الدبلوماسية السيبرانية وملاحظات بشأنها

ليست كلمة دبلوماسية Diplomacy عربية الأصل، ولا هي إنجليزية الأصل أيضا، لكنها باتت كلمة دولية ترتبط بجميع اللغات.

كان لهذه الكلمة مسار انطلق من اللغة الإغريقية، إلى الفرنسية، ثم الإنجليزية، فالعالم بأسره.

المعنى الإغريقي الأول للكلمة كان "وثيقة يتمتع صاحبها بمكانة خاصة تسمح له بالتنقل والتواصل مع الآخرين".

وقد ارتبط معناها عمليا بإدارة العلاقات بين الدول، لكن هذا المعنى امتد على أرض الواقع ليشمل إدارة العلاقات ليس بين الدول فقط، بل بين أطراف مختلفة أخرى، تشمل الأفراد والمؤسسات أيضا.

تحمل كلمة دبلوماسية معنى إيجابيا لإدارة العلاقات، فهي تترجم إلى العربية على أنها حسن التدبير وحسن التصرف والكياسة واللباقة.

والغاية من ذلك هي الإبقاء على علاقات حسنة بين الأطراف المختلفة، شعارها التوافق وتبادل المصالح.

وعندما تفشل الدبلوماسية في ذلك، أو تتراجع، يصبح الباب مفتوحا أمام إدارة غير دبلوماسية ساخنة للعلاقات تتمثل في صراعات مكلفة لا تحمد عقباها.

وليس هناك دائما ضمان لنجاح الدبلوماسية، فواقع الحياة يقول، إن هناك عوامل تقود إلى تعزيزها، وجوانب تؤدي إلى إعاقتها.

فتوجهات الأطراف في كل زمان ومكان يمكن أن تحمل ما يرضي الأطراف الأخرى، كما يمكن أن تحمل ما لا يرضيهم.

فقد تتميز هذه التوجهات بروح التعاون وحس العدل والوئام وتفعيل التآلف، وقد تتصف بالجشع والطمع والرغبة في الأذى بعيدا عن أي توافق، وقد يكون فيها مزيجا يسعى فيه كل طرف إلى تعظيم مكاسبه بوسائل مختلفة.

غاية هذا المقال هي طرح أبعاد الدبلوماسية في العالم السيبراني الذي بات جزءا مهما من حياة الجميع في هذا العصر.

فكما أوضحنا في مقال سابق، بات هذا العالم حقيقة راسخة ليس في حياتنا المهنية فقط، بل في حياتنا الاجتماعية أيضا.

ويتركز ذلك بصفة خاصة في إطار النشاطات المعلوماتية المرتبطة بمختلف المجالات المعرفية، فقد تحولت الحياة، ضمن هذا الإطار، إلى مشاهد معلوماتية تفاعلية على شاشات الأجهزة من حولنا، فضلا عن شاشات الأجهزة الصغيرة التي في جيوبنا أيضا.

يمكن النظر إلى الدبلوماسية في العالم السيبراني على أنها تسعى إلى تحقيق غايتين رئيستين.

تتجلى الأولى في دعم دبلوماسية العالم المادي، وتجنب إسقاط أي آثار سلبية على نشاطاتها.

وتتمثل الثانية في حماية الأمن السيبراني Cybersecurity، والحد من التحديات التي يواجهها العالم السيبراني.

وينظر المقال إلى هاتين الغايتين، وإلى السعي إلى تحقيقهما من خلال ثلاثة أبعاد رئيسة متكاملة تعطي إطارا عاما يحيط بمتطلبات الغايتين.

يشمل البعد الأول مستويات الأطراف المتعاملة مع العالم السيبراني، وتتضمن: مستوى الدول ومستوى المؤسسات إضافة إلى مستوى الأفراد.

ولعله من المفيد التأكيد هنا أن هذه المستويات غير معزولة عن بعضها بعضا، بل هي متداخلة، فقد يكون التعاون السيبراني قائما بين أطراف من مستويات مختلفة، كما قد يأتي التهديد السيبراني من أي طرف من هذه المستويات إلى أي طرف آخر منها أيضا.

ويرتبط البعد الثاني بخصائص الجانب السيبراني التي تقدم عالما مفتوحا على جميع الأطراف شاملا مختلف المستويات، وذلك عبر الإنترنت ومعطياتها المعلوماتية المختلفة، بما في ذلك وسائل التواصل ومراكز تقديم الخدمات.

ولا شك أن للعالم المفتوح فوائد كثيرة تدعو الجميع إلى التمسك بها، إلا أن له مخاطر كثيرة يجدر بالجميع التعاون في العمل على تجنبها، وإيجاد الحلول المناسبة لها.

ونصل إلى البعد الثالث المتعلق بصفات الجانب البشري التي قد تحمل خيرا ليس للذات فقط، بل للآخرين أيضا التي قد تتأبط شرا يؤذي الآخرين، وربما يؤذي الذات أيضا بطريقة غير مباشرة.

وتجدر الإشارة إلى أن الجانب البشري يشمل العناصر الحية التي تحرك الأطراف على جميع المستويات، وتسخر خصائص الجانب السيبراني لخدمة متطلباتها التي قد تكون عادلة، أو قد تتحدى حقوق الآخرين.

ولعلنا هنا نتساءل كيف يمكن للدبلوماسية السيبرانية أن تحقق غايتيها ضمن هذه الأبعاد الثلاثة، أي بعد مستويات الأطراف ذات العلاقة، وبعد الخصائص السيبرانية المحيطة بالجميع، وبعد الصفات البشرية وتوجهاتها.

ولعلنا في محاولة الإجابة عن هذا التساؤل نقدم بعض الملاحظات.

وتنطلق هذه الملاحظات من محورين رئيسين: محور السلوك الإنساني وتوجهاته ومعطياته من جهة ومحور البنية التنظيمية للعالم السيبراني من جهة أخرى.

إذا بدأنا بملاحظات حول محور السلوك الإنساني نجد أمامنا بنظرة التمني ثلاثة توجهات مفيدة تشمل: الأخلاقيات الإنسانية، والحكمة في اتخاذ القرار، والقول الحسن في التواصل مع الآخرين.

وإذا انتقلنا إلى ملاحظات أخرى حول محور البنية التنظيمية، تبرز أمامنا ثلاثة توجهات أخرى تتمثل في الحاجة إلى أنظمة تبين واجبات وحقوق كل من أطراف المستويات الثلاثة: الدول، والمؤسسات، والأفراد في العالم السيبراني.

وهكذا نجد أن ملاحظات المحور الأول ترتبط ببناء الإنسان في هذا العالم، وأن ملاحظات المحور الثاني تهتم ببناء البيئة المطلوبة من حوله.

ولعل من المناسب، قبل أن نختم هذا المقال، ذكر ملاحظة حول الدبلوماسية السيبرانية تصب في الإطار السابق، أوردتها الدانماركية ربيكا أدلر- نيسن Rebecca Adler-Nissen التي تعمل في الحقل الديبلوماسي، بشأن المطبات التي يقع فيها بعض المسؤولين الدبلوماسيين بسبب خصائص العالم السيبراني، وبالذات خصائص شبكات التواصل الاجتماعي.

فقد بينت هذه المرأة أن كثيرا من الدبلوماسيين والوزراء في الدول المختلفة يتسرعون في الرد على الأقوال التي ترد في شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك عبر هذه الشبكات ذاتها، دون التحقق منها، ودون تريث أو تفكير كاف، ما يؤدي إلى مشكلات لا مبرر لها بين الدول.

ويمثل ذلك قصورا في الحكمة التي تحتاج إلى تفكير وتريث من أجل اتخاذ القرار السليم.

لا شك أن العالم يحتاج إلى دبلوماسية سيبرانية تتفاعل مع خصائص العصر الذي نعيشه، وتكون امتدادا مفيدا يعزز دبلوماسية العالم المادي على مختلف المستويات ابتداء بالأفراد، ووصولا إلى المؤسسات، والدول.

ورغم أن الدبلوماسية على أرض الواقع، لم تكن دائما ناجحة، إلا أنه لا بد من الاهتمام بها، وبالذات سلوك الإنسان فيها، ومعطيات البيئة التنظيمية من حوله.

السعودية      |      المصدر: الاقتصادية    (منذ: 3 سنوات | 34 قراءة)
.