"الموصل" و"أوروبا" .. فيلمان عن العراق من أرض الجحيم إلى بلاد النعيم

فيلمان تخييليان عن العراق، يحيل عنوانا الفيلمين على مكانين: الموصل وأوروبا.

هكذا يتحدد الفضاء الجغرافي الذي تتحرك فيه الشخصيات.

“الموصل” 2020 من إخراج الأمريكي ماتيو مايكل كارنهان، و”أوروبا” 2021 من إخراج العراقي المهاجر حيدر رشيد، والذي عرض في فقرة “نصف شهر المخرجين” في مهرجان كان 2021.

فيلمان يقدمان نظرة عن العراق اليوم، حرب وهجرة، من أرض الجحيم إلى أرض الأحلام.

سبب ونتيجة.

الموصل واقع وأوروبا حلم بعيد.

أرض الأحلام في فيلم “أوروبا” شاب هارب من الشرق الأوسط في مواجهة قسوة الجغرافيا وحبائل صيادي المهاجرين في الغابات بين حدود تركيا وأوروبا.

تطارد الكاميرا الشاب من الخلف كعدو، كاميرا على بعد نصف متر من رأسه، لذا تصير كل حركة مهما كانت صغيرة قريبة ومزعجة لعين المتفرج.

قرب يمنع ظهور أي أفق للشخصية.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} فيلم صامت تقريبا، يعبر جسد الممثل وسلوكه عن وضعه.

مهاجر عراقي يرتدي قميص اللاعب المصري صلاح، مهاجر عراقي مؤمن يقاتل بأظافره وأسنانه للوصول إلى الغرب العلماني الكافر.

في الفيلم لقطات مشهدية طويلة تزيد من مصداقية الحدث.

تضمن طريقة التصوير انتقال التوتر من شخصية المهاجر إلى المشاهد.

في الرحلة من أرض الجحيم إلى أرض الأحلام، ظهر معنى عميق في الثلث الثالث من الفيلم، عنف البشر أشد من عنف الطبيعة.

كانت تلك نهاية رهيبة أنقذت الفيلم، نهاية أثبتت للمتفرج أن مصير اللاجئ قد يكون أسوأ من الوضع الذي تركه خلفه في بلده.

أثناء المشاهدة بدا أن الواقعية القصوى أكثر قابلية للتصديق.

تم تصوير الفيلم بحيث يشعر المتفرج أن شخصية المهاجر تكاد تخرج إليه من الشاشة ليمسكها.

صور الفيلم في منطقة عبور -ترانزيت- لمهاجرين يفرون من الشر الأوسط.

لا يظهر ما يهرب منه الشاب العراقي في الفيلم الوثائقي لكن طريقة هروبه وحجم الإصرار تشي بما تركه خلفه.

بدا لي الفيلم كأنه وثائقي، في تعليق نبهني ناقد سينمائي إلى أن الفيلم تخييلي.

عدت لمشاهدة جنريك النهاية ووجدت فريق الممثلين.

فعلا الفيلم تمثيل لا توثيق.

أرض الجحيم اليومي لماذا تبدوا الأفلام التخييلية عن العراق كأنها وثائقية؟ لأن عنف الواقع هناك يفوق الخيال، شخصيا لا أتوقع فيلما تخييليا عن العراق لأن مفارقات الواقع تتجاوز كل انزياحات الخيال.

ففي فيلم الموصل مثلا: عقيد إيراني يقاتل في العراق بسلاح أمريكي ويحتاج أن يدخن لذا يقايض علب الذخيرة بعلب السجائر… ويتاجر بالأسرى العراقيين… هنا على الجدران شعار دولة الإسلام باقية وتتمدد، على جدران الموصل تهديد داعشي “سنفتح روما”، في المدينة مخازن سلاح وأوكار ميليشيات… الحصول على الرصاص أسهل من الحصول على الخبز… الدم يسيل والأوضاع تتغير، دولة الإسلام تتبدد، خراب خراب، خراب… نكتشف المدينة من خلال رحلة عربة عسكرية، لكل جهة في المدينة ناسها، رغم الموت فالطائفية تشتغل… خراب خراب… بعد حرب إيران وحرب الكويت وحرب جورج بوش وحرب داعش وحروب الحشد الشعبي والطوائف والميليشيات التي تنتشر داخل المدن… كل ميليشيا تمارس العنف، ليس في العراق دولة لتحتكر ممارسة العنف.

لذلك يسخر العقيد الإيراني من الطريقة التي يدير بها العراقيون بلدهم، بلد مفبرك في اتفاقيات سايس بيكو.

فيلم مصور بكاميرا محمولة في جل اللقطات، جنود عراقيون يمشطون آخر جيوب تواجد داعش، جثث، طنين ذباب كبير، خراب فادح حقيقي… السينما تساهم في حرب الموصل ضد داعش، الكاميرا تشارك في حرب شوارع.

كاميرا محمولة تعكس دوار الخوف والتوتر من الموت الذي يتسكع في المكان، كاميرا تتبع مقاتلين يمشون في مواقع مكشوفة ومنخفضة كأنهم في نزهة في الموصل، لا يصيبهم رصاص ويتابعون طريقهم حتى تحقيق الهدف… من يعرف مشاهد الحرب لحظة اقتحام كمين القناص الفيتنامي في فيلم “كوبريك فول ميتال جاكيت” “Full Metal Jacket” 1987 سيشعر بسذاجة مشاهد الحرب في فيلم الموصل… يبدو أن مخرج الفيلم لا يعرف الحرب في بلد عاش حروبا متصلة حتى صارت لأطفاله معرفة عميقة بها.

في فيلم “الموصل” حركة دائمة وشخصيات عديدة في فضاء متنوع ملائم لجمهور “نفليكس”، بينما فيلم أوروبا شخصية واحدة تقريبا وهذا يلائم ذوق أعضاء لجان تحكيم المهرجانات.

إن “أوروبا” فيلم بكاميرا مهاجرة.

يستطيع الروائي أن يهاجر ويكتب عن بلده من خياله عن بلده عن بعد، في السينما تحتاج الكاميرا تصوير البلد عن قرب، من عين المكان.

عدد الهاربين من الشرق الأوسط في العشر سنوات الأخيرة؟ ستحتاج كاميرات مخرجي الشرق الأوسط أن تسافر لتتبع النقلة الديموغرافية.

العراق بعين مثقف مهاجر أكتب عن العراق عن بعد، من مقهى في كازابلانكا على شاطئ المحيط الأطلسي.

بغداد بعيدة.

بمقارنة أخبار العراق في وسائل الإعلام مع ما يكتبه الأدباء العراقيون تشكل لدي انطباع غريب بأن ما يكتبه العراقيون بعيد جدا عما يجري في بلادهم.

من يقرأ المجلات العراقية والشامية في الربع الأخير من القرن العشرين يظن العراق مثل فرنسا.

من يقرأ رواية “عالم بلا خرائط” التي كتبها جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، يتحدثان عن عمورية رومنسية عن نجوى ولها عينان باتساع السماوات السبع.

لا أثر لطبوغرافية المكان المزدحم بالطوائف في الرواية.

عندما أقرأ للكتاب العراقيين لا أجد صدى لواقع العراق اليوم.

مرارا سمعت مثقفين عراقيين يتحدثون عن جلجامش والكرخ ولا يذكرون عراق صدام حسين.

في صيف 2014 عندما كانت داعش على أبواب بغداد سألت مثقفا عراقيا مقيما في المغرب: كيف يبدو لك العراق اليوم؟ أجاب: العراق سفينة تغرق….

أبدا لن أعود إلى بغداد.

أنا لا أضمن أمني في البيت والطريق والمقهي.

العراق “بلدان جوطية” والجوطية في الأحياء الشعبية المغربية هي مكان بيع المتلاشيات من كل نوع.

إذا لم ينقذ العراق سيصير نسخة أخرى من لبنان.

عاجلته بالسؤال: من سينقذ العراق جيرانه؟ يقع اللوم على العراقيين أنفسهم.

صمت.

سؤال: هل توقعت أن تصبح داعش على أبواب بغداد؟ لا.

ولماذا لم تتوقعوا أنتم مثقفو العراق غرق البلد؟ لماذا لم تنقذوا سفينتكم؟ قال: هناك طامة أكبر منا.

كل مثقف يستطيع نقد سفينته وسفينة غيره.

لكن الإنقاذ يتطلب وسائل.

المثقف الوقفي تحدث عن ثوار العشائر، الثوار يبايعون، مسرحية الجيش العراقي أمام داعش… قلت: هل تملك هذه المفاهيم محتوى ونسق نظري يساعد على الفهم؟ إنها مفاهيم مشبعة بالتناقضات.

فالعشائر لا تثور والثوار لا يبايعون والجيش لا يمثل.

فحين يفر جندي من الجيش الوطني ويفضل أن يقاتل لحماية مراقد الأئمة بدل أن يقاتل تحت العلم الوطني فإن كلمتا جيش ووطن تصيران بلا معنى هنا.

قال: حداثتنا منقوصة هي حداثة كلمات.

الشخصية العراقية تؤمن بالوقف.

هناك وقف شيعي ووقف وسني… يؤمن العراقي بالوقف والإرث.

سألته: إذا كان للوقف كل هذه الأهمية، لماذا تكتشفونه الآن فقط؟ لماذا لم أجد مصطلح الوقف في عشرات المجلات العراقية التي قرأتها؟ عندما أقرأ لكتاب عراقيين يتحدثون عن الديمقراطية والحداثة بل وما بعد الحداثة.

وقد فهم الجميع أن العراق أكثر علمانية من ألمانيا.

فانظر ما يجري الآن.

هل يتكلم الكتاب العراقيون عما يجري في العراق أم عما في رؤوسهم؟ قلت: “إذا كانت لدي ساعة لحل مشكلة سأقضي 55 دقيقة للتفكير في المشكلة، و5 دقائق للتفكير في حلها”، هذا ما يقوله أنشتاين، لكن يبدو أن المثقفين يفعلون العكس، يقضون جل الوقت في اقتراح أكياس حلول لمشكلة ينكرونها أو لا يعرفونها أصلا.

قال: هذه هي مشكلة المثقف، إنه يتشدق كثيرا.

أي يستخدم شدقي، فمه كثيرا.

وهو شخص منفوخ واستعلائي.

يزعم المثقف أنه هو الدليل وهو الشيخ وهو الأستاذ.

المثقف العراقي مثقف وقفي.

– ما هو الوقف؟ ما خصائص المثقف الوقفي؟ – “نحن كمثقفين صادرنا ذواتنا”.

بل صادركم الواقف.

– لا لا.

– عندما يفر جنود من الجيش ويذهبون للحرب تحت يافطة “الدفاع عن المراقد”، هل هذه مؤامرة خارجية؟ – المشكل في العراق… – قل لي نعم أو لا.

أجب عن أسئلتي.

أم تريد أنت طرح الأسئلة التي تلائمك ثم تجيب عنها؟ وظيفة السؤال هي توسيع مداركنا.

هي كسر الدوغمائية.

هي زرع الشك في الوثوقية.

إذا كان السؤال خاطئا، فما قيمة كل من البرهنة والحجاج؟ جرى بيننا حوار شرس لأن أسئلتي مباشرة واتهامية.

قلت: ما هو المثقف الوقفي؟ عرّفه.

قال: مثقف محبس على جهة معينة.

مشكلة المثقف العراقي أنه بحاجة إلى مظلة.

مشكلة المثقف العراقي أنه انتقل من العشيرة إلى الحزب إلى الجيش الشعبي ثم إلى العسكر ورجع الآن إلى الطائفة وهو يحتاج إلى مظلة.

ما علامات الوقفية عن شاعر مثلا؟ أجاب: شاعر قصيدة النثر لا يقبل إلا قصيدة النثر.

إنه محبوس داخلها.

لا يسمع الموسيقى لا يهتم بالتشكيل والفلسفة… لا تعدد.

على المثقف إصلاح منظومته القيمية أولا.

حين يكون قبليا طائفيا عرقيا لن يخرج للحداثة والمساواة والديمقراطية.

وإذا لم يتحقق هذا؟ أجاب المثقف العراقي: أتمنى تكليف شركة كورية بتسيير البلد.

في واقعة ذات صلة، كنت في ندوة حول التعليم نهاية 2015 نظمها “مركز القدس للدراسات السياسية” في العاصمة الأردنية عمّان تحدثتُ مع مشارك عراقي ووصف الوضع الكارثي للتعليم في العراق، وعندما تسلم الميكروفون ليلقي مداخلته تحدث عن الآفاق والواعدة وقدم مقترحات… في نهاية الجلسة سألته: – لماذا لم تقل ما أخبرتني به؟ أجاب: لأن هناك قناة عراقية تنقل المداخلات وستسبب في مشاكل وأنا من قبيلة كبيرة.

بمناسبة تحرير هذا المقال الآن اتصلت بذلك المثقف العراقي وسألته: أما زلت تعتقد بضرورة تكليف شركة كورية جنوبية لتسيير العراق لتعود إليه؟ قال: نعم.

سألته: هل أذكر اسمك في النص أم أحتفظ بلقب بمثقف عراقي؟ أجاب: سمني مثقف عراقي أحسن.

مع كل هذا الخوف لن يستطيع مبدع عراقي مقيم في بغداد أن يعبر بحرية، والأمل معقود على أقلام وأفلام المهاجرين لامتلاك الشجاعة التي لا يملكها المثقف الوقفي.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 3 سنوات | 67 قراءة)
.