رغم اعتقالهم جميعا.. أسرى جلبوع ربحوا المعركة وإسرائيل تعرف ذلك جيدا

في شهر رمضان عام 1987، علا صوت صلوات التراويح وسط غزة مانحا الأسرى الفلسطينيين في سجن السرايا الكثير من الأمل، وكاسرا رتابة أيامهم المعتادة داخل السجن.

بيد أن هنالك مَن وجد في صوت الصلوات وارتفاع الأذان فرصة لانتزاع ما هو أكبر من الأمل.

لقد كانوا ستة أسرى استغلّوا صوت الصلاة ليغطوا على صوت "نشر" الحماية الحديدية الموضوعة على شباك حمام الغرفة 7 في قسم (ب) الواقع في الطابق الثاني من السجن.

وبالفعل، عمل الأسرى الستة على مدار سبعة أيام على قطع حديد الشباك الصغير، ومن ثمَّ تمكَّنوا من الخروج بأجسادهم النحيلة من فتحته الصغيرة في ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة 17 مايو/أيار من العام نفسه.

  بقيت هذه الحادثة واحدة من أشهر حوادث هروب الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال الإسرائيلي على مدار سنوات من النضال الفلسطيني، حتى أعادتها للذاكرة هذه الأيام واقعة نجاح ستة أسرى فلسطينيين في الهرب من سجن جلبوع الإسرائيلي شديد الحراس في 6 سبتمبر/أيلول الجاري، وهي عملية أتت في وقت ساد فيه الاعتقاد بأن الإعدادات والتجهيزات التكنولوجية التي أصبحت تُحصِّن السجون الإسرائيلية ستَحُول دون وقوع عمليات هروب في الوقت الراهن.

بيد أن الأهم هو ما تبع عملية "نفق الحرية" كما يسميها الفلسطينيون، إذ إن الحادثة التي أتت بعد أشهر من اشتعال ملف الشيخ جرَّاح والاستيطان وحرب غزة لم تخلق زخما عربيا عزَّز الاهتمام بالقضية الفلسطينية بعد خفوتها أثناء العقد الماضي فحسب، لكنها خلقت بين الفلسطينيين حالة جديدة من الاهتمام بحرية المعتقلين والأسرى الذين تراجع الاهتمام بهم سابقا تحت وطأة الاعتقاد باستحالة النضال من خلف القضبان.

مجددا، عاد الأسرى والمعتقلون إلى الواجهة بأسمائهم بعد أن كانوا مجرد أرقام لسنوات، وعادت تُروى حكاية كلٍّ منهم بتفاصيلها الشخصية.

  ورغم اعتقال جميع الأسرى الذين تحرَّروا من قيود السجن، وانتقام تل أبيب منهم بالقمع والتنكيل، من المؤكَّد أن دولة الاحتلال خسرت الكثير خلال هذه الجولة، بعدما حمل الاهتمام الفلسطيني والعربي والعالمي قضية الأسرى مجددا إلى بؤرة الضوء، وكأن العام 2021 يأبى أن ينقضي دون أن تعود الحياة إلى القضية الفلسطينية بأركانها كافة، من الأسرى في سجون الاحتلال إلى صواريخ المقاومة الغزَّاوية، ومن بيوت الفلسطينيين بالضفة إلى عرب 48 في الداخل.

  سجون الاحتلال بعد نفق الحرية كان "عماد الدين الصفطاوي" (58 عاما) واحدا من أسرى عملية "الهروب الكبير" من سجن السرايا عام 1987، وقد قال في حوار له مع موقع "ميدان" إن قرار الهروب من السجن قرار خطير، لأن الأسير في كل مرحلة من مراحل التخطيط مُهدَّد بأي خطأ يقضي على خطته بالكامل، كما تستمر الخطورة بعد هروبه وما يتبعه من انعكاسات على الأسير الهارب ومجموع الأسرى المتبقين خلف القضبان عامة.

ويقول الصفطاوي، الذي اعتقاله عام 2000 وأُفرج عنه في 12 ديسمبر/كانون الأول عام 2018، إن عقب كل محاولة هرب تمارس إدارة السجون الإسرائيلية شتى أنواع الانتقام من الأسرى عبر القمع الشديد وتعكير صفو الوضع المعتاد داخل السجن، وذلك بغية بث رسائل قمعية بأنها ما زالت تسيطر، ورغبة منها في ردع وازع الهرب داخل السجون.

  يُبيِّن الصفطاوي، الذي تحدَّثنا معه بعد أن أنهى اتصالا له مع بعض الأسرى داخل سجون الاحتلال، أن الأسرى أصحاب الأحكام الثقيلة مقتنعون بمبدأ "أطلع (أهرب) اليوم وأموت بكرة (غدا) ولا أبقى بالسجن"، إذ إن مصيرهم في الأخير مرتبط بصفقة تبادل أسرى قد لا تأتي، ومن ثمَّ فالحصول ولو على يوم واحد من الحرية أفضل من الاستسلام التام لسجون الاحتلال.

من جانبه يقول "ناهد الفاخوري"، مدير "مكتب إعلام الأسرى"، إن عملية "نفق الحرية" أحدثت خرقا كبيرا في المنظومة الأمنية الشديدة للاحتلال، ودفعت إدارة السجون الإسرائيلية ومن خلفها الأجهزة والأذرع الأمنية لصب جام غضبها على الأسرى، في محاولة منها لإلقاء فشلها عليهم وتحميلهم مسؤولية عملية الهروب، إذ اعتدى الاحتلال جسديا ولفظيا وبالضغط النفسي على الأسرى، كما تعرَّض الأسرى، الذين نُقِلوا من قسم 3 في سجن جلبوع (شمال) إلى سجن شطّة (بجوار سجن جلبوع) والبالغ عددهم نحو 90 أسيرا، للضرب المبرح والتنكيل.

  حسبما يقوله الفاخوري، شنَّ الاحتلال هجمة عنيفة غير مسبوقة شملت إجراء تنقلات مُكثَّفة، وإغلاق مرافق السجون مثل المكتبة والكانتين (مقصف السجن)، وتقليص ساعات الخروج إلى الساحات، كما صودرت بعض مقتنيات الأسرى.

والأخطر من كل ذلك هو حل الاحتلال التنظيمات الفلسطينية التي نظَّمت الحياة داخل السجن، علاوة على توزيع أسرى حركة "الجهاد الإسلامي"، التي ينتمي إليها غالبية الأسرى الهاربين، في سجون مُتفرِّقة.

رغم أن الاحتلال الإسرائيلي ليس بحاجة إلى حادثة أو ثغرة أمنية داخل السجون أو أي مبرر آخر ليبدأ مسلسل القمع ضد حركة الأسرى، فإنه منذ اللحظة الأولى لعملية "نفق الحرية"، كما تقول "أمينة الطويل"، الناطق باسم "مركز أسرى فلسطين للدراسات"، كان متوقَّعا أن تبدأ إدارة السجون بتنفيذ جملة من العقوبات الصارمة على الأسرى، كتشديد الحراسة وتكثيف عمليات الفحص الأمني اليومية، ومن ثم العزل والتفريق من خلال التنقلات في صفوف الأسرى لمنع استقرارهم في غرفة واحدة، وكذلك سحب عشرات الأصناف من الكانتين وفرض غرامات باهظة مع إحكام منع التواصل مع العالم الخارجي.

  ما الذي يملكه الأسرى داخل السجون؟ دفعت الإجراءات الإسرائيلية التعسفية السريعة الحركة الأسيرة إلى اتخاذ خطوة مُتقدِّمة للدفاع عن الأسرى، أبرزها كان إعلان مسؤولي الحركة بأن السجانين ومديري السجن والضباط الإسرائيليين الذين مارسوا الاعتداءات باتوا هدفا للأسرى، مما يعني أن لكل أسير حق التصرُّف مع السجان الذي يستهدف الأسرى بالطريقة التي يراها مناسبة، حسب ما أخبرنا به مدير "مكتب إعلام الأسرى" ناهد الفاخوري، وهو تصعيد يهدف إلى التعبئة داخل السجون وكذلك زيادة الضغط على الإسرائيليين.

ويُضيف الفاخوري لـ "ميدان" أن تلك الخطوة تأتي قبل الخطوة الإستراتيجية الكبرى المُتمثِّلة في الإضراب المفتوح داخل سجون الاحتلال، الذي سيتم قريبا في حال عدم استجابة إدارة السجون لمطالب الأسرى وإصرارها على العقوبات، حيث جهَّز الأسرى خطة للإضراب، بل وثمة إشعار مكتوب بخط اليد وُجِّه لإدارة السجون بقُرب بدء الإضراب.

  ويُنوِّه الفاخوري إلى أن أوراق القوة التي يستند إليها الأسرى في هذه التحرُّكات تتجسَّد بالدرجة الأولى في صلابتهم وعزيمتهم وإصرارهم على انتزاع حقهم مهما كلَّفهم الأمر، مُشدِّدا على أنهم يستطيعون إجبار سجَّانيهم الإسرائيليين على التراجع وتحقيق مكتسبات من خلف القضبان.

ويمكننا أن نلاحظ عبر تاريخ الحركة الأسيرة، التي استشهد فيها نحو 260 أسيرا ضحّوا بحياتهم من أجل انتزاع حقوقهم، أن تحسين شروط الحياة للأسرى عادة ما تمَّ عبر معركة الإضراب المفتوح عن الطعام داخل السجون، فقد ذلك على سبيل المثال عام 2016 حين وقع "إضراب الكرامة"، الذي تمكَّنت فيه الحركة الأسيرة من إجبار الاحتلال على تركيب هاتف عمومي داخل السجون من أجل التواصل مع ذويهم، بالإضافة إلى جملة من المطالب أبرزها إنهاء سياستَيْ العزل والاعتقال الإداري، ومجموعة من المطالب التي تتعلَّق بتسهيل زيارات ذويهم.

وتُضيف أمينة الطويل، وهي أسيرة مُحرَّرة أيضا، أن الاحتلال أمام جبهات كثيرة ستنفجر في وجهه عاجلا أم آجلا بسبب ما يجري داخل السجون: "يخضع الاحتلال لحالة ضغط كبيرة وعمليات تحريض هائلة من المتطرفين والإعلاميين الإسرائيليين، وهو ما يضعه في مواجهة مع الأسرى، ونتيجة ذلك ستكون جبهات تصعيدية في الضفة والقدس وقطاع غزة وفي صفوف الأسرى أنفسهم، وهو أمر مُكلِّف جدا من الناحية المادية والأمنية والنفسية".

  يُضاف إلى ذلك أن الاحتلال يخشى سقوط هيبته أمام مواطنيه في حال تراجع عن عقوباته ونزل عن الشجرة كمَن يدفن رأسه في التراب، وهو أمر ترفضه الحكومة الحالية وإدارة السجون، لا سيما بعد الخزي الذي لحق بإسرائيل بالفعل نتيجة نجاح المقاومة الفلسطينية النسبي في تجاوز القبة الحديدية أثناء الحرب الماضية، وما أفضى إليه من سقوط حكومة عتيدة مثل حكومة نتنياهو.

وتردف أمينة الطويل قائلة إن الوضع وصل بالاحتلال إلى محاولته إيهام الأسرى بأنه سيحاول تخفيف العقوبات والعودة تدريجيا نحو التسهيلات إن التزموا الهدوء: "لكن هذا مرفوض لدى الحركة الأسيرة الآن، إذ إنهم ملُّوا تلك الوعود، ويتعرَّضون منذ عام 2014 لمزيد من التضييق مع بداية كل عام".

  أسرى فلسطين في دائرة الضوء داخل سجون الاحتلال حتى تاريخ 30 يونيو/حزيران 2021 نحو 4850 أسيرا، منهم 41 أسيرة، و225 من الأطفال والقاصرين، و540 من المعتقلين الإداريين.

ويصنع التضامن المتصاعد مع هؤلاء الأسرى عقب عملية الهروب الأخيرة حالة توتر وقلق وصلت إلى أعلى المستويات السياسية في دولة الاحتلال، تماما مثلما فعل ضغط الرأي العام العالمي المتضامن مع قضية الشيخ جرَّاح.

ويعتقد "ماجد العاروري"، الباحث في حقوق الإنسان، أن الأسرى يملكون قوة كبيرة اليوم بسبب حالة التعاطف الواسعة مع قضاياهم التي عزَّزها الإنترنت ووسائل التواصل.

يرى العاروري أن هذا التعاطف مع الأسرى الذي تواجهه إسرائيل حاليا جديد نسبيا، وهو ما يُفسِّر الإجراءات الانتقامية من جانبها، إذ طغت في السابق القضايا المطلبية مثل الرواتب والزيارات على قضايا الأسرى السياسية، أما الآن فيبدو أن "نظرية التركيز على المطالب المادية للأسرى قد انهارت بعد حادثة الهرب الأخيرة، وأن ثمة تطورا نوعيا في نظرة الجمهور إلى الأسرى، وهو ما تُدرِكه السلطات الإسرائيلية".

  ويُضيف الفاخوري أن هناك المزيد من نقاط القوة في ملف الأسرى، وأنه يستمد قوته من الإجماع الوطني عليه من الفصائل كافة ومن شتى شرائح الشعب الفلسطيني، فاستخدام الفصائل لمختلف وسائلها السياسية والدعائية، بما فيها الوسائل الخشنة، من شأنها أن تساهم في نصرة الأسرى والحد من الإجراءات المُتخذة ضدهم، كما أن هناك عاملا آخر يتمثَّل في التخوفات الإسرائيلية من انفجار الأوضاع في الضفة والداخل المحتل وغزة، إذ إن حالة الاحتقان خارج السجون ربما تدفع دولة الاحتلال للتفكير مليا قبل اتخاذ أي إجراءات عقابية جديدة؛ خوفا من الانزلاق نحو سيناريو الصيف الماضي، لا سيما في الداخل حين انتفض عرب 48 بشكل غير مسبوق من سنوات طويلة.

  تصف أمينة الطويل الحال داخل السجون، فتقول إن الأسرى يراهنون على صمودهم أولا، وعلى التضامن الوطني والشعبي معهم، وإنهم يتحدثون اليوم إلى الاحتلال بـ"فم ملآن" لأنهم مؤمنون بوقوف المقاومة خلفهم، وتُضيف: "وجود إجماع محلي وعربي ودولي يُعَدُّ من عناصر القوة، إذ يعتقد قطاع كبير من الرأي العام العالمي اليوم بأن الاحتلال يخالف المواثيق والأعراف الدولية في التعامل مع الأسرى، ويسلبهم حقوقهم التي كفلتها لهم القوانين الدولية".

في نهاية المطاف، وفي وقت تعتقد فيه إسرائيل أن عملية "نفق الحرية" هي إخفاق وفشل كبير لأجهزتها الأمنية، فإنها تحاول حصر الأزمة في نطاق ملف الأسرى، لكن التغيُّرات القادمة من داخل السجون وخارجها تفرض الكثير من التحديات التي ستضع دولة الاحتلال على صفيح ساخن، وستُعيد الزخم الذي خفت لوهلة حيال القضية الفلسطينية بعد أن اشتعل الصيف الماضي.

أما أسرى جلبوع، فإنهم حقَّقوا جل أهدافهم وأهداف زملائهم الأسرى بمجرد خروجهم من ذلك النفق الذي لم يكن في الحقيقة سوى ثقب في جدار الروايات التي أنفق الاحتلال سنوات طويلة في بنائها.

لا يهم اعتقالهم مجددا الآن، فالمعركة لم تكن تدور حول شخوصهم على أي حال.

الوكالات      |      المصدر: الجزيرة    (منذ: 3 سنوات | 8 قراءة)
.