النهائية أثبت أنه نقطة انطلاق جديدة للشركة بفلسفة أكثر عدوانية للتعامل مع الخصوم الذين أطيح بهم واحدا تلو الآخر لتحتكر القمة بمفردها.

ولـ"الاقتصادية" يعلق المهندس كامبل ديفر الخبير في مجال الرقائق قائلا "بصرف النظر عن المليارات المستثمرة من تي إس إم سي لتأمين تفوقها التكنولوجي، وتعهد القيادة الجديدة بزيادة استثماراتها لتعزيز الطاقة الإنتاجية بنسبة تصل إلى 47 في المائة هذا العام مقارنة بالعام الماضي مع استمرار الطلب العالمي على الرقائق في الارتفاع، بحيث ستراوح ميزانية الإنفاق الرأسمالي هذا العام بين 40 - 44 مليار دولار وهو رقم قياسي مقارنة بـ30 مليار دولار في 2021، ومن المرجح أن تنمو إيرادات الشركة هذا العام بنحو 25 في المائة مقارنة بالعام السابق، بغض النظر عن كل هذا فإن الرئيس التنفيذي الجديد للشركة يتبع الفكرة الرئيسة لمعلمة تشانج لا احد يجب أن يتفوق على شركتنا".

وفي الواقع فإن المسار الوظيفي للرئيس التنفيذي الجديد تشبه في نواح كثيرة مسار مؤسس الشركة، فبعد أن نال الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا تولى مهام وظيفية في شركة أنتل، لكنه غادرها وانضم إلى الشركة التايوانية في 1993، وقد تبناه مؤسس الشركة موريس تشانج، ليعلمه جميع الأسرار التي تضمن أن الشركة ستواصل النمو والاحتفاظ بموقعها المميز في عالم الرقائق الإلكترونية.

مع هذا فإن البعض يرى أن المكانة الذهبية للشركة التايوانية في عالم الرقائق قد تتطلب وقفة لملاحظة بعض جوانب الضعف المرتبطة في الوقت ذاته بنجاحها.

تبدو نقطة الضعف التي تواجه شركة تي إس إم سي التايوانية من وجهة نظر المحلل الاقتصادي أليسون كلارك في ارتباط نجاحها بعميل واحد وتحديدا شركة أبل الأمريكية.

ويقول لـ"الاقتصادية"، قامت شركة كوبرتينو إليكترك العملاقة بالاستعانة بمصادر خارجية لتصنيع رقائقها ومنحت عقودها لشركة سامسونج التي صنعت الرقائق المستخدمة في الأجيال الستة الأولى من الهاتف آيفون، لكن بعد أن أطلقت شركة سامسونج هواتف جلاكسي الذكية المنافسة لآيفون رفعت شركة أبل في 2011 دعوى قضائية ضد سامسونج بدعوى سرقة ابتكارها آيفون، وتمت تسوية القضية في النهاية بمنح الشركة الأمريكية مبلغ 539 مليون دولار، هذا الخلاف كان نعمة للشركة التايوانية، حيث سعت أبل إلى إخراج سلاسل التوريد الخاصة بها من سامسونج، والاعتماد على الشركة التايوانية".

بالفعل لعبت أبل دورا رائدا ومحوريا في جعل شركة تي إس إم سي رائدة في مجال التكنولوجيا بلا منازع، لكن هذا لم يكن بلا ثمن إذ تقلصت مجموعة عملاء الشركة التايوانية، ما يجعلها عرضة للخطر إذا وقع ما لا يحمد عقباه لأحد شركائها الرئيسين والمحدودين خاصة أبل.

في العام الماضي توقفت شركة تي إس إم سي عن إمداد شركة الاتصالات الصينية هواوي باحتياجاتها من الرقائق، مثل تلك الخطوة بحجب إنتاج الشركة من الرقائق عن شركة بقامة هواوي التي تعدها الولايات المتحدة وكيلا تكنولوجيا للدولة الصينية يجعل المنافسين الرئيسين لشركة تي إس إم سي التايوانية ليسوا شركات وإنما حكومات، وهذا مستوى آخر من المنافسة يدق ناقوس الخطر حتى عند الحلفاء، لأنه يكشف عن أن القرارات لا يتخذها مجلس إدارة الشركة بناء على المعايير الاقتصادية والتجارية، وإنما تتخذ في أروقة الحكومة التايوانية ووفقا لمعايير الأمن القومي.

وربما يكون ذلك السبب تحديدا هو الذي دفع المفوضية الأوروبية لكشف النقاب عن تحالف لمنتجي أشباه الموصلات بين القطاعين العام والخاص بهدف زيادة حصة الأوروبيين من الإنتاج العالمي إلى 20 في المائة بحلول 2030، كما قدمت حكومة كوريا الجنوبية حوافز بقيمة 450 مليار دولار لدفع الاستثمار في الرقائق الإلكترونية من قبل المنتجين المحليين.

يعي القائد الجديد للشركة التايوانية مارك ليو وبشكل واضح لا لبس فيه بأن دخول السياسة على المسار الاقتصادي يضر التجارة ولا يصلح السياسة، وهذا ما يجعله يردد بأن العداء الحالي بين الولايات المتحدة والصين لا يفيد أحدا، وكون بكين وواشنطن دولتين غير صديقتين، لا يجب أن يعني أنهما أعداء.

تكشف تلك القناعات أن الشركة التايوانية لا تريد أن تعصر بين العملاقين الصيني والأمريكي، إذ إن عصرها بين المتنافسين الأكبر في الاقتصاد العالمي لا يعني أنه ستتعرض لخسائر مالية فقط، إذ إن ذلك يمكن تعويضه، لكن يمكن أن يكون له تأثير في الدولة التايوانية ذاتها، حيث إن فقدان شركة تي إس إم سي لمكانتها يعني فقدان تايوان لما يعده البعض درع سيليكون تمتلكه الجزيرة التي يبلغ عدد سكانها 23 مليونا لصد هجوم التنين الصيني.

هذا الوضع يدفع البروفيسور في العلوم السياسية إن.

أرثر من جامعة جلاسكو إلى القول "تايوان تدرك تماما أن شركتها لصناعة الرقائق عنصر قوة لديها على الساحة الدولية، لكن استخدام عنصر القوة بشكل دائم يضعفه مع مرور الوقت، إذ يدفع الآخرين إلى البحث عن بدائل، فالشركات الأمريكية تستحوذ على 65 في المائة من مبيعات الشركة التايوانية، لكن في الوقت ذاته الصين هي الوجهة النهائية لمعظم الإنتاج العالمي من الرقائق الإلكترونية باعتبارها مصنع العالم، وفي 2020 استوردت الصين رقائق إلكترونية بما قيمته نحو 350 مليار دولار، ويلاحظ الآن أن الشركات الصينية تخزن الرقائق لأنها تجد نفسها مستهدفة بعد ما حدث مع شركة هواوي".

ويضيف "الولايات المتحدة تهيمن على تصميم الرقائق، إلا أنها تفتقر إلى القدرة التصنيعية وهذا مقلق لصناع الاستراتيجية الأمريكية، ومن ثم سيكون عليهم مواصلة الاعتماد على شركة في دولة حليفة والشركة التايوانية نموذج مثالي يمكن الاعتماد التام عليه، وفي ذات الوقت هذا الاعتماد الأمريكي إيجابي لتايوان شريطة أن تحافظ على علاقة متوازنة ومتفهمة للاحتياجات الصينية من الرقائق".

ويؤكد أن مستقبل الرقائق الإلكترونية ملئ بالتحديات وكذلك مستقبل شركة تي إس إم سي التايوانية، لكن التحدي الأكبر أنها على القمة الآن، وعندما تكون على القمة فأحيانا يكون الاتجاه الوحيد أمامها الهبوط إذا لم تحسن البقاء على القمة.

السعودية      |      المصدر: الاقتصادية    (منذ: 1 سنوات | 32 قراءة)
.