الشاعر سرحان يكتب: "الفوسفاط الشريف" .. تسميد العقول وتخصيب النبوغ

كيف يصير “الفوسفاط شريفا”؟.

.

يطرح الشاعر سعد سرحان هذا السؤال قبل أن يتطوع للإجابة عنه، في مقالة تنشرها جريدة هسبريس.

ويرصد سرحان في هذا المقال كيف يمكن للفوسفاط أن ينتقل من تسميد الأراضي الفلاحية وإخصاب تربتها إلى تسميد العقول وتخصيب النبوغ المغربي، ويعطي نماذج مغربية مشرفة في هذا السياق تستحق الإشادة والاحتفاء.

وهذا نص مقال سرحان كما وصل إلى جريدة هسبريس: في ستينيات القرن الماضي، والآلةُ الحاسبة لم تعرف بعدُ الطريق إلى المغرب، لم يعدم المغاربة من نُبغائهم من ينوب عنهم في الحساب الدقيق وإعلان النتيجة السارة؛ ذلك أن العشرة دراهم، وهي عَهْدئذ ورقة نقدية بطولٍ وعرض، جاءت نصيبَ الواحد منهم يوميًا من مداخيل الفوسفاط وحده.

.

تلك الورقة التي كانت، بمرور العقود واحتساب باقي الثروات، ستتضاعف حتى يُغني مدخولها عن العمل.

فلو كان المغاربة يتوصلون بسمكتهم اليومية من بحر الفوسفاط، لكانت أقعدتهم لا عن الصيد فقط، بل عن كل سعيٍ.

ولنا أن نتخيل شعبًا لا يسعى.

لم يكن الفوسفاط يُذكر في طفولتي إلا مسبوقًا بلقبه الشريف، فكان ذلك يُضفي عليه عندي هالةً كتلك التي يُضفيها الطربوش الأحمر على أحد جيراننا.

أما حينما أصبحتُ في سن السينما، فقد صار الفوسفاط عندي مرهوب الجانب، إذْ أين طربوش جارنا من قبعة الشريف في أفلام رعاة البقر.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} صحيح أن الألقاب في المغرب تُطلق على عواهنها، فنجد على سبيل التذكير: الماريشال قيبو، والحاج مازار، والقايدة طامو، والجنرال فاخر، والشريف بين الويدان… مثلما هو صحيح أيضًا أن حامل لقب ما قد يسعى، في حياة موازية، بما يُناقضه تمامًا.

سوى أن الفوسفاط ليس شخصًا طارئًا فلا محالة زائل، وإنما هو بحرٌ غابر أورث البلاد غير قليل من الجُزر النفيسة.

ففي واحدة من تلك الجزر، ظهرت، منذ سبعينيات القرن الماضي، بعض حوريات البر.

كن أجسادًا بلا عظام تقريبًا.

وكنا، بشغفٍ، ننتظر ظهورهن على الشاشة، فلا يفعلن قبل أن يرِن اسم البلد في مسامع العالم.

وإذ تتقدم الواحدة منهن إلى المِضمار، فلكي تكونَنَا جميعًا، نحن الذين لم نكن نملك لها سوى النبضِ مضبوطًا على حركاتها.

أفكر في كريمة ومريم ونعيمة وسواهن ممن يرتبطن في الأذهان لا بالجمباز فقط، وإنما بالفوسفاط أيضًا.

كيف لا، وهن بنات اليوسفية، المدينة التي ما مررتُ بها ذِكرًا إلا ألقيتُ تحيةً خضراء شاسعة على الوساطين مبارك وعبد القادر، الفلاحيْن الرائعيْن اللذيْن منذ عقود وهما يُخصبان أراضي اللغة بفوسفاط المخيلة.

أما كبرى تلك الجزر، ويقال لها خريبكة، فلم تشتهر ببنات في الأولمبياد، بل بأولاد في الأولمبيك، منذ قرن وهم يسعوْن في الملاعب باحتضان من الفوسفاط.

ولما كان هؤلاء يَجِلون عن الحصر، فسأخص بعضًا من أبنائها بالذكر، كالكاتب المعطي قبال والشاعر أحمد العناني على سبيل التحية، والراحليْن الكبيريْن محمد البسطاوي ونور الدين الصايل على سبيل الترحم.

وحتى إذا كان هذا الأخير ابن طنجة، فلن تنسى له خريبكة أبدًا أن أسس بها مهرجان السينما الإفريقية؛ فجعل منها، بذلك، المدينة الصغيرة التي تحتضن قارة بأسرها، عقودًا قبل تعيين الفوسفاط سفيرًا معتمدًا في حقولها.

لقد كان ذكيا ونبيلًا من المغرب أن ذهب إلى جذور إفريقيا بالفوسفاط، فإخصاب تُربتها بترابه، إنما هو نوع من المصاهرة الرمزية، سوف يثمر غلالًا من الود، بعد أن يُضفي الكثير من الخضرة على أرض العلاقات الأفقية بين البلد وقارته الأم.

ولمناسبة الخضرة، أقف عند جزيرة أخرى من جزر الفوسفاط.

فبعد أن كانت سؤالًا صعبًا في الجغرافيا، أصبحت بنجرير تُذكر، في سياق لامعٍ جدا، مباشرة بعد باريس.

والفضل في ذلك يعود إلى مدينتها الخضراء، وتحديدًا، إلى موقعين بها تَم إنشاؤهما لاحتضان عقول المغاربة، هذه المرة، لا أجسادهم كما في اليوسفية وخريبكة، وتسميد العقول أيضًا، لا الحقول الإفريقية فقط، في سعي مشكور نحو إفريقيا خضراء قلبًا وقالبًا.

هذان الموقعان هما ثانوية التميز، ليديكس، وجامعة محمد السادس متعددة التخصصات.

أما ثانوية التميز، فقد أحدثت سنة 2015، على مساحة 18 هكتارًا مؤثثة بكل ما تحتاج إليه الدراسة والبحث والتفتح والترفيه.

وهي تنقسم إلى قسمين: الثانوي التأهيلي والأقسام التحضيرية.

وتأشيرة الدخول، إلى هذا كما إلى ذاك، هي نفسها: النبوغ.

تَتِم عملية الترشيح لولوج السلك الثانوي التأهيلي من ثانوية التميز عبر بوابتها الإلكترونية.

كما أن المؤسسة، وبتنسيق مع الوزارة الوصية، قد تعتمد نتائج التلاميذ الذين لم يترشحوا، فتخص المنحدرين منهم من أسر محدودة الدخل بمنحٍ دراسية قد تصل إلى مِائة بالمائة لتغطية مصاريف الدراسة والإيواء والإطعام.

معايير الانتقاء وطنيا، وفي الحالتين، هي التفوق الدراسي والتنوع الجغرافي والسوسيو-اقتصادي.

أما أقسامها التحضيرية، فتستأثر بزبدة الباكالوريا الوطنية لشعبتي الرياضيات والفيزياء، لِما توفره لطلبتها من رفاه علمي وتربوي، ولتَطَلبِها الذي يجعل بعض مسؤوليها يذرعون ربوع المغرب، كل عام، تنقيبًا عن الأكثر لمعانًا من معادن التلاميذ النفيسة.

وتلاميذ من هذا العيار لا بد أن يَحْظَوْا، طبعًا، بأساتذة من عيار يناسبه.

وهو ما تحرص عليه المؤسسة غاية الحرص في أثناء الانتقاء.

وبهذا الحِرص وذاك التطَلب، وخلال سنوات قليلة، أصبحت ليديكس مرادفًا للتفوق.

فعدد تلامذتها الذين يلِجون كبريات المدارس والمعاهد الفرنسية يضع بنجرير في المرتبة الثانية بعد باريس.

وإنه لأمر جلل يستحق التصفيق بالشغاف لا باليدين، أن نشهد كيف أصبح يدخل البوليتكنيك والمدرسة العليا وسواهما من الصروح الأكاديمية اللامعة فتيانٌ قدموا من القُرى المنسية والفِجاج العقيمة حفاةً إلا من عقولهم، فأثبتوا للعالم والناس كم هو نافعٌ ذلك المغرب غير النافع.

ولو شئنا أن نُترجم هذا الإنجاز العقلي إلى لغة الجسد، لجاء مباراة نهائية مثيرة بين شباب بنجرير وباري سان جيرمان.

وجديرٌ بالتنويه، أيضًا، أن الطلبة المغاربة الذين يلِجون المدارس الفرنسية، سواء من ليديكس أو غيره من مراكز الأقسام التحضيرية بالمغرب، يستفيدون من مِنح دراسية لمدة ثلاث سنوات، يقدمها المكتب الشريف للفوسفاط، تذليلًا للعقبة الكأداء التي طالما أوقفت العديد من المتفوقين عند سفح المستقبل.

كما هو جديرٌ بالتصفيق المستمر أن طالبًا مغربيا نجح، قبل سنوات فقط، في الولوج إلى البوليتنيك من السنة الأولى للأقسام التحضيرية، وهو أمر ما كان له أن يحدث لولا أنه حدث فعلًا، وإذا قُيض له أن يتكرر مرة أخرى، فليس قبل مرور مذنب هالي مرات عديدة.

ومثل هذا الإنجاز العقلي لا يقبل الترجمة إلى لغة الجسد، إذ كيف نتصور غلامًا في العاشرة من العمر يسجل هدفًا خرافيا في نهائي عصبة الأبطال؟ وقبل أن أغادر ثانوية التميز ببنجرير، أشير إلى أن المغرب طاعنٌ في النبوغ.

ففي سنة 1948، تخرج من بوليتكنيك باريس أول مغربي، وهو رجل الدولة المعروف السيد محمد الدويري.

لم يكن التفوق وحده ما سمح للفتى بذلك، فأقرانٌ له في مجاهيل البلاد، زمانئذ، كانوا لا يقلون عنه ذكاءً، ومع ذلك فقد تخرجوا، من الأقسام التحضيرية للحياة، فقط رعاةً وفلاحين وموظفين صغارًا وحرفيين ومُياومين… ولهذا تحديدًا، يُشكر لرعاة التميز أن عبّدوا أمام أحفاد أولئك طرقًا سيارة نحو أعالي الحياة، التي أين من شِباكها تلك السمكة، سمكة الفوسفاط التي أسالت لعاب الأجداد.

أما جامعة محمد السادس متعددة التخصصات، فقد تم تدشينها سنة 2017 في قلب المدينة الخضراء أيضًا.

وهي مؤسسة مكرسة للبحث والتجريب والابتكار.

لها شراكة مع ألمع الصروح العلمية في فرنسا وأمريكا وكندا.

وسعيًا منها إلى تطوير العديد من المدارس والمعاهد الوطنية، أنشأت في بعض المدن المغربية مختبراتٍ حيةً وفضاءاتٍ تجريبيةً تُمكن المجتمع العلمي من اختبار الحلول المبتكرة في المجالات المستقبلية على أرض الواقع.

الفلاحةُ والبيئة، الموارد المائية والأمن الغذائي، التصنيع المستدام، الحَكامة، التكنولوجيا الحيوية، الطاقات المتجددة، فيزياء التربة، الهندسة البيوطبية… إنما هي فقط بعض العناوين الكبرى للتخصصات الدقيقة والجوهرية التي انبرت لها جامعة محمد السادس ببنجرير.

ولأجل ذلك، هيأت لها بِنيات تحتية لا تقِل في شيء عن مثيلاتها في الجامعات الدولية المرموقة.

ويكفي أن نذكر من ذلك أن مركز الطاقة الخضراء بها تم إنجازه على مساحة 8 هكتارات، وأن بها أكبر مركز بيانات في إفريقيا، يَشْغَل ألفيْ متر مربع من القاعات المجهزة بأحدث التجهيزات المعلوماتية، وهو بِطاقةٍ حسابية تسمح له بإنجاز ثلاثة ملايين مليار عملية في الثانية الواحدة، وبسِعة تخزينية تصل إلى 8 آلاف تيرابايب.

مؤسسة أكاديمية، بهذه التخصصات الدقيقة والبِنيات المتطورة، لا يمكن ولوجها من دون تأشيرة؛ فتأشيرتها هي التفوق الدراسي طبعًا.

ولأن هذا ليس حكرًا على طبقة اجتماعية دون أخرى، فإن أبناء الميسورين يدفعون بالعملة السهلة، تمامًا كما كانوا سيفعلون بالعملة الصعبة لو أنهم اختاروا طلب العلم ولو في الصين.

أما غيرهم، فقد أحدث لهم المكتب الشريف للفوسفاط مِنَحًا دراسية تسمح لهم بمواصلة أحلام اليقظة.

وإذا كانت ليديكس تحقق نتائج مدهشة بأطر مغربية وتلاميذ مغاربة، فإن جامعة محمد السادس اقتضى تعدد تخصصاتها وحداثة بعضها الانفتاحَ على أطر لامعة من مختلف الجنسيات، مثلما اقتضت رؤيتها وتوجهها نحو القارة الأم استقطابَ العقول الإفريقية الفذة لاستكمال الدراسة بها.

وإنه لمن الحكمة حقا أن يدرس أبناؤنا مع أبناء جيراننا في العمارة الإفريقية، فمن شأن ذلك أن يعمق العلاقات بين الأسر، ويفتح الأبواب على بعضها، فيصير لمائدة هذا البيت نصيبٌ من مطبخ ذاك.

ومثلما جرى الحديث في ستينيات القرن الماضي عن حصة كل مغربي من الثروة الوطنية الأولى، جرى الحديث في الثمانينيات منه عن نسبة الأورانيوم في الفوسفاط، فشط خيال بعضهم بعيدًا، فرأوْا المغرب على عتبة نادي الدول النووية، فإذا هو مرهوب الجانب كأي شريف يحمل قنبلة لا مسدسًا فقط.

أما عندي، فحَسْبُ الفوسفاط شرفًا أن يُسمد الحقولَ، فيضاعف الإنتاج ويجعل الأخضر يكتسح القاحل، وأن يسمد العقولَ، فإذا هي أكثر إشعاعًا من الأورانيوم.

فإذا كان النصف المليء من الكأس يروي عطشي، فلماذا أهتم للنصف الفارغ؟ وأما بعد، فإنني أتألم حقا، وأنا أسمع عن مصنع يحترق هناك، وعن معمل يغرق هنالك، وعن حافلات وطنية الصنع تُخرب، وعن طرقاتٍ سيارة تُقطع، وعن خرافاتٍ تسعى، وعن فظائع تُرتكب بالجُملة… وأحسب ذلك كله من الأعراض الجانبية للتفقير والتجهيل؛ لكنني لا أستطيع إخفاء سعادتي الغامرة، ولا أن أمنع جوارحي من التصفيق لمغرب يترصع بالموانئ والمطارات والأسواق الممتازة، ومختبرات الأدوية ووفرة الغذاء والطرق السيارة، وسوى ذلك من معالم الحضارة وآثار النعمة… فهذه الثمار العملاقة ما كان لها أن تَيْنَع لولا أنساغ الثروة والتعليم.

لذلك، أتمنى فقط أن يكون الفوسفاط قاطرةً لغيره من الثروات، فتُنشئ، هي الأخرى، جامعاتٍ ومعاهد بمواصفات دولية، وتصرف مِنَحًا لصغارِ كمال الودغيري ومنصف السلاوي ومريم شديد ورشيد اليزمي وأسماء بوجيبار وحسناء الشناوي ورشيد عمروس وعبد الجبار المنيرة، وسواهم ممن سيشكلون صورتنا أمام العالم في المقبل من السنوات.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 3 سنوات | 34 قراءة)
.