حرب الولايات المتحدة في أوكرانيا | (5) بناء التحالفات

إذا كانت الحرب العالمية الثانية قد قضت على أكثر من 75 مليون إنسان، وهو ما يعادل حوالي 3% من سكان العالم آنذاك، ودمرت أكثر من 25% من المساكن والمنشآت والطرق والجسور والمزارع والبنية التحتية في أوروبا، بلغت تكلفتها حوالي 4 تريليونات دولار، أي حوالي 64 تريليون دولار بسعر اليوم؛ فكم ستبلغ التكلفة البشرية والبنيوية والمالية التي سيدفعها العالم في الحرب العالمية الثالثة حال حدوث مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين وروسيا وحلفائهما من جهة أخرى، حرب لا يوجد بينها وبين الحرب العالمية الثانية أي شبه، لا من حيث الأسلحة المرعبة التي ستستخدم فيها، ولا من حيث حجم الدمار الذي سيلحق بالكرة الأرضية وسكانها.

ونرجو أن تساهم الخبرة التاريخية التي خرجت بها البشرية من الحرب العالمية الثانية، في تحييد الخيار العسكري عن المواجهات القادمة.

لم تحدد الولايات المتحدة بعد خيارات المواجهة مع الصين، على النحو الذي قامت به مع روسيا في أعقاب حربها على أوكرانيا، ولكن الحديث عن تطوير القدرات العسكرية وتفوقها على الصين في كافة المجالات، هو الذي يظهر على السطح في المؤتمرات والاجتماعات والتقارير والتصريحات، وهذا لا يعني أن الحرب وشيكة، بقدر ما يعني الاستعداد لخوض الحرب والتأكد من حتمية الانتصار فيها حال وقوعها.

خيارات المواجهة لم يعد الحديث عن المواجهة المحتملة بين الولايات المتحدة والصين أمرا يتم في الخفاء، فقد أصبح الحديث عن تهديد الصين لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها والنظام العالمي الغربي وقيمه على ألسنة القادة والإعلام ومراكز الدراسات وقياس الرأي، بصورة واسعة تذكرنا بفترة حكم الرئيس جورج بوش الابن الذي لم يكن يدع مناسبة للحديث إلا ذكر فيها القاعدة وصدام حسين.

والحديث عن المواجهة يعني الحديث عن خيارات المواجهة ومجالاتها وتوقيتها ومراحلها وميادينها، ومن بينها -وليس بالضرورة آخرها- المواجهة العسكرية، التي تعني وضع بداية لمرحلة جديدة من عمر البشرية، من الصعب تخيّل ملامحها.

ومن الطبيعي أن تكون الولايات المتحدة على دراية تامة بخطورة المواجهة العسكرية، عليها وعلى حلفائها قبل غيرهم، ولذا نجدها تعمل على تجنب المواجهة العسكرية المباشرة، وتهيئ الظروف للمواجهة في المجالات المدنية، مع الاستمرار في سباق التسلح، لتحقيق النصر على الصين في أي مواجهة عسكرية محتملة.

ومع ذلك، فإن قرار اللجوء إلى المواجهة العسكرية لا يستند بالضرورة على الدراسات والاستطلاعات، وترتيب الأولويات، وحسابات الربح والخسارة، وإنما يتأثر في كثير من الأحيان بالمواقف والتصورات الذاتية لرأس الدولة والأغلبية التشريعية الموالية، فقد خاضت الولايات المتحدة في فترة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، وما بعدها، حروباً مدمرة لم تحقق أهدافها رغم تكلفتها الباهظة، كان آخرها حربها في أفغانستان والعراق لمدة 20 عاما، من 2001 إلى 2021، أدت إلى سقوط مباشر لحوالي مليون قتيل، وأضعاف ذلك قضوا كنتيجة غير مباشرة لهذه الحرب التي أدت إلى نزوح وتهجير حوالي 38 مليون شخص، وبلغت تكلفتها المالية من الجانب الأميركي فقط 8 تريليونات دولار، تعادل بسعر اليوم أكثر من 13 تريليون دولار، دون أن تحقق شيئا من أهدافها المعلنة.

لم تحدد الولايات المتحدة بعد خيارات المواجهة مع الصين على النحو الذي قامت به مع روسيا في أعقاب حربها على أوكرانيا، ولكن الحديث عن تطوير القدرات العسكرية وتفوقها على الصين في كافة المجالات هو الذي يظهر على السطح في المؤتمرات والاجتماعات والتقارير والتصريحات، وهذا لا يعني أن الحرب وشيكة، بقدر ما يعني الاستعداد لخوض الحرب والتأكد من حتمية الانتصار فيها حال وقوعها.

ومن الواضح، بحسب العديد من التقارير والتصريحات الأميركية، أن خيارات المواجهة المدنية ضد الصين ستتوزع على عدة مجالات، في مقدمتها: المجال السياسي، والمجال الاقتصادي، والمجال المعلوماتي، والمجال التكنولوجي، والمجال الإعلامي.

وهذه المواجهة تحتاج إلى سنوات من التحضير والتحرك والمثابرة، بدءا من بناء التحالفات التي تسرّع من تحقيق أهداف المواجهة والقضاء على الخصم، هذه التحالفات التي شرعت الولايات المتحدة فعليا في بنائها فور بداية الحرب الروسية على أوكرانيا.

الولايات المتحدة على دراية تامة بخطورة المواجهة العسكرية عليها وعلى حلفائها قبل غيرهم، ولذا نجدها تعمل على تجنب المواجهة العسكرية المباشرة وتهيئ الظروف للمواجهة في المجالات المدنية، مع الاستمرار في سباق التسلح، لتحقيق النصر على الصين في أي مواجهة عسكرية محتملة.

أهمية التحالفات تمثل التحالفات الدولية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية ذراعا أساسية من الأذرع التي تلجأ إليها عند إقدامها على القيام بتحركات إقليمية أو دولية كبرى، كحلف الناتو الذي تشكل في أعقاب الحرب العالمية الثانية بين أوروبا وأميركا الشمالية عام 1949، وكان يضم حينها 12 دولة، وصلت حاليا إلى 30 دولة.

ومن هذه التحالفات، التحالف الذي قامت به الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، حين أعلن الرئيس جورج بوش الابن حربه على ما يسمى "الإرهاب"، وانضم إليه في ذلك حلف الناتو واليابان وأستراليا.

وقد نفّذ الناتو لأول مرة المادة رقم "5" من ميثاقه، والتي تلزم دول الحلف -الذي تأسس عام 1949- بالدفاع عن أي دولة من أعضائه تتعرض لعدوان خارجي، وكان عددها عام 2001: 19 دولة.

ولم يلبث تحالف الرئيس بوش أن اتسع ليضم 196 دولة قدمت مساهمات مالية لدعم حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب، من بينها 142 دولة اتخذت إجراءات فعلية لمحاربة الأنشطة والمنظمات الإرهابية على أراضيها.

وكان أكبر تحالفات الولايات المتحدة على الإطلاق من حيث عدد الدول المشاركة فيه، هو التحالف الدولي ضد الإرهاب، الذي تشكل في سبتمبر/أيلول 2014 لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، ويضم 85 دولة من دول العالم الأعضاء في الأمم المتحدة والبالغ عددها 193، ويلتزم أعضاء هذا التحالف "بمواجهة تنظيم داعش على مختلف الجبهات وتفكيك شبكاته ومجابهة طموحاته العالمية"، والعمل على "تدمير بناه التحتية الاقتصادية والمالية، ومنع تدفق المقاتلين الإرهابيين الأجانب عبر الحدود، ودعم الاستقرار، واستعادة الخدمات الأساسية العامة في المناطق المحررة من داعش، ومجابهة الدعاية الإعلامية للتنظيم".

ولا يزال التحالف قائما حتى يومنا هذا.

وتبرز أهمية هذه التحالفات بالنسبة للولايات المتحدة، بالنظر إلى ما تحققه من مقاصد عديدة، نذكر من بينها: إضفاء الشرعية الدولية على ما تقوم به الولايات المتحدة من تحركات وممارسات.

تعزيز صورة الولايات المتحدة الأحادية القطبية، وتأكيد هيمنتها وقدرتها على إدارة التحركات الدولية وقيادة العالم.

إلزام دول العالم بما يصدر عن الولايات المتحدة من خطط وبرامج وسياسات وإجراءات تخصّ هذه التحركات.

دفع دول العالم لتبني التحركات أحادية الجانب التي تقوم بها الولايات المتحدة، وإظهار هذه التحركات على أنها تحركات دولية.

توسيع حجم المواجهة التي سيتعرض لها الخصم.

مشاركة دول العالم في تقديم الدعم المالي لهذه التحركات، وما يترتب عليها من برامج ومشروعات.

فتح الطرق البرية والجوية والبحرية أمام الولايات المتحدة وحلفائها، لتسهيل التحرك وإقامة القواعد والتشكيلات وشبكات الإمداد.

البناء وإعادة البناء منذ بداية ولايته، شدد الرئيس الأميركي جو بايدن على إعادة بناء تحالفات وشراكات الولايات المتحدة التي تضررت بسبب سلفه دونالد ترامب، بعد أن ألحق أضرارا كبيرة بتحالفات الولايات المتحدة وحلفائها، حين طالبهم بتسديد فاتورة الخدمات الدفاعية التي تقدمها لهم الولايات المتحدة.

كرر الرئيس بايدن كثيرا أنه سيعمل على تنشيط وتحديث تحالفات وشراكات الولايات المتحدة حول العالم، وهذا يعني التحرك لإعادة بناء التحالفات القديمة وتنشيطها من جهة، وبناء تحالفات وشراكات جديدة من جهة أخرى.

وفور اشتعال الحرب الروسية على أوكرانيا، تحركت الإدارة الأميركية لإعادة بناء تحالفاتها مع حلف الناتو، لتعتمد عليه في تعزيز موقفها من الحرب، والاستفادة منه في تفكيك القوة الروسية، خصمها التقليدي القديم، لتتحول إلى خصمها الصيني الجديد الذي يبذل جهودا مستمرة لتقويض النظام العالمي القائم على قواعد الديمقراطية والحرية والمساواة، وصار يمثل تحديات سياسية واقتصادية وعسكرية وتكنولوجية للمنطقة والعالم، بحسب بيان اللجنة الاستشارية الأمنية الأميركية اليابانية بحضور وزيري الخارجية والدفاع من كلا البلدين مطلع العام الجاري، والذي عقدوا فيه العزم على العمل معا لردع الأنشطة المزعزعة للاستقرار في المنطقة والعالم.

إذن، سيمضي العمل في تهيئة التحالفات التي تحتاجها الولايات المتحدة لمواجهة للصين وروسيا، في مسارين: الأول إعادة بناء التحالفات القائمة وتنشيطها، والثاني إنشاء تحالفات جديدة تعزز من قدرة التحالفات القائمة، وتزيد من فرص الولايات المتحدة لإدارة المواجهة بالشكل الذي يحقق أهدافها في نهاية المطاف، ولكن ذلك سيدفع بدوره الطرف الآخر في المواجهة إلى إنشاء التحالفات الخاصة به، والتي ستزيد من حدة التوتر والانقسام في العالم في السنوات القادمة.

(يتبع.

.

إعادة بناء حلف الناتو) الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

الوكالات      |      المصدر: الجزيرة    (منذ: 2 سنوات | 20 قراءة)
.