وطن يُستنزف أفق أحلام أجياله عبثا

كان من المفترض بقاء فضاء العاصمة الرباط معلمة حضارية محترمة بامتياز، مدينة جميلة زاخرة بحدائقها الفيحاء والغناء، تحتضن الإنسان بانتصارها الدائم لقيم الحياة والبناء والخلق والجدية والمواطنة والمسؤولية، متسامية بكل إباء التمدن والتحضر، عن دون كيشوطية متاهات النفق المظلم لبيروقراطية عقيمة جدا ذات صبغة كافكاوية.

هكذا، جاء مشهد طبيعة التفاعل، منذ أواسط التسعينيات، مع تدشين أولى حلقات نضالات حملة الشواهد العليا؛ بدءا من مستوى الإجازة فما فوق.

منذئذ، صارت شوارع الرباط ومسالك دروبها قِبلة ثم وجهة أولى للصدح بمختلف المطالب الحقوقية، اختزلت وقائعها الجارية بكيفية إجمالية باقي تفاصيل يوميات جغرافية المغرب، ورسمت تراكميا ونوعيا مشاهدها؛ بكيفية ملموسة لا شك معها، صورة قاتمة عن مستقبل أجيال وطن، استمر مسؤولوه يقاربون اتساع مساحة رقعة المشاكل الاجتماعية ثم استفحال حدة أزماتها، بذات ضيق بل جمود أجوبة خطاب المنظومة التقويمية والتبريرية، العائدة أصولها إلى حقب مضت؛ تجاوزتها كثيرا الإشكالات المعقدة والمتداخلة لحيثيات السياق الراهن.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} وقائع المسلسل التراجيدي، الذي تَعرض سيناريوهات حلقاته بكل حسرة صباحات وليالي الرباط، هي حتما مجرد نتيجة طبيعية جدا – والقادم أسوأ- لسياسات مأسسة منظومة العوز، منذ الإعلان الرسمي بداية سنوات الثمانينيات عن ترسيخ مدارج الحلقات الجحيمية لسياسات التقويم الهيكلي، التي تبنى الائتلاف الطبقي الحاكم وفق خطاطتها الجزئية والشمولية، بكل تفان، إملاءات؛ هندسات المنتديات المالية الدولية، المنصبة مثلما يعرف الجميع في كنهها على إلغاء الإنساني لصالح الموازنات الصورية؛ الاعتباري والقيمي لصالح رهانات البورصات وتلاعبات الأرقام، المضمون لصالح السطح، الجوهري لصالح الشكل، المشروع المجتمعي سياسيا واقتصاديا ومعرفيا لصالح البريكولاج الظرفي، الشعب لصالح أقليات أسروية؛ وأخيرا البناء المؤسساتي الرصين لصالح البروباغندا الإعلامية الواهية.

هكذا تبلورت مقاومة المغاربة بواسطة طليعة جبهة مناضلة تقدمية، شكَّل هيكلها المفصلي اليسار بشقيه التقليدي والجذري، ثم الحقوقيون والطلبة، فوقف التآلف بكل جسده وفكره سدّا منيعا حيال مآلات أفق ارتدادي من هذا القبيل، ينزع بكل بساطة نحو الاكتفاء بتاريخ الإفرازات الهرمونية لمثيرات ”المجتمع الخبزي”، المختزِل لحقيقة الإنسان إلى مجرد لاهث ممسوس خلف الحاجات البدائية لنصفه الأسفل رغبة في البقاء، وبعد ملئه بطنه، يلزمه أن يغط في سبات عميق، غاية أولى خيوط فجر اليوم التالي، كي يعاود سيزيفيا بذات الوتيرة البليدة تجربة تهذيب الأوهام والخرافات.

المفارقة العجيبة، حتى ملحمة البطن هاته، تبعا لبساطة سعيها الإيديولوجي، حسب تصور نجاعة التقويم الهيكلي، لم تقدم إنجازا ذا شأن يذكر، منسجما مع مقدمة اختياراتها، ومقْنعا على مستوى توجهات السياسة العامة، انطلاقا من شعار الخبز مقابل الامتثال، بل على العكس انكمشت تطوريا وتقلصت مقتضياتها مع توالي السنوات، ثم قوضت ضمنيا ثراء المنظومة سوسيو-قيمية للفئات الطبقية التي شكلت نسيجا حيويا، سنوات الستينيات والسبعينيات: بورجوازية صغرى، بورجوازية وطنية، عمال، فلاحون، أنتلجنسيا، إلخ.

أقول، انمحت خريطة تعدد هذا الفسيفساء الجوهري بخصوص مجتمع إنساني عادل ومتوازن، قوامه التناظر الخلاق لتعدد أوراش التفكير المجتمعي، فأضحت منظومة القيم عارية تماما من لحمة التوازن تلك، وتحول الفضاء العام إلى مجرد مرتع تائه لصراع وجودي يزداد وقعه بوتيرة تصاعدية، بين أقلية تملك كل شيء، مقابل حشود هائلة لا تملك شيئا، ذات امتدادات قاعدية واسعة، وقد تُركت لمصيرها وحيدة على الهامش دون وسيط ولا تأطير ولا توجيه ولا محاور ولا منصت ولا مستقبل ولا أمل ولا أيّ شيء، فقط هي لقمة سائغة لدوامة يومي بلا معنى؛ بحثا عن قشرة خبز جافة لا تسمن ولا تغني.

تراكمت الإشكالات، وصارت نوعية، معقدة ومتداخلة بنيويا؛ أكثر من السابق: *النمو السكاني المطَّرِد؛ مع اتساع قاعدة الشباب طبعا.

*تجلي ملامح التشكل المكتمل لأجيال جديدة، ترعرعت على مفاهيم المنظومة الرقمية، المرتكزة على رافدي اللحظية والصورة.

*التراجع المطلق لفاعلية المنظومة النضالية التقليدية، بهيئاتها المعروفة، كالأحزاب والنقابات والتنظيمات السياسية والحقوقية التي أطرت الشباب المغربي سياسيا وثقافيا، وأمدت المجتمع طيلة عقود بمرجعيات ثقافة سياسية، تمنح باستمرار أملا في ما يتعلق ببناء مجتمع يستشرف ممكناته دون توقف.

*التسيد المطلق لنزوعات الليبرالية الشرسة، التي يمكن اختزالها في ومضة سريعة لا نقاش معها أو بعدها: قوة المال.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 3 سنوات | 14 قراءة)
.