محطات ومشاهد وذكريات .. العسكري الفرنسي فليكس مورا "تاجر الرقيق"

مدن ومطارات وموانئ تقديم تعد هذه السلسلة نوعا مركبا يجمع بين نوع الكتابة الصحافية وصيغة السيرة الذاتية، وكتابة استرجاعية سردية ينجزها الكاتب المغربي عبد اللطيف هِسوفْ مازجا في ذلك بين الذاكرة والخيال.

من خلال حلقات هذه السلسلة، سنسافر مع منصور من مدن الأجداد (دَمْناتْ وأزيلال ومراكش)، ثم من فْضالَة وكازابلانكا، إلى باريس، والعودة عبر الجنوب الإسباني إلى طنجة العالية، ثم إلى نيويورك وفرجينيا وكاليفورنيا بأمريكا.

.

في رحلة سجلها حافل، بحثا عن شيء لا يعرفه مسبقا، متسلحا بحب المغامرة.

ستبدأ رحلة معاناة صامتة دامت أكثر من ثلاثين سنة أحس فيها منصور في البداية بأنه يعيش الاغتراب في بلده، الإحساس بالعنصرية بفرنسا، ثم التوهم بأنه منبوذ من الحلم الأمريكي.

.

رحلة عاش فيها حياة المنفى، المنفى البدني والفكري والثقافي، وسط المجتمعين الفرنسي والأمريكي.

يحاول الكاتب اختراق عوالم مصغرة، بأفراحها وأحزانها وتناقضاتها ومغامراتها وأحلامها.

خليط من الشخصيات والأماكن المختلفة.

.

تنقل بين مدن ومطارات وموانئ.

.

معركة منصور لم تكن سهلة في ديار الغربة، كانت معركة ضارية بلا هوادة ودون انقطاع.

التجارب والصراعات وخيبات الأمل والإهانات نادرا ما كانت انتصارات كاملة أو أفراحا مكتملة.

ومع ذلك، كان بحاجة إلى التواصل مع الآخر خوفا من الغرق في الإقصاء أو الملل.

انكسارات تبدد فكرة جنة عدن، حيث يتم إعطاء كل شيء دون جهد؛ ولكن، في الوقت نفسه، فإن هذا التواجد في بلد “العم سام” يعزز صورة بلد حيث كل شيء ممكن إذا كانت لديك قوة الإرادة وكثير من الصبر.

الحلقة 4 من خلال أحاديث تائهة لبعض المهاجرين إلى مدينة الدار البيضاء، علم سَلّامْ أن المسمى فيليكس مورا، العسكري السابق في الجيش الفرنسي الذي أطلق عليه القرويون الأمازيغ “تاجر الرقيق”، يرسل أبناء المغرب بعقد عمل إلى فرنسا.

وفي الواقع، منذ عام 1960م، لجأت فرنسا إلى الاستيراد الهائل للعمال المغاربة.

تم تجنيد شباب القرى الجنوبية، بالأساس، من خلال عقود عمل مدتها ثمانية عشر شهرا قابلة للتجديد في المناجم، وكذلك لبناء شبكة القطارات الباريسية.

ويتحدث العارفون بالخبايا أن فيليكس مورا، الرقيب السابق في الجيش الفرنسي، جنّد ستة وستين ألف مغربي لصالح مناجم الفحم الحجري بفرنسا.

يحكي السيد مورا: “نظرت في بياض عيون ما لا يقل عن مليون مرشح مغربي… لقد وظفت الآباء، وبعد ذلك الأبناء”.

فرنسا، ذلك البلد البعيد، يمثل الأمل بالنسبة إلى سَلّامْ وباقي مواطنيه.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} في الواقع، كان هذا العرض منفذا منقذا لهؤلاء الشباب المعوزين الذين يعانون الفقر في جنوب المغرب.

وعلى الرغم من ارتياب كبار السن الذين حاربوا ضد فرنسا بالسلاح خلال فترة الاستعمار، فإن العزاب والمغامرين الشباب، الذين يتوقون إلى تحسين مستوى معيشتهم، اختاروا تجربة حظهم في المنفى بعيدا عن بلادهم، بعيدا عن أهليهم.

هناك في بلاد الروميين، في بلاد المسيحيين! رحلوا بحثا عن المغامرة.

لقاء المجهول؟ أكانت خيبة أمل جيل أو رغبة بسيطة في المغادرة؟ كان المرشحون يمرون أمام السيد فليكس مورا الذي كان يرتدي الجينز وقميصا خفيفا يحمل صورة برج إيفل، ويعتمر قبعة، ويلبس نظارات شمسية تخفي جزءا من وجهه، بالإضافة إلى الغليون الذي لا يغادر شفتيه.

خلال الفحص الأولي، انتظر سَلّامْ، عاري الجدع، في ذيل صف طويل.

كان هناك، مستصغرا نفسه، يلاحظ ويستمع إلى ما يقوله الآخرون دون أن ينبس ببنت شفة.

كان يخشى أن يرفض ويشطب عليه من قائمة الرجال المتبارين بجرة قلم.

عندما جاء دوره، بعد ساعتين من الانتظار، تحت أشعة شمس حارقة، مر أمام السيد فليكس مورا الذي طلب منه متغطرسا: – ما عمرك؟ – ثلاثون سنة، على ما أعتقد.

– أنت لست متأكدا حتى من عمرك وترغب في الذهاب إلى فرنسا.

أنتم حفنة من الأوغاد، عملات مزيفة، ليس إلا! كان مورا على وشك محو سَلّامْ بإشارة من يده عندما لاحظ أنه في حالة جيدة وبنية جسمية قوية.

استدرك: – عليك أن تعرف سنك، أيها الغبي.

ألم يذكروه لك في السابق؟ – نعم سيدي، لكن … تلعثم سَلّامْ في بعض كلمات اعتذار، وأفضت شفتيه عن جملة غير منتهية لم يستطع مورا فهمها.

– كفى كلاما! كم وزنك؟ – ثمانية وستون كيلوغراما سيدي.

– قف على الميزان لأتحقق.

.

جميعكم تكذبون.

بالنظر إلى حجمك، يجب أن تزن أكثر.

ولكن ماذا كانوا يطعمونكم في قراكم؟ ربما علف الدواب؟ – همهم.

.

أمم! – أخبرني، ماذا ترى على اللوح هناك؟ – لم أتعلم الفرنسية، سيدي.

– أوه! أنتم جميعا جهال.

.

حشيش في أدمغتكم ليس إلا.

إذا لم تكن فرنسا هي التي فتحت أعينكم، ستظلون تقبعون في ظلام العصور الوسطى.

لم يفهم سَلّامْ ما الذي كان يشير إليه الفرنسي، ولا لماذا تحدث معه بنبرة مهينة.

اكتفى بابتلاع ريقه بشكل مؤلم، وحاول السيطرة على أعصابه؛ بينما تساءل في سريرته: لماذا تجرأ هذا الرومي على التحدث معي بهذه الطريقة؟ والحقيقة تقال، كان السيد مورا يهدف إلى اختبار صبر هؤلاء المغاربة وخضوعهم قبل إرسالهم إلى فرنسا.

يهينهم وجها لوجه قصد فرز المذعنين من المتمردين.

عمل نفساني كامل كان يلجأ إليه السيد مورا قبل أن يرسل إلى فرنسا أشخاصا يجب أن يكونوا قادرين جسديا وعقليا ونفسيا على تنفيذ المهمة، وهي مهمة مؤلمة: العمل في مناجم الفحم تحت درجة حرارة باردة جدا.

– وفي الجدول الآخر، ماذا تقرأ بالعربية.

– تحيا فرنسا.

.

يا سيدي.

– حسنا! لأنه بدون فرنسا ماذا كنتم ستكونون أنتم المغاربة.

توقف السيد مورا مؤقتا، ثم تابع: – هل مرضت من قبل؟ – لا سيدي.

.

لم أمرض أبدا.

– أرني جلد بشرتك! حسنا، بشرتك صافية جدا.

فحص السيد مورا كل شيء تقريبا.

.

لم يترك شاردة إلا تحقق منها.

– افتح فمك! أرني أسنانك! تعال اقترب لأرى أذنيك! ارفع هذا الصندوق وضعه هناك! كان الرومي يفحص العضلات والعمود الفقري… كل شيء.

.

عمليا كل شيء.

– تدخن؟ – لا سيدي.

– اركض مسافة 400 متر أمامك بأسرع ما يمكنك.

في الوقت الذي أخذ فيه الفرنسي رشفة من الماء وأعاد إشعال غليونه، كان سَلّامْ قد قطع المسافة وعاد ليقف أمامه.

مندهشا، أبدى مورا هذه المرة إعجابه.

– عظيم! أحييك! يجب عليك المشاركة في الألعاب الأولمبية.

بعد هذا الفحص الدقيق، وضع السيد مورا علامة على صدر سَلّامْ بطابع أخضر.

اطمأن سَلّامْ إلى أنه نجا من الختم الأحمر الذي يعني الإقصاء التلقائي.

لم يكن كل هذا سهلا! في الواقع، كان يتم استبعاد ثلثي المرشحين يوميا.

تم قبول الرجال الذين يتمتعون بصحة جيدة لأداء أكثر الأشغال إيلاما.

.

تم إرسالهم إلى مكتب الهجرة الوطني في الدار البيضاء لتوقيع عقد لمدة 18 شهرا قابل للتجديد لمدة ستة أشهر قبل ركوب الباخرة في اتجاه فرنسا.

مرة أخرى، سيتم ترقيم الرجال مثل الماشية، قبل أن يصلوا إلى مرسيليا، بعد أن قضوا ثلاثة أيام في البحر.

بعد ذلك، تم نقلهم بالحافلة إلى شمال منطقة ”با دو كاليه”.

هناك، كان ينتظرهم فحص طبي أصعب.

في شمال ”با دو كاليه”، ستصبح مغامرة الآلاف من الشباب، الذين كانوا يتطلعون إلى كسب نوع من الكرامة، تحت سماء أخرى، نوعا من العذاب اليومي.

سيتذكر سَلّامْ بعد ذلك: “حتى جوازات سفرنا استولى عليها المسؤولون عن مناجم الفحم لمنع أي محاولة للفرار أو العودة إلى البلاد”.

الحياة صعبة في الشمال، حيث كان فصل الشتاء قاسيا لا يحتمل.

يتذكر سَلّامْ: “كانت الرطوبة في أسفل المناجم سيئة للغاية بالنسبة إلى الرجال الذين اعتادوا على حرارة الشمس والأماكن المفتوحة في جنوب المغرب”.

من فلاحين بسطاء أو رعاة فقراء، تم تحويل الرجال، بإرادة “تاجر الرقيق” مورا، إلى عبيد حقيقيين خلال الإقلاع الصناعي الحديث لفرنسا.

كان تدفقا هائلا للمهاجرين، واستغلالا مبالغا فيه، وإساءات، وإذلالا، لآلاف المنجميين المغاربة، ضحايا أجور متدنية.

في هذا الإبان، عكست إحدى قصائد الأمازيغ خيبة أمل الرجال الذين غادروا إلى فرنسا وكذلك زوجاتهم اللواتي بقين في المغرب: في وقت مضى، بيع الرجال لقد أخذتهم كلهم يا مورا.

آه يا مورا! يا تاجر الرقيق! يا تاجر الرقيق! أخذتهم إلى قاع الأرض … جاء مورا ذات يوم إلى حظيرة القلعة مورا اخترت الأكباش الفحول وتركت لنا النعاج يا بناتي! دعونا نتوشح بثوب الحداد أهاننا مورا واختفى.

.

سحقا لك يا مورا.

سحقا للأجانب.

كل واحد من ذوينا يعيش في فرنسا هو رجل ميت يغادرون ويتركون أطفالهم تسحرهم فرنسا سحرا فرنسا تسحر رجالنا ومن ذهب إلى هناك، أغوى رجالا آخرين للالتحاق به آه يا مورا! يا تاجر الرقيق! يا تاجر الرقيق!

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 3 سنوات | 13 قراءة)
.