إصدار جديد يوثق الحياة الثقافية والاجتماعية بالرباط خلال القرن العشرين

يوثق الأكاديمي المغربي مصطفى الجوهري مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية في الرباط، ومشاتل بناء الوعي الثقافي والسياسي والوطني والجمالي خلال القرن العشرين، مقدما بذلك أمثلة على القاعدة التي تستند عليها “مدينة الأنوار، عاصمة الثقافة”، المصنفة، اليوم، ضمن لائحة اليونسكو للتراث الإنساني العالمي.

جاء هذا في كتاب معنون بـ”الحياة الثقافية والاجتماعية بمدينة الرباط خلال القرن العشرين – ملامح وتجليات مختصرة”، صدر عن منشورات جمعية رباط الفتح للتنمية المستديمة.

وفي تقديم هذا العمل، يكتب عبد الكريم بناني، رئيس الجمعية سالفة الذكر، أنه “عمل توثيقي، يضاف إلى كم هائل من المؤلفات الصادرة في العقود الأخيرة عن مدينة عريقة أصيلة، ساهمت بقسط وافر في تأسيس الفكر المغربي والثقافة العريقة والحديثة ببلادنا”.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} ويزيد المقدم: “مؤلف الكتاب خبر موضوع التراث الحضاري المغربي، والثقافة على وجه العموم، والرباطي على وجه الخصوص، يلقي الضوء، ولو باختصار، على أهم المحطات العلمية والفكرية والفنية والدينية والاجتماعية للمدينة، سالكا في ذلك الطرق البحثية المتعارف عليها علميا، ويضيف إليها طاقة ذاتية نابعة من عشقه للمدينة التي نشأ فيها وتربى وتعلم بأحضانها، وفتح عينيه على الصغيرة والكبيرة من مكوناتها يتأرجح بين معالمها وآثارها، رجالها ونسائها، دروبها وسماتها، وأصبح بذلك مرجعا لكل دارس وباحث وسائل”.

ويسجل بناني أن مدينة الرباط “تعرف اليوم طفرة غير مسبوقة في الميادين الثقافية والعمرانية والحضارية”، تعد “امتدادا لتاريخها الحضاري المجيد والنهضة العلمية”؛ وهو ما يجعل منها “مركز إشعاع للثقافة المغربية المعاصرة بكل تجلياتها وامتداداتها الوطنية والدولية”، وهو “ما اجتهد لإبرازه الأستاذ الجوهري في حلة تصل الحاضر بالماضي لهذه الحاضرة البهية الجذابة”.

ويقدم الأكاديمي مصطفى الجوهري ومضات مضيئة مما راكمته الرباط من رصيد محليا ووطنيا ودوليا، جعلها “مدينة ثقافية وحضارية، موشومة بملامح حداثية جديرة بالاهتمام والإثارة”، مقدما أمثلة عن “عطائها ومنجزها الظاهر منه والخفي”، مع الوفاء لذكرى “رجالها وأعلامها الذين خدموا بصدق حياة المدينة الثقافية والاجتماعية”.

وينطلق الجوهري في حديثه عن الرباط من سنة 1912، سنة جعلها عاصمة للبلاد، بكل ما كانت تمثله من “تاريخ عميق”، وما تحمله من “المآثر الحضارية الأزلية”، بوصفها “مدينة المُهجرين الأندلسيين، ومدينة الأبواب والأسوار والمساجد والزوايا والكتاتيب القرآنية والمدارس (…) مدينة العلماء والصلحاء والأولياء نساء ورجالا”.

ويسجل الأكاديمي أنه مع بداية الحماية الفرنسية، “صارت الرباط مدينة الإدارة والخدمات والوزارات والتجارة والاقتصاد، ومدينة الجهاد والوطنية والصحافة والإعلام والثقافة والأندية الأدبية والترفيهية والمجالس العلمية والروحية، ومدينة الفنون والمتاحف وفضاءات السينما وقاعات المعارض التشكيلية والمهرجانات والمسارح والجمعيات والملاعب الرياضية، ومدينة الحرف اليدوية والصناعة التقليدية، ومدينة الطبيعة والغابات والبساتين والحدائق الغناء”، أو صارت “مدينة التراث والحداثة”.

ويقف الكاتب عند الجسور التي أسستها العاصمة مع جيرانها، خاصة مدينة سلا، ومع باقي بوادي وحواضر المملكة، بعد أن صارت “محطة لامعة للشباب والوافدين إليها باعتبارها قاعدة المُلك، وقاعدة المعرفة، فأضافت إلى كونها عاصمة سياسية وإدارية، حصولها على مكون رئيسي هو عاصمة الثقافة”.

ويتطرق الجوهري إلى “خصوصيات الرباط بعد استقلالها العلمي”، وتشكيلها “ذاكرة ثقافية يقظة، وحملها مشعل ازدهار الحياة الثقافية”، مع اكتسابها ملامح جديدة في القرن الأخير، من أوجهه “المسامرات الثقافية والعلمية”، التي كانت تخضع في البداية لتنظيمات إدارة الحماية، “قبل تحررها وتحولها الملحوظ مع تأسيس الأندية الأدبية بالرباط، على قلتها”.

ومن بين هذه “الملامح الجديدة”، وفق المؤلف نفسه: “الطباعة والمطابع، في بداية العقد الثاني من القرن العشرين”، التي كان لثمراتها “دور وأهمية في نشر المعرفة وتعميم الثقافة”، بعد أن كان السائد الاستنساخ باليد، أو الطباعة الحجرية التي كان مقرها مدينة فاس.

في هذا الإطار، دعا الكاتب إلى الالتفات إلى ما طبعته هذه المطابع، وإعادة طبعه لإحياء الذاكرة الثقافية المغربية عامة، ومحاولة الإمساك بحفريات النهضة، وهي تعيش بواكيرها التأسيسية بمدينة الرباط.

بعد هذا، تحدث الكتاب عن “الحياة المطبعية” بمدينة الرباط، في عهود الاستقلال، التي “رسمت الطريق الصحيح لشرعية الانفتاح على المعرفة الإنسانية برؤية عميقة”، وشكلت فيها “المؤسسات الجامعية والمعاهد العليا وانتشار الإعلام عوامل منشطة ومحفزة في الإقبال على الدرس والتحصيل والكتابة والتأليف والنشر، ستنعكس على الحياة الثقافية”؛ وهو ما تلاه تأسيس دور للنشر، فظهور للمكتبات والخزانات.

ومن أشهر هذه الخزانات، حسب المصدر نفسه، مكتبة الفقيه التطواني بشراكة مع محمد المختار السوسي بشارع القناصل، التي انتقلت إلى سلا، ومكتبة الطالب للحاج عبد القادر المكناسي ببوقرن، قبل أن تنتقل إلى حي الجزاء، ومكتبة محمد القباج، ومكتبة أبا بوجيدة، ثم خارج أسوار المدينة العتيقة مكتبة الأمنية المعروفة اليوم بدار الأمان، ومكتبة التويمي، وكليلة ودمنة، والمكتبة الجامعية، ومكتبة منار العرفان، ومكتبة خدمة الكتاب، والمكتبة الشعبية، ومكتبة الألفية الثالثة، وغيرها.

.

ويقدر الأكاديمي مصطفى الجوهري وجود مائتي خزانة أو مكتبة، بالرباط اليوم، بعد تأسيس مكتبات مفتوحة من طرف مؤسسات وجامعات ومعاهد ومساجد وكنائس، وزوايا، ووزارات، وجمعيات، وسفارات، ومنظمات دولية، ومكتبات مستقلة مفتوحة، مثل: خزانة جامعة محمد الخامس، وخزانة الجمعية المغربية للتاريخ العسكري، وخزانة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وخزانة أكاديمية المملكة المغربية، وخزانة مؤسسة علال الفاسي، وخزانة الإذاعة الوطنية للسمعي البصري، وخزانة معهد البحث والتوثيق، وخزانة المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، وخزانة المعهد العالي للإعلام والاتصال، وخزانة أرشيف المغرب.

ويقف الكاتب أيضا عند “المجالس العلمية والأندية الأدبية” بالرباط، التي أذكت لحظات مهمة في التكوين والحوار والجدال والمطارحة والتعليق في قضايا فكرية وشرعية وأدبية متباينة؛ ومن بينها المجالس العلمية السلطانية، ومجالس الشيوخ التي كانت تنظم بمساجد وزوايا المدينة باعتبارها مقصدا لطلاب العلم والتحصيل الذاتي، مثل مجالس أبي شعيب الدكالي ومحمد بن عبد السلام السايح ومحمد بن العربي العلوي.

وفي حديثه عن الأندية الأدبية والفنية، عاد الجوهري إلى أقدمها بالمغرب “النادي الجراري”، الذي أسسه عبد الله بن العباس الجراري سنة 1930، ويستمر في عهد نجله د.

عباس الجراري.

ويذكر بما ظهر بعد الاستقلال من أندية مثل نادي محمد المختار السوسي حين استقر بالرباط، ونادي الأربعاء للشاعر علي الصقلي، ونادي محمد عزيز الحبابي بتمارة، ونادي الحمامة لمحمد أفيلال.

كما يعرج المؤلف على “المقاهي الأدبية والثقافية” بالعاصمة، والمنابر الإعلامية الكثيرة التي عرفتها؛ مثل “السعادة”، و”الأطلس”، و”العلم”، و”مجلة الثقافة المغربية”، وخلايا الوعي الوطني الثقافي والسياسي، وما أسهمت به من ثقافة بيئية.

ومن بين ما يجده قارئ هذا الكتاب، الذي لا تتجاوز عدد صفحاته الثمانين، حديثٌ عن الحركة المسرحية بالرباط خلال القرن العشرين، والسينما والعناية بها، وحضور الطرب بالعاصمة، من مديح وسماع وملحون وآلة، واتساع الحركة التشكيلية فيها في زمن الحماية، وما سبقها من تعاط لفن الخط، ثم عروض الفنانين المغاربة الكبار بأروقتها، فضلا عن حركة الكتابة والتأليف، والمؤسسات التربوية والجامعية العتيقة والحديثة بها، في مغربِ ما قبل الاستقلال والمغرب الذي بعده.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 3 سنوات | 12 قراءة)
.