شيرين أبو عاقلة والنضال الفلسطيني اليتيم

يزداد المشهد الفلسطيني سخونة منذ سنوات، وتتصاعد حدة المواجهة بين الفلسطينيين والاحتلال على صعد مختلفة، وبأشكال وأدوات عدة، فما بين المواجهات الشعبية على الحواجز العسكرية، ورشق الجنود بالحجارة، إلى استخدام السلاح الأبيض، والطعن، واستخدام المركبات الخاصة في مهاجمة جنود الاحتلال ومستوطنيه، والعمليات الفردية، التي يستخدم فيها السلاح الناري، وصولًا إلى خوض الحروب انطلاقًا من قطاع غزة.

وفي حدث استثنائي، تم الجمع بين كل تلك الوسائل العام الماضي في معركة أو مواجهة سيف القدس صيف 2021.

هذه الحادثة بقدر ما سلطت الضوء على مشهد فلسطيني وطني مميز ويستحق الفخر، إلا أنها أيضًا سلطت الضوء على جزء آخر من المشهد، يثير الحنق والاستياء، مرتبط بالأداء الرسمي والقيادي الفلسطيني، ودوره تجاه النضال والتضحية الفلسطينية ولعل أهم ما تعبّر عنه هذه الحالة هو القطع مع كل الأفكار والسياسات السخيفة التي كان يتم الحديث عنها في السنوات السابقة كفكرة الفلسطيني الجديد، والسلام الاقتصادي، وتقليص الصراع وغيرها من السياسات الاحتلالية التي تماهى معها بعض الرسميين الفلسطينيين، والتي تحاول تجاوز طبيعة الشعب الفلسطيني العنيد في نضاله وتمسكه بحقوقه، الذي لم يقبل الهزيمة قط، ولم يسلم بالاحتلال رغم مرور أكثر من 100 عام على احتلال أرضه، وأكثر من 70 عامًا على تأسيس الكيان الصهيوني على أنقاض وطنه.

إلا أنه منذ بداية هذا العام، بدا المشهد أكثر سخونة وتوترًا، وساده منذ البداية نقاشات وتصريحات كثيرة حول إمكانية اندلاع مواجهة كبيرة مع الكيان، إلى الحد الذي وصل فيه النقاش بأن هذا العام قد يكون العام الأخير في عمر الاحتلال، ورغم أننا لسنا في وارد نقاش هذه الفكرة؛ لأنها تحتاج الكثير من النقاش، والتباين فيها كبير، فإن الأجواء العامة لدى شرائح فلسطينية واسعة تشي بأنهم متفائلون بحدوث أمر كهذا.

في ظل هذه الأجواء الفلسطينية، جاء حادث اغتيال الصحفية الفلسطينية الكبيرة شيرين أبو عاقلة، ليعطي الحالة النضالية الفلسطينية زخمًا استثنائيًا، وليسلط الضوء على جرائم الاحتلال اليومية ضد الفلسطينيين، وبهذا الاغتيال انتقلت شيرين من صحفية تغطي بجرأة وشجاعة نضال الشعب الفلسطيني وتضحياته وقصص مقاوميه ومقاوماته، الذين يسقطون كل يوم وهم يتحدون الاحتلال ويواجهون إجرامه، إلى حالة نضالية فلسطينية كبيرة في ذاتها حظيت بتغطية واهتمام محلي ودولي، لتشكل رافعة مهمة للنضال الوطني.

لكن هذه الحادثة بقدر ما سلطت الضوء على مشهد فلسطيني وطني مميز ويستحق الفخر، إلا أنها أيضًا سلطت الضوء على جزء آخر من المشهد، يثير الحنق والاستياء، مرتبط بالأداء الرسمي والقيادي الفلسطيني، ودوره تجاه النضال والتضحية الفلسطينية، ذلك أن المدن والقرى والشوارع الفلسطينية تشهد بشكل شبه يومي حالات اغتيال وقتل وتصفية ميدانية لفتيات وفتيان فلسطينيين عزل، وبحجج واهية.

خلال العام الماضي فقط ارتقى 357 شهيدًا، بينهم 79 طفلًا، و69 شهيدة، ومنهم 100 شهيد في الضفة الغربية، وفقًا للتجمع الوطني لأسر الشهداء.

وخلال الأشهر الخمسة الماضية، استشهد ما يزيد على 50 فلسطينيا، بينهم 4 شهيدات، وتعرض الصحفيون على وجه التحديد إلى ما يزيد على 160 انتهاكًا، منها 60 إصابة على يد جنود الاحتلال، إلى جانب الانتهاكات الدورية التي لا تتوقف، ملاحقة وتشريدًا، ومصادرة للأراضي ومنع السفر وغيرها الكثير.

لا يجد هؤلاء من يتبنى قضيتهم ويهتم بأمرهم، ويطالب بلجان تحقيق محلية أو دولية، ولا ترفع قضاياهم لمحكمة الجنايات الدولية، ولا يبذل الحد الأدنى من الجهد السياسي والدبلوماسي لتفعيل قضاياهم، وتصل الكارثة إلى حد إدانة بعض أعمالهم من رئاسة السلطة؛ بل إن حروبًا كاملة ومجازر لم يتم التعامل معها كما تم التعامل مع موضوع شيرين، والسبب هنا واضح جلي، ألا وهو فضائية الجزيرة.

هذه الفضائية التي حملت قضية شيرين ورفعتها عاليًا، وأجبرت الجميع على الوقوف أمامها بمسؤولية، فأي زعيم أو رئيس أو مقاتل استحوذ على شاشات أكبر مؤسسة إعلامية عربية لمدة 4 أيام متواصلة وبعدة لغات.

هذا الموقف المقدر لقناة الجزيرة فتح الباب واسعًا لنقاش حجم العجز والتقصير الذي تعاني منه القيادة الفلسطينية، وحجم المأساة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني ومناضلوه ومقاوموه، هذا المشهد كشف عن كم أن المناضلين الفلسطينيين، والحالة النضالية الفلسطينية، أيتام، ولا يوجد لهم سند ولا ظهر يستندون إليه.

وهي حال تُشعر المقاوم الفلسطيني والمناضل الفدائي، الذي يحمل روحه على كفه، ويقدم نموذجًا نضاليًا مختلفًا لم يسبقه إليه أحد، باليتم وبأنه بلا سند رسمي سياسي أو قانوني.

وهو ما يتطلب موقفًا وطنيًا مسؤولًا يعيد الاعتبار إلى النقاش حول أولويات الفلسطيني، وضرورة التركيز على إعادة بناء قيادتهم الوطنية، ومؤسساتهم الوطنية والسياسية.

إن دماء كثيرة، وعذابات جمة، وتضحيات جسام، وبطولات استثنائية تم -ولا يزال يتم- تبديدها كل يوم، بسبب سوء الأداء القيادي الفلسطيني وضعفه، فوجود قيادة فلسطينية على مستوى التضحيات ومنسجمة مع حركة وتوجهات ومزاج شعبها الوطني أمر حيوي وفي غاية الأهمية.

وكما يقف الفلسطينيون بعناد وصلابة في وجه الاحتلال وسياساته، يجب عليهم أن يتحركوا بشكل عاجل وبصلابة لبناء وتشكيل قيادة منسجمة مع نضالهم، ومعبرة عن طموحاتهم وأهدافهم الوطنية والسياسية، وينهوا حالة الانفصام التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية.

هذا الضعف، وفي كثير من الأحيان الغياب، أدركه العدو والصديق ودول الإقليم، إلى حدٍ أصبح فيه نقاش القضية الفلسطينية وتطوراتها أمرًا يتم بمعزل عن أي قيادة فلسطينية، وتعقد القمم الرباعية والثلاثية، وتُجرى الاتصالات لبحث تطورات الأوضاع في فلسطين من دون أن يُدعى لها أي فلسطيني، كما حدث في قمة النقب السداسية مارس/آذار الماضي، التي حضرها وزراء خارجية الولايات المتحدة ومصر والبحرين والإمارات والمغرب وإسرائيل، وقمة شرم الشيخ الثلاثية، التي حضرها زعماء مصر وإسرائيل والإمارات في الشهر ذاته، وقمة القاهرة بين الرئيس المصري والملك الأردني وولي عهد أبو ظبي -آنذاك- محمد بن زايد.

إن هذا الاستخفاف بالقيادة الفلسطينية ما كان ليكون لو أن هذه القيادة موحدة، وتحظى بشرعية شعبية، ولو أنها تعبر عن مؤسسة سياسية وطنية قوية مشكلة من الأطياف الوطنية كافة، أما هذا الاهتراء السياسي القيادي، فهو يغري الكثير من الأطراف -بما فيها الاحتلال- للحديث والبحث عن حلول لا تكون القيادة الفلسطينية جزءًا منها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

الوكالات      |      المصدر: الجزيرة    (منذ: 2 سنوات | 19 قراءة)
.