هل فقدت الصحافة المطبوعة أهميتها بتخليها عن الدفاع عن الحريات؟

الصحافة المطبوعة تواجه تحديات يمكن أن تهدد وجودها وحياتها، فكان من أهم نتائج ثورة الاتصال تطوير وسائل جديدة لتدفق الأنباء ونقل المعرفة للجمهور.

بدأ الكثير من الصحفيين يهجرون مهنتهم، وكان من أهم أسباب ذلك انخفاض الأجور، حيث أصبحت المنصات الإلكترونية تحقق أرباحا كبيرة، فهي لا تدفع ضرائب، ولا تنتج مضمونا أصيلا يحتاج إلى تكاليف عالية، كما تفعل الصحافة المطبوعة التي تزايدت خسائرها، وأصبحت المحافظة على حياتها هدفا يحتاج إلى كفاح، وأفكار جديدة ومبدعة، وحلول غير تقليدية.

الاتجاه إلى الاندماج هناك حلول لجأت لها بعض المؤسسات الصحفية في أوروبا وأميركا تشكل خطرا على المجتمع، فقد قامت الشركات بدمج الصحف، وبيعها للإمبراطوريات التي تملك الكثير من وسائل الإعلام التي يمكن أن تعوّض خسائر الصحف من أرباح وسائل إعلامية، أو أنشطة اقتصادية أخرى.

وقد حذر الاتحاد الدولي للصحفيين من النتائج الخطيرة لذلك الاتجاه الذي يهدد التعددية والديمقراطية، ويؤدي إلى تقييد قدرة الصحافة على حراسة مصالح المجتمع وكشف الانحرافات والفساد.

ويرى الاتحاد أن الصحافة يجب أن تقوم بخدمة المصلحة العامة، وليس مصالح الشركات الكبرى، ولذلك يدعو الاتحاد إلى المحافظة على نوعية الصحافة، وجودة المضمون الذي تقدمه.

وبهذا يفتح الاتحاد الدولي للصحفيين مجالا جديدا للتفكير في مستقبل الصحافة، والمحافظة على حياتها، فالتركيز والاحتكار لا يشكل حلا، بل إنه يؤدي إلى فرض قيود على المضمون الذي تقدمه الصحف، وهذه القيود لا تقل خطورة عن القيود التي تفرضها السلطات في الدول الدكتاتورية.

ولقد كافح الصحفيون منذ بداية القرن الـ19 ضد عدو واحد هو السلطة التي استخدمت الصحافة لإخضاع الشعوب، والتحكم في المعرفة التي تصل إليها.

لكن ظهر عدو أكثر شراسة منذ بداية النصف الثاني من القرن الـ20 هو الشركات عابرة القارات التي عملت لبناء إمبراطوريات إعلامية أصبحت تقوم بدور وزارات الإعلام الرأسمالية كما يصفها ماكنزي.

ولقد أوضحت الكثير من الدراسات أن الإمبراطوريات الإعلامية أخفت الحقائق عن الفساد الرأسمالي مثل الفضائح المحاسبية عام 2006، والأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، ولم تقم بدورها في حراسة مصالح المجتمع، وتحذيره من المخاطر، وكشف الانحرافات والفساد.

وهذا يوضح كيف أن الصحافة الأميركية لم تعد قادرة على القيام بالدور الذي قامت به في كشف الحقائق عن حرب فيتنام، وقامت بتزييف الوعي، ونشر الإسلاموفوبيا، وإثارة الجماهير لتأييد العدوان الأميركي على أفغانستان والعراق.

فهل مضى زمن الصحافة التي وصفها أحمد شوقي: لكل زمان مضى آية … وآية هذا الزمان الصحف وهناك دائما سؤال يطرح نفسه وهو كيف حافظت أميركا حتى الآن على صحافتها المطبوعة لأنها تدرك أهميتها للديمقراطية، ودورها في بناء مجتمع المعلومات.

إغلاق الصحف المسائية الأمر يختلف في الدول الدكتاتورية، فما زالت السلطة هي العدو الرئيس للصحافة، فهي تعمل بشكل مستمر للسيطرة على وسائل الإعلام، واستخدامها في إخضاع الشعوب وحرمانها من المعرفة، لأنها تدرك خطورة المعرفة على الاستبداد.

إن دراسة واقع الصحافة المصرية توضح أن القيود التي فرضتها السلطة على الصحافة أفقدتها القدرة على القيام بوظائفها، ومن أهمها الوفاء بحق الجماهير في المعرفة، وإدارة المناقشة الحرة، وكشف الانحرافات والفساد ولقد تناقص توزيع الصحف المطبوعة في هذه الدول، فأصدرت السلطة في مصر قرارها بإغلاق 3 صحف مسائية هي الأهرام المسائي والمساء والمسائية، وهي صحف كانت تقدم مضمونا متميزا خلال فترات سابقة، حيث تغطي الأحداث التي لا تستطيع الصحف الصباحية تغطيتها، وقالت السلطة إنها سيتم تحويل هذه الصحف إلى الإصدار الإلكتروني، لكن الحقيقة التي يعرفها كل الصحفيين أنه قد تم إغلاقها، وأن مواقع هذه الصحف لا تقدم مضمونا يجذب القراء.

هل ثورة الاتصال هي العامل الرئيس الذي أدى إلى تدهور توزيع الصحف المصرية، وإغلاق الصحف المسائية؟ إن دراسة واقع الصحافة المصرية توضح أن القيود التي فرضتها السلطة على الصحافة أفقدتها القدرة على القيام بوظائفها، ومن أهمها الوفاء بحق الجماهير في المعرفة، وإدارة المناقشة الحرة، وكشف الانحرافات والفساد.

لذلك فإن القيود التي كبّلت السلطة بها الصحافة هي التي جعلتها عاجزة عن تقديم مضمون يعبر عن الشعب المصري، وعن أشواقه للحرية والديمقراطية والعدالة، فانصرف عنها إلى البحث عن المعلومات والمعرفة في وسائل الإعلام الأجنبية والإنترنت.

لقد عجزت الصحافة المصرية عن المنافسة، وتقديم مضمون يجذب الجماهير، وهو السبب الحقيقي في أزمتها التي أشار لها وزير الإعلام، فانهال عليه الهجوم، والاتهامات بعدم الوطنية، وتم منعه من ممارسة سلطاته.

والصحفيون المصريون يعرفون جيدا أن الصحف المسائية أول الضحايا، لكنها لن تكون آخرها، فكل الصحف تناقص توزيعها إلى الحد الذي أصبح رقم التوزيع ينحصر في النسخ التي تشتريها المؤسسات الحكومية لتوضع على مكاتب الموظفين الذين لا يقرؤونها لأنها أصبحت تشبه نشرات العلاقات العامة، ولا يتم إنتاج المضمون الذي تحمله بأقلام الصحفيين.

دراسة واقع الإعلام المصري توضح أن ثورة الاتصال لم تكن العامل الرئيس في تشكيل أزمة الصحافة المطبوعة، لكن السلطة كان لها دورها الحاسم في تشكيل تلك الأزمة، فهي التي قيدت حرية الصحافة، ومنعت الصحفيين من تقصي الحقائق، وتقديم تغطية متعمقة للأحداث، والتعبير عن الشعب.

لذلك فإن المحافظة على حياة الصحافة المطبوعة تحتاج إلى أن يبدأ الصحفيون مرحلة كفاح جديدة يوضحون فيها للشعب أنهم قادرون على التعبير عنه، والدفاع عن حريته، وتوفير المعرفة التي تسهم في إضاءة الطريق له لاستعادة حقه في الحرية والديمقراطية، وتقرير مصيره، وتحقيق الاستقلال الشامل.

ذلك هو الحل الذي يمكن أن يعيد للصحافة الورقية المطبوعة بريقها ومجدها، ويبني لها علاقة مع جمهورها تقوم على الاحترام.

ولكي تعيش الصحافة المطبوعة يجب أن تؤكد على احترامها لوظائفها، وتقدم المضمون الذي يحقق هذه الوظائف، فالشعب يحتاج لصحافة توفر له المعرفة، وتدير المناقشة الحرة.

الأزمة سوف تتسع لتشمل كل قنوات التلفزيون التي لم يعد الشعب يتعرض لها إلا للحصول على التسلية، ومشاهدة الأفلام القديمة، فهذه القنوات لم تعد قادرة على تقديم مناقشة حرة لقضايا الشعب، وبرامج "التوك شو" أصبحت وسيلة لسب المعارضين للنظام، وتوجيه الشتائم لكل المدافعين عن حقوق الإنسان، واتهام الشعب المصري بأنه لا يستحق الديمقراطية إن الشعب المصري قاطع الصحافة عندما عجزت عن نشر الحقائق عن كارثة السد الإثيوبي، ولم تستطع أن تدافع عن حق الشعب في الحياة.

الصحفيون المصريون يدركون أن الذي شكّل أزمة الصحافة المطبوعة ليست ثورة الاتصال، فقد قامت السلطة بحجب المواقع الإلكترونية التي تشكل منافسة لهذه الصحف، ولم يعد هناك من يعبر عن شعب مصر الذي أصبح يبحث عن المعلومات في وسائل التواصل الاجتماعي، ليس حبا فيها، ولكن لأنه لا يجد في صحافته ووسائل إعلامه ما يشبع حاجته للمعرفة.

كان من الطبيعي أن ينصرف الناس لوسائل التواصل الاجتماعي عندما لا يجد رئيس تحرير الأهرام السابق عبد الناصر سلامة فرصة لنشر مقاله على صفحات الجريدة التي كان يرأس تحريرها، فينشره على الفيسبوك، فتوجه له وسائل الإعلام الاتهامات بالخيانة، ويتم سجنه دون أن ينتفض الصحفيون للدفاع عن حرية الصحافة.

القنوات التلفزيونية الأزمة سوف تتسع لتشمل كل قنوات التلفزيون التي لم يعد الشعب يتعرض لها إلا للحصول على التسلية، ومشاهدة الأفلام القديمة، فهذه القنوات لم تعد قادرة على تقديم مناقشة حرة لقضايا الشعب، وبرامج "التوك شو" أصبحت وسيلة لسب المعارضين للنظام، وتوجيه الشتائم لكل المدافعين عن حقوق الإنسان، واتهام الشعب المصري بأنه لا يستحق الديمقراطية.

هذه الأزمة لن يقتصر تأثيرها على الإعلاميين الذين انهارت مهنتهم، لكنها ستؤدي إلى إضعاف الدولة، وزيادة عجزها عن بناء اقتصاد جديد يقوم على المعرفة، ومن ثم يظل اقتصادها يقوم على القروض.

لذلك يجب أن نبدأ مرحلة كفاح جديدة لتحقيق حرية الصحافة والإعلام باعتبارها حقا للشعب ومصدر قوة للدولة، ويجب أن يشارك في هذا الكفاح علماء الصحافة والإعلام، وكل عشاق الحرية، فانهيار الصحافة يؤدي إلى انهيار الديمقراطية، وقيام السلطات بتجهيل الشعوب وتضليلها حتى لا تثور دفاعا عن حريتها وكرامتها.

لذلك يقول الاتحاد الدولي للصحفيين إن الصحفيين لا يكفي أن يقاوموا القيود، ويدافعوا عن مهنتهم، لكن يجب أن يكون لهم صوت في بناء المستقبل، بالعمل لتحسين جودة المضمون الذي يقدمونه للجمهور.

ونحن نضيف إلى ذلك أن الصحفيين يجب أن يقودوا الشعوب بالمعرفة للكفاح من أجل الحرية والديمقراطية، وأن يحموا الشعوب من التجهيل والتضليل، ويطرحوا قضايا المجتمع للمناقشة الحرة، ويكشفوا الانحرافات والفساد، وعندئذ سيعود الشعب إلى الصحافة، وسترتفع معدلات توزيع الصحف ومشاهدة القنوات التلفزيونية.

إن الشعوب تحتاج إلى صحافة حرة تدافع عن حقها في الحرية، وتقود كفاحها وتشكل أساسا لمجتمع المعرفة لذلك من حق شعبنا علينا أن ندافع عن حرية الصحافة، وأن نستخدم مهنتنا للدفاع عن حريته وبذلك يمكن أن يعيد الصحفيون لأمتهم نموذج صحافة الكفاح الوطني.

لذلك أدعو كل الصحفيين للدفاع عن حرية الصحافة، وقيادة شعبهم للثورة ضد الاستبداد بتوفير المعرفة للشعوب، فهل يدرك الصحفيون دورهم التاريخي في إنقاذ مصر؟! الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

الوكالات      |      المصدر: الجزيرة    (منذ: 2 سنوات | 22 قراءة)
.