النسر والغراب

النسر والغراب

لطالما انشغلت مجتمعاتنا العربية بمعارك هامشية وحروب عبثية لم تفض إلا إلى ضياع في الوقت والمقدرات والفرص التي لا يقدرها من يهوى تلك المعارك، بل إنهم يجدون ذاتهم وكيانهم فيها.

والمؤسف أن تلك المعارك لا تستثني ميادين العمل الخيري والإنساني، وعلى الرغم من سمو اللأهداف في قطاع الأعمال التطوعية والإنسانية، بالإضافة إلى وجوب وجود إرادة الخير التي يفترض بها أن تكون الجامع الأوحد لكل من يعمل في نفع الناس وخير الناس، إلا أن الأزمات المزمنة التي تعصف في هذا القطاع أصبحت ظاهرة جلية في عالمنا العربي.

ويصبح الأمر أكثر تعقيداً، لا بل عصياً على الفهم في بعض الأحيان عندما تشاهد مثل تلك الأزمات في مجموعات ومؤسسات العمل الدعوي والديني التي تعصف بها الخلافات الداخلية والمعارك الذاتية؛ التي تفضي أخيراً إلى تمزيقها وانهيارها وانفضاض الناس من حولها، بسبب انهيار المثال الأخلاقي الذي ينبغي أن تقدمه قبل الحديث عن أي خدمة أو فكرة أخرى يمكن أن تطرحها تلك المجموعات.

يمكن للعلاقة بين النسر والغراب أن تكون مثالاً جيداً وجديراً بالقراءة والاطلاع لمن يعمل في ميدان العمل التطوعي والإنساني، والذي قد يصبح يوماً في مواجهة هواة العبث والتشويش ونشر اليأس والإحباط بين الناس.

  في هذه العلاقة يأتي الغراب ليلهو ويعبث بجناح النسر في لحظة استرخاء وهدوء، وعلى الرغم من قوة جناح النسر وحجمه مقارنة مع الغراب، إلا أنه لا يقوم بضرب الغراب أو القتال معه بينما هو جالس على صخرة أو على غصن شجرة.

يقرر النسر الذي يهوى التحليق في الأعالي أن يطير عالياً فيبدأ الغراب بالهلع ويضيق صدره لأنه لا يقوى على التنفس في الارتفاعات الشاهقة، فيسقط عن جناح النسر الذي يستمتع بتحليقه عالياً.

إن هذه العلاقة بين النسر والغراب، البسيطة في ظاهرها والعميقة في مضمونها ودلالاتها، هي علاقة تصح أن تكون مثالاً واقعياً لمن يعمل في ميادين الخير، فالغربان على قلتهم أو كثرتهم لن ينفضوا عن جناح العامل إلا بالمزيد من البذل والعطاء؛ مع الاستمرار بالتحليق عالياً إلى أماكن جديدة من عمل الخير ونفع الناس، وهذا ما يعطي العامل شعوراً بالرضى الداخلي، ذلك أن هدفه تحقق وعمله يستمر دون أن يألو بالاً لنعيق الغربان.

والمهم تالياً أن ينتقل العامل في الشأن العام إلى مرحلة أكثر نضوجاً؛ يؤمن فيها أن الغربان وإن غابت آنياً فستأتي أسراب غيرها لا تجيد إلا النعيق والتشويش، وهي لا تقوى بحال من الأحوال على التحليق عالياً في فضاءات الخير وسماءات النفع العام.

لا شك أن خير الناس هم أنفعهم للناس، وما يقوم به العاملون في طريق الخير من خير وعون وإغاثة هي بمجملها أعمال يمكن تصنيفها على أنها أعمال الجوارح التي يرتد نفعها على البشر، ولكن تبقى أعمال القلوب التي ترتبط بصفاء النوايا وسلامة السرائر هي العامل الحاسم والفيصل الأكيد في استمرار أعمال الجوارح ورسوخها بين الناس وثباتها على الأرض.

وأخيراً، لنا في قصص الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجمعين منارةً وهادياً لبني البشر، فيها نجد وعورة الطريق، وصعوبة الامتحان، واشتداد الامتحان أكثر في وقت تزداد فيه حلكة الليل وظلام القلوب من قبل أن ينبلج فجر ونور يهدي الناس جميعاً إلى الطريق الصحيح.

* طبيب سوري- كارديف (بريطانيا)

منوعات      |      المصدر: عربي 21    (منذ: 3 سنوات | 75 قراءة)
.