اليساريون.. يفضلون التنمية بنكهة الدمِ والعَرَق

الذين يتحدثون عن إغلاق البلاد في وجه مؤسسات التمويل الدولية، والإعتماد على الإمكانات والوفورات الوطنية لتحقيق النهضة التنموية، يعدوننا بمسار قاسٍ وطويل ودموي، لأن السودان بلد بلا فوائض إقتصادية كبيرة بإمكاناته الرأسمالية المتواضعة الراهنة.

.

فلكي تتحقق النهضة التنموية (زي بيغ بوش) ، من خلال الإقتصار على الإمكانات الوطنية، يلزمنا ان نغلق هذا الشعب الفقير المُتعب لعشرين عاما أخرى يعتمد فيها على الأسودين.

.

التمر والماء.

.

سيموت من أجل ذلك الآلاف من الفقراء والمقهورين الذين ضحوا للتو بمهجهم وبدمائهم لإزالة نظام دمويّ فاسد كيما يفسحوا الطريق لأحلامهم الشريفة، وكيما تشرق الشمس من جديد على بلد يطعم جوعاه ويواسي مرضاه ومقهوريه.

سيموت عشرات الآلاف من الجوعى والمناهضين السياسيبن، الذين حتما سيضيقون ذرعا بالسياسات التقشفية المهلكة، إذ سينعدم لديهم الفرق ما بين الحياة والموت، وانعدام الثقة المتبادل ما بين الحاكم والمحكوم.

.

الذين ينادون بالإنغلاق الكامل كبديل للإعتماد على رأس المال العالمي والمؤسسات الدولية لتحقيق النهضة، يستندون في ذلك على مرائر الإرث البلشفي أيام روسيا القيصرية وما يسندها من الفكر الماركسي الذي فضح منظومة النظام الرأسمالي وعلاقات الإنتاج الصناعية المجحفة التي كانت تنتظم العالم الرأسمالي قبل أكثر من مائة عام.

.

.

يستندون كذلك على تجربة الثورة الثقافية (الماوية) في الصين الشعبية، والتي أغلقت البلاد في وجه العالم الرأسمالي والبلشفي معا، فروسيا التي أصبحت قوة عظمى بعد ثورة السابع عشر من أكتوبر كانت لا تعترف بقيام دولة شيوعية في الصين كدولة لم تنضج فيها الطبقة العاملة بعد، وذلك لعدم إكتمال التحول الإقتصادي من الإقتصاد الفلاحي (الأقريريان) الي الميكنة والتصنيع.

.

لكل ذلك لم يكن بإمكان ماو تسي تونغ انتظار الدعم المادي أو المعنوي من روسيا ولا من العدو الرأسمالي، فقد كان عليه للنهوض بالبلاد إغلاقها بالكامل، وفرض سياسة تقشفية لتحقيق الوفورات اللازمة لإقامة مشاريع البنية التحتية العملاقة والباهظة الكلفة.

.

كان على ماو بعد أن تعاظمت الخسائر الإقتصادية أن يعمل على تطهير الحزب الشيوعي من البلاشفة، وأن يعلن عن الثورة الثقافية بإرسال كل سكان المدن إلى الأرياف لفلاحة الحقول وتعظيم الوفورات الإقتصادية والبدء في عمليات البناء الشاقة والطويلة.

.

.

يذكر مؤرخون وكتاب أن ما يزيد عن عشرين مليونا من الناس قد ماتوا جوعا، أو بسبب القهر السياسي، فقد كان على النظام لتمرير مشروعه المغلق للبناء التضحية بملايين المواطنين المقهوريين والحوعى في الوقت نفسه، الشئ الذي جعل الحزب الشيوعي في بكين، يغضُّ الطرفَ عن إحتفالات العيد الخمسين للثورة الثقافية في الصين.

فبرغم الإنجازات المادية العظيمة التي حققها ماوتسي تونغ، لكن الكلفة الإنسانية كانت بالحجم الذي يجعل إستعادة ذكرى الثورة الثقافية الخمسين شيئا يدعو للخجل.

.

الرأسمالية القُحّة (الميركانتايل) التي عرّتها نظرية فائض القيمة لكارل ماركس في النصف الثاني للقرن التاسع عشر، كنظام لا أخلاقي متوحش لم تعد هناك، فمنذ ذلك تاريخ نشأت منظمة العمل الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان، وأستطاع كينز كسر شوكة الليزيه فير إكونوميكس بالتنظير لإدخال يد الدولة لقمع الجموح الرأسمالي من خلال الفيسكال بوليسي، والتحكم في الإقتصاد النقدي، بما يضمن المصلحة العامة في وجه الرأسمالية الطفيلية.

.

انتظمت الصناديق الإجتماعية أوروبا وأمريكا لتخفيف حدة الفقر وتلطيف فوارق الدخل، أصبح الإجحاف في حقوق العمال واستخدام القاصرين جرائم يفضحها الإعلام وتعاقبها القوانين وفق لوائح حقوق الإنسان.

انتطمت العالم حملات الناشطين لمقاطعة منتجات الأراضي المحتلة، والمنتجات التي يهدر مروجوها البيئة والحياة البرية، وانتشرت قنوات الفير تريد التي تدعم التقسيم العادل للدخل ما بين المنتجين ورأس المال.

إن العالم لم يعد كما كان أيام اندلاع الثورة البلشفية.

إن كثيرا من المياه قد مرت تحت الجسر، وإن كثيرا من النظريات والقناعات القديمة يتحتم على أصحابها أن يقوموا بتحديث قناعاتهم وطرائق تفكيرهم، وأن ينفضوا ما بناه العنكبوت على تلك الايدولوجيات العجوزة الكاسدة.

لا أرغب من خلال ما تقدم أن أنازل إخوتنا اليساريين، ولا أن أقلل من عظمة كشوفات نظرية فائض القيمة لكارل ماركس، كنظرية حللت القيمة وأوضحت العسف في علاقات الإنتاج في النظام الرأسمالي، فأنا على قناعة تامة بسلامة تلك النظرية على مستوى المثال، لكني في نفس الوقت يلزمني أن أفرق بين واقع الأشياء وما بين المثال الذي علينا بالطبع ان نسعى جاهدين في اتجاه تحقيقه، دون أن نتسبب في ذلك السعي بفض عروة الحياة، ودون ان يتحقق المثال بكلفة ومعاناة بشرية عالية تحيل الأحلام إلى كوابيس تفوق الواقع سوءا.

.

ناجي شريف بابكر                                      

السودان      |      المصدر: النيلين    (منذ: 4 سنوات | 39 قراءة)
.