من "نصفي الآخر" إلى "متلازمة المنقذ".. كيف قدمت لنا السينما صورة زائفة عن الحب؟

يبدأ الأمر في طفولتنا بنموذج الحب الذي تطرحه علينا أفلام ديزني، وقصص الجدات والأمهات، عن الأميرة الحسناء التي تقبع في قصرها في انتظار الفارس الوسيم الذي يأتي على حصانه الأبيض لإنقاذها.

نكبر قليلا ونتابع قصص الحب الرومانسية في مسلسلات وأفلام هوليوود.

وفي مرحلة المراهقة يضع كلٌّ من الفتيان والفتيات لشركائهم المنتَظرين معايير شكلية مثالية مرتبطة بما يُقدِّمه النجوم على الشاشة.

  نعم، نحن نكبر ونحن نُكوِّن صورة مثالية عن الحب والمحبوب مستمدة أساسا من الشباب.

فتنتظر الفتاة باقات الورد والشوكولاتة، بينما فارسها يتمكَّن بصعوبة من حشر جسده في زحام المواصلات العامة، والكفاح في وظيفة مُرهِقة، يكفي راتبها بالكاد من أجل شراء وردة واحدة، ويحلم هو الآخر بشريكة حياة بجسد ووجه مثاليين يشبهان ما يراه على وسائل الإعلام، دون أن يفكر أنها صور زائفة لنساء يختبئن خلف فلاتر الإنستغرام.

  يحظى موضوع أو ثيمة الحب الرومانسي بشيوع كبير سواء في السينما أو الأدب.

وعلى اختلاف التنويعات، تكاد قصص الحب السينمائية تسير بالتسلسل المكرر ذاته تقريبا، من لقاء ثم وقوع في الحب (من النظرة الأولى غالبا)، ثم لا مانع من بعض العقبات هنا وهناك، يتحدَّاها الشريكان حتى تجمعهما النهاية السعيدة ليعيشا في "تبات ونبات" أو "Happily ever after".

وقد رسَّخ هذا التسلسل المتكرر صورة شبه مثالية ومفاهيم منفصلة عن الواقع، ورفع سقف توقعاتنا إلى فضاء نموذجي يُكرِّسه الفن والخيال، قبل أن يأتي الواقع ليهدم سقف التوقعات هذا فوق رؤوسنا وينسف تصوراتنا الرومانسية نسفا تاما.

معتقدات زائفة فيلم "The Wedding Planner" هذا التأثير الذي نحكي عنه للصور السينمائية للحب حقيقي تماما.

في أُجريت في جامعة هيريوت وات في إدنبرة عام 2008، شملت مئات الأفراد وتناولت معتقداتهم وتوقعاتهم فيما يتعلق بالعلاقات، أظهرت النتائج أن محبي أفلام الرومانسية الخفيفة مثل "You’ve Got Mail" و"The Wedding Planner" و"while You Were Sleeping" وأشباهها يواجهون فشلا في التواصل مع شركائهم بفعالية، وقد أشار بعضهم إلى وجود اعتقادات راسخة لديهم مثل أن الشريك ينبغي أن يعرف ما تريد منه دون أن تخبره، وكذلك بوجود توأم الروح الذي نتعرف عليه غريزيا من أول نظرة.

  هذه النتائج تدعمها أخرى أُجريت في جامعة ميتشيغان، ودرس خلالها الباحثون (جوليا ليبمان، ول.

مونيك وارد، وريتا سيبروك) إجابات 625 طالبا جامعيا من بينهم 392 طالبة لمعرفة مدى تأثير الأفلام والمسلسلات من نوعية الكوميديا الرومانسية (romantic comedy) على معتقداتهم حول العلاقات العاطفية.

وأشارت نتائج الدراسة إلى أن التعرُّض لهذه النوعية من المشاهدات ارتبط بمعتقدات مثل الحب من النظرة الأولى والحب المثالي، فضلا عن تركيز مثل هذه الأنواع من الأعمال الفنية على المراحل الأولى من العلاقة التي تتضمن المواعدات الرومانسية والورود والشوكولاتة والمفاجآت، وتجاهلها للتحديات الواقعية والصدامات في المراحل التالية.

"العلاقة الإنسانية الشريفة، التي تستحق أن يُطلق عليها لقب حب، هي رحلة شائكة، وعنيفة، ومرعبة للطرفين، وهي رحلة لصقل وتنقية الحقائق التي سيسكبها كلٌّ منهما على أُذن الآخر".

(الشاعر أدريان ريتش) لكن كي نكون منصفين، دعونا نؤكد أن المعتقدات الخيالية حول العلاقات العاطفية سبقت أزمنة السينما والتلفاز بكثير.

طبقا للأساطير اليونانية القديمة، خُلق الإنسان بأربع أرجل وأربع أذرع ووجهين، ثم قسم زيوس كل إنسان إلى قسمين منفصلين، يعيش كلٌّ منهما في شقاء حتى يلتقي نصفه الآخر الذي لا يناسبه سواه.

وهي الأسطورة التي لا تزال تجد صداها بوصفها مجازا مفسِّرا للعديد من قصص الحب، وهو المجاز الحاضر في الكثير من القصائد والأغاني والأدبيات العربية والأجنبية، كما يشيع استخدامه في مفردات الخطاب الرومانسي اليومي في اللغة المحكية (لقد خُلقنا لبعضنا البعض، أنت نصفي الآخر، وغيرها من العبارات المماثلة).

فيلم "You’ve Got Mail" لكن هذا المجاز على الرغم من شاعريته ورمانسيته قد يطعم العلاقات العاطفية بهشاشة تجعلها أقل قدرة على مواجهة الصراعات الحياتية.

وهذا ما طرحته دراسة أُجريت عام 2014 ونُشرت في مجلة علم النفس الاجتماعي التجريبي (the Journal of Experimental Social Psychology)، تناولت التأثير المحتمل لتقديم الحب في إطار مجازي بوصفه اتحادا مثاليا بين نصفين خُلقا لبعضهما البعض منذ الأزل، مقارنة بفهمه على أنه رحلة بشرية لشريكين، حيث وجدت الدراسة أن التفسيرات المتباينة التي يُقدِّمها هذان الإطاران من الممكن أن تغير نظرة الطرفين وتقييمها للعلاقة العاطفية في حالة مواجهة النزاعات أو المشكلات.

  يُكرِّس مجاز الحبيب المثالي أو النصف الآخر للعلاقة العاطفية باعتبارها انسجاما تاما شاعريا بين نصفين خلق كلٌّ منهما للآخر بلا زيادة أو نقصان، وفي هذا الإطار وعند مواجهة الصعوبات والصراعات الطبيعية، قد يراها الشريكان افتقارا للانسجام ودافعا للتساؤل حول مدى أصالة الحب، ليرتد المجاز الرومانسي المنعش بنتائج عكسية حين تبزغ الخلافات وتنفجر فقاعة الاتحاد الرومانسي اللامعة.

(1)   وفي المقابل، فإن رؤية الحب في إطار مجاز الرحلة التي تتضمن حتمية مواجهة التحديات والصعاب لكنها تسير بالشريكين نحو الأمام تجعل الصعوبات أصيلة وذات مغزى، بل وتُشكِّل جزءا أساسيا وضروريا ضمن مراحل التطور الطبيعي للعلاقة العاطفية، وهو ما يبدو جليا عندما تتضارب أولويات الشريكين، ويصبح الاعتراف بهذا التضارب ومحاولة التوفيق بين الرغبات والطباع هو النتيجة الطبيعية بدلا من رؤية ما يحدث كأنه تحطيم لأسطورة الحب.

متلازمة المنقذ فيلم "Pretty Woman" حسنا، لنعد إلى الخيال مرة أخرى.

نامت الأميرة لأعوام بعد وخزة إبرة، وانتظرت الأمير العابر بالمصادفة لينقذها، وأمير آخر حوَّلته لعنة إلى ضفدع، وظل لسنوات في بركة مياه آسِنة بانتظار قُبلة تُعيده سيرته الأولى.

أما "ألف ليلة وليلة"، ففيها عشرات الرجال والنساء يقبعون في أسر لعناتهم بانتظار مَن ينقذهم.

  تتجذَّر فكرة ارتباط العلاقة الرومانسية بالإنقاذ في القصص الشعبي وأفلام الرسوم المتحركة والعديد من الأفلام الأجنبية والعربية، لنتذكر ريتشارد جير في فيلم "" وكيف أنقذت علاقته العابرة بجوليا روبرتس حياتها.

ولا يقتصر الأمر على الفرسان، في الفيلم المصري "" كانت البطلة (حلا شيحة) مهووسة بإنقاذ البطل (هاني سلامة) بشكل آخر، من خلال تغييره من شخص غير ملتزم يتقافز بين العلاقات العابرة إلى حبيب مثالي ووفي ومخلص.

  تسيطر أسطورة المنقذ على الكثير من الأفراد رجالا ونساء، سواء العيش في انتظار المنقذ أو التحوُّل إلى منقذ أو مخلِّص، وهو ما يُعرف باسم متلازمة المنقذ (saviour syndrome) أو متلازمة الفارس الأبيض (white knight syndrome)، وقد صُك المصطلح الأخير للمرة الأولى عام 2015 من قِبَل عالِمتَيْ النفس في جامعة بيركلي ماري لميا ومارلين جي.

  في كتابها "متلازمة الفارس الأبيض: إنقاذ نفسك من الحاجة إلى إنقاذ الآخرين"، وصفت هذه الظاهرة، حيث يستمد الشخص الذي يعاني من متلازمة المنقذ شعوره بالسيطرة من تفانيه في إصلاح حياة الآخرين، مما يساعده على الإحساس بالتحقق.

فبدلا من الهرب من شريك غير مناسب أو من علاقة سامة، يبذل المنقذ سعيا لا نهائيا لإنقاذ الشريك/تخليصه من مصيره/تغييره.

وطبقا لما جاء في الكتاب، يميل الرجال الذين يعانون من هذه المتلازمة للانجذاب إلى شريكات يحتجن إلى الدعم، ويعاملونهن باعتبارهن امتدادا لهم، وقد يوجِّهون لهن الانتقادات ويحاولون التحكم فيهن تحت ستار تقديم المساعدة.

وفي المقابل، ينتظرون ولاء مطلقا، فيما يشبه المكافأة على جهود الإنقاذ.

  على الجانب الآخر، تنجذب النساء اللاتي يُعانين من المتلازمة بشكل مماثل إلى الرجال الذين يعانون من مشكلات كالإدمان أو حتى إلى الشخصيات المسيئة.

وتتعامل النساء "المنقذات" مع هذه المشكلات بتعاطف مفرط، وإنكار أي سيطرة للشريك على سلوكه، مع ميل لتقديم الأعذار والحجج للشريك وإنقاذه من العواقب والمُساءلة.

(2) والغائب حتى يعود فيلم The Notebook في واحد من أشهر الأفلام الرومانسية في هوليوود خلال العشرين عاما الأخيرة، تتبع فيلم "" قصة حب سريعة وقصيرة بين نوح وآلي، اللذين انفصلا بسبب اعتراضات العائلة، وتمر السنوات وترتبط آلي بشخص آخر، لكنها تلتقي بنوح مرة أخرى، وتتخلى عن التزامها تجاه شريكها الآخر، ويعودان معا وكأن السنوات لم تمر، فيكبران معا ويموتان معا في الفراش نفسه.

  إن ثيمة الحب الأوحد الذي تمر السنون دون أن تغيره، ونعود له بعد أعوام الفراق كأن شيئا لم يكن، من الثيمات المتكررة في الأفلام الرومانسية سواء العربية أو الأجنبية.

في فيلم من إخراج حسين كمال، يفترق البطلان نتيجة الاختلافات الطبقية والمادية، ويرتبط كلٌّ منهما بشريك آخر سواء بالزواج أو الخطبة، لكن عندما يتجدد اللقاء يعودان مرة أخرى بعد مرور سنوات لتجديد عهد الحب مرة أخرى.

  عند التفكير في انتظار الغائب لا يسعنا أن نستبعد الأسطورة القديمة التي تنتظر فيها بينيلوبي عودة عوليس الذي سافر ولم يعد.

وفي مواجهة الخاطبين الذين افترضوا موت عوليس أعلنت بينيلوبي أنها لن تتزوج قبل أن تنتهي من غزلها، فكانت تقضي النهارات في الغزْل وفي الليل تنقض غزْلها، وهكذا حتى مرت السنون وعاد إليها عوليسها من جديد.

(3) تضرب أسطورة بينيلوبي مثلا في الوفاء والإخلاص، لكن أحيانا يفكر المرء في عوليس الذي عاد، هل هو الشخص نفسه الذي رحل؟ وهل ظلت بينيلوبي كما كانت؟ ألم تخطّ التجارب والخبرات الحياتية خطوطها في روحيهما؟   تتجاهل الأفلام والأساطير أثر السنين والتجارب، وما يمر به كل طرف في غياب الآخر من خبرات قد تُعيد تشكيله، مَن كان رفيقا للروح والعقل منذ عدة سنوات ربما لا نحتمل اليوم الحديث معه أكثر من دقائق معدودة قبل أن نكتشف الهوة التي خلقها بيننا الزمن، ليقضي البعض عمره في انتظار وهم الحبيب الأول الغائب وعودته، ويفقد فرصة بناء علاقات حقيقية أكثر واقعية.

(4)   ما لا تخبرنا به السينما "الحب من غير أمل أسمى معاني الحاجات يا يسرية"، هكذا علَّق الراحل خالد صالح ساخرا في أحد مشاهد فيلم "".

لكننا نجد حضورا قويا للحب اليائس بوصفه إحدى أشهر ثيمات الحب في السينما والأدب، كم قصة حب نتذكرها كما نتذكر "قيس وليلى" أو "روميو وجولييت"؟   تُضفي الفنون طابعا رومانسيا على الألم المرتبط بالحب في نوع من استعذاب الألم وتمجيده، وكأن هناك شغفا ما بالنهايات الحزينة، وهو ما أثمر بالطبع عن الكثير من التراجيديات الخالدة.

لكن في حين تبدو الآلام أكثر نبلا على الشاشة، لا يفترض أن نسير في الواقع نحو حتفنا بأرجلنا بهذا الاحتفاء الذي يدفع الكثيرين لاستمراء قصص عاطفية محكوم عليها بالفشل بسبب ما تمنحه لهم من ألم، وهو ما يُفسِّره العلماء بوجود نشاط هرموني في حالة الخسارات العاطفية، يعمل على تنشيط مراكز المكافأة في الدماغ، مما ينتج عنه ما يشبه الإدمان للأوجاع، لا الحب فقط.

(5)   لا تقف مشكلات الرومانسية السينمائية عند هذا الحد.

غالبا ما تُركِّز الأعمال الدرامية والسينمائية على العلاقات الرومانسية بطريقة تُرسِّخ الاعتقاد بأن الصراع المركزي في الحياة يدور حول العلاقات الرومانسية، وهو فخ يقع فيه الكثيرون منذ المراهقة، فتدور حياتهم حول البحث عن الشريك المنشود، ويصبح كل صراع أخلاقي أو مهني أو إنساني هامشا في مقابل متن الرومانسية الزائف والمشوَّه.

وبدلا من الموازنة بين جوانب الحياة المختلفة الصحية والعائلية والاجتماعية والمهنية والروحية وغيرها، نُلقي بخيوط الحياة كافة في كف العلاقة الرومانسية، مما يعبث بإدراكنا للعالم وتشابكاته ويُشوِّه معاييرنا القيمية.

(6) (7)   وأخيرا، تنتهي القصص والأفلام عادة بحفل زفاف رائع ورقصة ثنائية وقُبلة حميمية، ويعيش البطلان في "تبات ونبات" ربما لن يكون لهما أي معنى دون تلك الصعوبات والتحديات الحياتية التي تواجه الشريكين فيما بعد، وتعطي للعلاقة أبعادها ومعناها.

ما لا تخبرنا به السينما أن الرحلة الحقيقية تبدأ بعد مشهد الزفاف البراق، حيث يختبر كل طرف في العلاقة مثابرته وقدرته على بذل الجهد يوميا لإنجاحها.

"لا تقل للحبيبة: أنتِ أنا، وأنا أنتِ، قلْ عكس ذلك: ضيفان نحْنُ على غيمةٍ شاردة شُذَّ، شُذَّ بكل قواك عن القاعدة لا تضع نجمتين على لفظة واحدة".

  (محمود درويش) ————————————————————————– المصادر:

الوكالات      |      المصدر: الجزيرة    (منذ: 2 سنوات | 14 قراءة)
.