الزاهي يستعرض بأكاديمية المملكة تجربته مع الترجمة بين الاختيار والطلب

هل الكتابة خلق من عدم والترجمة كشف للمحجوب؟ وما فائدة كتاب لا يمكن أن نقرأه ونسمع به في لغة يستحيل علينا أن نرتادها؟ كانت تلك جملة من الأسئلة التي طرحها الكاتب والمترجم والناقد المغربي فريد الزاهي خلال محاضرة ألقاها في مقر أكاديمية المملكة بالرباط مساء أمس الأربعاء، بعنوان “الترجمة من الفعل إلى الفكر: رهانات التجديد والمراجعة الثقافية”.

وبحسب فريد الزاهي فإن قراء النص الأجنبي هم أبناء لغته والمتملكون لها، أما الآخرون فليس لهم إلا المترجم كي يرتحل بهم في ما يشبه الرحلة المنظمة والاستكشافية.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} ومن هن هذا المنطلق فالترجمة عند الزاهي فتح جديد وامتلاك للآخر في معناه، ونقل للكتاب من مجال الملكية الخاصة إلى مجال المشاع، فالكاتب يكتب بلغته وفيها، والكاتب الذي يسمى مبدعا كالشاعر والروائي سمي مبدعا لأنه يبدو كمن يخلق من عدم.

وعلى رأي الفيلسوف جاك دريدا فإن الترجمة ليست فقط عملا لغويا، وإنما هي نقل سابق عن اللغة، فحتى المبدعون والكتاب يمارسون الترجمة من الواقع إلى الذاكرة، ومن الذاكرة إلى التصور، لذلك يقول دريدا إن كل شيء قابل للترجمة، فكل من يستعمل اللغة يستعمل الترجمة تحويلا ونقلا؛ فالكاتب يترجم الأعمال والأحاسيس إلى لغته هو التي يتقنها، ومن هنا تصبح الترجمة مدخلا للتجديد.

وإذا كانت الترجمة، حسب الزاهي تمتنع أو تستعصي أو تستحيل على إنتاج خطاب عليها، لا لأن ما أنتج من خطابات عن الترجمة لا يمسك بها من جميع جوانبها، ولكن بالأساس لأن الترجمة هي ممارسة تخترق كافة أنشطة الحس والفكر والخطاب، فإنها بحسبه كذلك سيرورة، أي هي العملية الحركية التكوينية التي تنطلق من لغة ونص لتنقله إلى لغة أخرى وتبلور نصا مقابلا يكون “هو” “هو”، لكن يكون نصا آخر وبلغة أخرى، وبهذا المعنى فالترجمة ممارسة بينية ونشاط حركي عابر ينتهي ما إن يستوي النص في لغته الجديدة.

حينها يصبح نصا جديدا قديما يحمل هويته في لغته الجديدة، مضيفا أن هذا النص المترجم غالبا ما يحجب اسم المترجم أو يواريه خلف اسم المؤلف، وهو حين يستحضره لا يتم ذلك إلا بعد القراءة لسلاسة الترجمة وإخفاقها، فالمترجم لا يحضر إلا في كواليس النص المترجم.

ومن هنا يرى الزاهي أنه حين يكون النص مرجعيا كالقرآن والمعلقات وتكثر الترجمات التي تمت له يحضر اسم المترجم باعتباره بشكل ما مؤلف تلك الصيغة، أما حين يكون النص روائيا أو بحثيا ولا يطرح إشكالية النقل والتحويل التي تفترضها الترجمة فإن اسم المترجم يتوارى كأنه خادم فقط لاسم المؤلف، وحمال للنص من لغة إلى أخرى.

وبعبارة أخرى فإن المترجم يعيش ما يعيشه الصانع التقليدي من نسيان واعتراف في الآن نفسه، فالناس يستعملون منتجه وينبهرون بجماله من غير إحالة لصانعه، كأن ذلك المنتج جاء من عدم.

ويرى الزاهي أن المفارقة التي نعيشها هي أن العرب تتناسى الترجمان في الوقت الذي تقدس الرسل وتبجلهم، مع أن وضعية التراجمة أشبه بوضعية الرسل، فالرسول يحمل الوحي من اللغة الإلهية ليمنحها تعبيرا عربيا مفهوما أو غير عربي بلغة قومه، لأن باقي البشر لا يدركون تلك اللغة.

المترجم بين الاختيار والطلب لم يفت الزاهي أن يتطرق لتجربته مع الترجمة، مشيرا في هذا الصدد إلى ترجمته لكتاب مواقع لجاك دريدا، كما يتوقف للحديث عن دوافع الترجمة، فهي إما اختيارية أو بناء على طلبية، وأضاف: “كانت ترجمتي لكتاب المواقع لجاك دريدا ترجمة اختيارية، لكن هنا أريد أستوحي ما قاله لوران بارت بأن أفضل ما كتبه ليس بالضرورة هو ما كتبه عن اختيار، وأن هناك الكثير من المقالات والدراسات والأبحاث التي كتبها عن طلبية أو عن طلب من الآخرين، ويعتبرها من أهم ترجماته”.

ويؤكد الزاهي أن مجال الترجمة يخضع للرغبة الفردية والاختيار الفردي من جهة، وقد يخضع للطلبيات التي قد لا توافق أحيانا الرغبة في الترجمة؛ لكن، ومهما كانت الترجمة أحيانا استجابة لطلبية معينة فهي تعبير عن موقف وموقع ثقافيين.

وفي ما يخص تجربته الشخصية، أكد الزاهي أن ترجمته لدريدا كانت ممارسة موازية لمسار ثقافي شخصي كان قد بدأ يتبلور لديه في ذلك الوقت، فهي كانت “تثبيتا لتكويني الفلسفي والحداثي وتعبيرا عن دين كنت أدين به لقراءتي لجاك دريدا في تعميق فهمي آنذاك لكتابات عبد الكبير الخطيبي، وهي كانت أيضا مساهمة في الكشف عن الخلفيات الفكرية والفلسفية لفكر الخطيبي الذي اشتغلت عليه أكاديميا وبشكل شخصي”، مشيرا إلى أنها كذلك “استنبات مباشر لاختيار فلسفي ثقافي وفكري جديد في الثقافة العربية يحررها من دوغمائية الماركسية والصرامة الشكلانية والبنيوية ويفتح المجال للفينومينولوجيا والتأويليات، اللتين كانتا مازالتا محتشمتين آنذاك في مجالنا الثقافي والنقدي”.

وأضاف الزاهي مستعرضا تجربته: “لقد كانت هذه الترجمة فتحا جديدا، آلف القارئ العربي مع فلسفة جديدة أهم ما فيها أيضا أنها تفكر الترجمة باعتبارها ضيافة، بيد أنني أدركت حينها أن لا ضيافة من غير تملك لمعنى الآخر، ومن غير تهجير لذلك المعنى في أحاديته وتعدديته كما في التباسه ووضوحه”، مبرزا أن الامتلاك الترجمي دائما عبارة عن رغبة تتجاوز فيها سلطة اللغة الأم والنص الأصلي، وبالتالي فإنها تكون بشكل أو بآخر عبارة عن تملك، فحين يترجم المترجم نصا يحبه ويرغب في أن يكون مؤلفه فإنه بشكل نرجسي يتملكه، أو يسرقه من المؤلف ليتملكه بشكل أو بآخر، بيد أن هذا التملك هو تملك نشيط لأنه يشتغل في اللغة وبها، وهو ليس تملك أعمى، لأنه لا يكره النص على تقبل اللغة الهدف، بقدر ما يسعى إلى المؤالفة بين اللغتين.

وتابع شارحا: “التملك الذي نعنيه هنا تملك كريم، أو تملك الضيافة اللغوية التي يسعى النص الأصل إلى أن يقف ضدها، هكذا يغدو المترجم سيد اللعبة وضحيتها في الوقت نفسه، لأن المغامرة الخطرة التي تفترضها النصوص المتمنعة عن الترجمة من قبيل نصوص دريدا تمس كل شيء في عمل المترجم، فاللغة الهدف، أي العربية هنا، تصاب بعدوى لغة المصدر، والمدلولات الثقافية والأمثال والمفاهيم تخرج من عنق زجاجة لتدخل عنق زجاجة آخر فتكون العدوى شاملة”.

وحسب الزاهي فإن “نص المترجم هو مؤلف جديد للنص، الذي يتقاسم مع المؤلف الأصل عناء الكتابة، لأنه بكل بساطة يعيد كتابته وفقا لمجموعة من المكونات الخصوصية التي تشكل الذات المترجمة، فهو مؤلف خاص لأنه يمنح النص حياة جديدة في ثقافة أخرى”.

وإن المترجم، بحسب المحاضر كريم مضياف يتقاسم ثقافته ولغته وجسده مع الأجنبي والغريب باعتباره ضيفا ممكنا ودائما على رحابة لغته وثقافته، والدليل على ذلك أن النص إذا كان قابلا قبولا افتراضيا للترجمة فإن اسم المؤلف هو ما تستحيل ترجمته ليبقى وثيق الصلة بلغته وثقافته، فكل شيء يترجم ويعرب إلا اسم المؤلف، فهو غريب النص، وهو الخارجي، فما يترجم هو النص وليس المؤلف، وما ينتجه الاسم وليس الاسم.

كما توقف الزاهي عند تجربته مع ترجمة كتاب حياة الصورة وموتها لجاك دريدا، موردا أنه جاء بعد خروجه من تجربة استنزفت خلالها الإدارة قواه، وقال: “في 1998 اتصلت برجيس دوبريه وأجريت معه حوارا واقترحت عليه أترجم “حياة الصورة وموتها”، الذي كان قد صدر أربع سنوات بعد ذلك، ونشرت الحوار أياما قليلة بعد تعيين حكومة اليوسفي، وقد عبر رجيس دوبريه عن ابتهاجه للتحول في تلك الفترة”.

وأضاف المتحدث ذاته: “كانت تلك التجربة بمثابة علاج لي من مرض الإدارة، وبعد النجاح الذي عرفته هذه الترجمة والتداول العربي لها سارت مرجعا أساسيا للدارسين للصورة، وهو ما دفعني إلى تصنيف الترجمات إلى ترجمات أصلية وأخرى عابرة أو عرضية وإلى ترجمات اخصابية، وهو ما يعني أن الترجمات الاخصابية تغدو أشبه بالمؤلفات المحلية المرجعية”.

والسبب في ذلك حسب الزاهي أنها تبني خطابات جديدة وتساهم في ما يمكن تسميته تحديث الثقافة وفتحها بشكل مباشر على القضايا الكونية، ويضيف شارحا: “فالترجمة الاخصابية هي التي نخصب بها تربتنا الثقافية في قضايا تكون مهمشة أو لم يتم التعمق في التفكير فيها”.

إلى ذلك، نبه الزاهي إلى ضرورة ترجمة النصوص والمؤلفات من غير لغتها الأصلية، مشيرا في هذا الصدد إلى أن ترجمة بعض الأعمال المترجمة إلى اللغة الفرنسية لا يفي بالغرض، ويجب ترجمة النصوص والمؤلفات من لغاتها الأم، والحذر من السقوط في الترجمات الاستعجالية.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 3 سنوات | 38 قراءة)
.