العولمة تواجه خطر فقد السيطرة .. فك الارتباط الاقتصادي يتعاظم في ظل تداعيات كورونا

قبل نحو ثلاثة عقود، كان مصطلح "العولمة" مصطلحا محوريا في الأبحاث والدراسات والندوات والمنتديات ووسائل الإعلام.

لم يختف المصطلح من مجالات البحث والتعليق، وإن تراجعت حدة انتشاره وتداوله، باعتباره بات حقيقة واقعية في عالم اليوم، معززا سطوته الاقتصادية بالتجارة الإلكترونية والتقنيات المالية العابرة للحدود، وبالطبع من خلال الشبكة العنكبوتية وما أحدثته من ثورة حقيقية في تبادل المعرفة والمعلومات.

لكن العولمة لم تتعلق أبدا بالمفهوم في حد ذاته، فأي مطلع على التاريخ، ودون أن يكون مؤرخا أو باحثا أكاديميا، يعلم تمام العلم أن البشر كانوا يتاجرون مع بعضهم بعضا منذ بداية الخليقة، فتجارة التوابل وطريق الحرير وقوافل العرب والمسلمين في العصور الوسطي، وشركة الهند الشرقية في العصر الحديث، كلها تدل على أن التبادل التجاري بين الأقاليم والإمبراطوريات والممالك كان دائما جزءا لا يتجزأ من النشاط الاقتصادي للبشرية.

لكن العولمة في حقيقتها لا ترتبط جوهريا بالمفهوم قدر ارتباطها بالكمية والحجم وسرعة الأداء، حيث إن نهاية الحرب الباردة وشبكة الإنترنت، وسهولة السفر ويسر عقد الصفقات التجارية، وظهور الاقتصادات الناشئة، وبالطبع التقدم التكنولوجي الهائل، عوامل أسهمت في ربط أجزاء الاقتصاد العالمي بشكل غير مسبوق، وسمح بتداخل الاقتصادات الوطنية بطريقة يصعب معها في كثير من الأحيان وضع الحدود الفاصلة بين المنتج المحلي والمستورد.

وخلال العقدين الماضيين كانت العولمة هي القاعدة، ولم يتم التشكيك فيها رسميا من قبل الغالبية العظمى من دول العالم، باختصار عدها الجميع المستقبل، وإحقاقا للحق نجحت في خفض الفقر نسبيا، وأسهمت في ارتفاع المتوسط المتوقع للعمر، وحسنت بشكل ملموس مستويات معيشة ملايين من البشر.

السؤال الآن، هل يضع فيروس كورونا حدا لما أنجزته البشرية في إطار تداخلها وربما تكاملها الاقتصادي في العقود الثلاثة الماضية، هل ستكون جائحة كورونا بداية - ليس بالضرورة لإنهاء العولمة، حيث إن ذلك عمليا غير ممكن - إنما لتقليصها بشكل ملموس، أم أن حجم التداخل العالمي في جميع المجالات وفي مقدمتها الاقتصادية يحول دون فك الارتباط الراهن بين دول العالم؟ البروفيسور براون أبوت أستاذ النظم الاقتصادية الأسبق في جامعة أكسفورد يعد وتيرة التغيير في جميع مناحي الحياة - خاصة في شقها الاقتصادي في العقدين الماضيين - كانت سريعة وعميقة، وقد أوجد ذلك أشكالا متنوعة من الترابط الاقتصادي، تجعل اقتصادا ما يتأثر سلبا، دون حدوث أضرار في عجلته الإنتاجية، ورغم ذلك تصاب قدرته الإنتاجية بالشلل نتيجة إصابة اقتصاد آخر بعطل ما.

ويقول لـ"الاقتصادية"، "إذا أخذنا على سبيل المثال صناعة السيارات في المملكة المتحدة خلال أزمة فيروس كورونا، الصناعة توقفت ليست لأسباب داخلية متعلقة بها، لكن لأن المكونات التي تحصل عليها من جميع أنحاء العالم توقفت، كما أن صناعة السيارات البريطانية تعتمد على الأسواق الخارجية، ومع انهيار تلك الأسواق لم يكن هناك معنى لمواصلة الإنتاج".

ويضيف "من ثم الوضع الاقتصادي في الدول الأخرى شديد الأهمية.

.

نعم للعولمة مخاطرها كما كشف عن ذلك فيروس كورونا، لكن تراجع التجارة العالمية وفك الارتباط الدولي الاقتصادي ستكون اخطارهما أكثر بكثير".

لكن ما تجب الإشارة إليه أن التجارة الدولية باعتبارها عصبا رئيسا في منظومة العولمة الدولية في شقها الاقتصادي، شهدت تراجعا نسبيا مع بروز الحمائية الاقتصادية بوصول الرئيس دونالد ترمب إلى سدة السلطة عام 2016، فجائحة كورونا ربما عززت اتجاها كان آخذا في التنامي في الاقتصاد الدولي بإعادة النظر في العولمة الاقتصادية.

وتعتقد الدكتورة إيبي جارين أستاذة التنمية الاقتصادية في جامعة شيفيلد، أنه منذ مطلع الألفية الحالية، وعدد من الأزمات الدولية كالأزمة المصرفية العالمية عام 2008، وثغرات الشبكة العنكبوتية التي تتيح الفرصة للهجمات السيبرانية، تكشف أن للعولمة ثمنا يجب دفعه، وقيمة هذا الثمن ليست متساوية أو عادلة بالنسبة إلى الجميع.

وتشير الدكتورة إيبي إلى أن العولمة كمفهوم وقيمة اقتصادية ستكون هناك حاجة إلى إعادة النظر في جزء كبير منها، فسلاسل الإمداد تضررت على المستوى الدولي نتيجة وباء كورونا، ولم تكن هناك إمكانية كبية لإيجاد بدائل محلية، بغض النظر عن التكلفة.

وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن أحد أبرز ملامح المرحلة المقبلة إعادة توطين الصناعات والخدمات بقدر الإمكان، والحكومات ستتبنى هذا القرار، لأن هذا يعزز اليقين الاقتصادي لديها، ويمنح نظامك الاقتصادي درجة أعلى من تنوع الموردين".

لكن تلك الخطوة ستعني عمليا أن المستفيد الأكبر منها هو الاقتصادات الرأسمالية عالية التطور، بينما الخاسر الأكبر ستكون الاقتصادات الناشئة والنامية، فعل سبيل المثال تمد الصين المملكة المتحدة بـ70 في المائة من احتياجاتها من دواء بارسيتمول، الذي نصح به الأطباء عند الشعور ببعض أعراض فيروس كورونا كارتفاع درجة الحرارة، ونظرا إلى تراجع الكميات المتاحة منه في الأسواق المحلية في بريطانيا على الأقل في الأيام الأولى لجائحة كورونا، فمن المنطقي أن تتعالى الأصوات بتصنيعه مستقبلا في بريطانيا".

العولمة لا تدور فقط في فلك السلع والخدمات، بل يعد تبادل الأفكار والمعلومات جزءا أصيلا من منظومة العولمة الدولية، ويمكن أن تؤدي عملية نقل الصناعات وإعادة توطينها في الاقتصادات المتقدمة إلى ردود فعل سلبية في جوانب أخرى، ترتبط بمزيد من الانغلاق الفكري عالميا، هذا الانغلاق قد يترك بصمات سلبية على الجميع.

فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعترف بأن العولمة تواجه أزمة كبيرة، ذلك في إشارة إلى عودة الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي، علاوة على العلاقة بدول العالم الأخرى، ويتوقع أن يتقلص عدد الطلاب الأجانب الراغبين في الدراسة في الجامعات الغربية، الذين يمثلون مصدرا رئيسا للدخل لتلك الصروح التعليمية.

ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال تبلغ مساهمة الطلاب الأجانب في الاقتصاد الوطني نحو 25 مليار جنيه استرليني.

ربما تكون القناعة السائدة بين عدد كبير من الخبراء حول مستقبل العولمة في عالم ما بعد فيروس كورنا، أنها ستظل قائمة لكن بوتيرة أضعف وأكثر بطئا، ما يتجلى في الوقت الراهن في سلسلة الحظر الوطني لتصدير الإمدادات الطبية.

بيد أن الشكل النهائي للمنظومة الاقتصادية العالمية في المرحلة المقبلة لا يزال محل خلاف، فهل سينحاز العالم إلى وضعية ما بعد الحرب العالمية الأولى أم سيفضل ما ساد في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ظهرت منظمات دولية ضعيفة كعصبة الأمم، وتنامى صعود الفكر القومي كألمانيا في ظل النازية وإيطاليا في زمن الفاشية، وتبنى العالم نهجا من الحمائية الاقتصادية، أسفر في نهاية المطاف عن الأزمة الاقتصادية في ثلاثينيات القرن المنصرم، أما في أعقاب الحرب العالمية الثانية فقد هيمن مناخ من التعاون الدولي تمثل في نظام بريتون وودز وخطة مارشال الأمريكية للنهوض بأوروبا والاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة.

الدكتور فالكون وايت أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة كامبريدج يرى أن خيار ما بعد الحرب العالمية الثانية سيظل قائما حتى إن انتكست العولمة "قليلا"، مشيرا إلى أن جائحة كورونا منحت خصوم العولمة ذخيرة إضافية تمكنهم من مواصلة الهجوم.

ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن ميكنزمات العمل الاقتصادي الدولي المعتمد على التداخل والترابط الجماعي تطورت بشكل يعني أن قطعها يمثل خسائر ضخمة للغاية، فالعولمة ستتواصل لأنها تعني ببساطة النمو الاقتصادي، وعلى البشرية أن تختار بين سيناريوهين، الأول أن تتواصل العولمة، لكن مع تغير في القيادة، وأن تميل الدفة إلى مصلحة الصين، وتتراجع واشنطن نسبيا خاصة مع تبنيها الحمائية الاقتصادية، وسعيها إلى إعادة توطين الصناعات".

ويضيف "أما السيناريو الثاني فإنه سيشهد تواصل العولمة بقوة الدفع الذاتي، فالولايات المتحدة لا تستطيع مواصلة قيادة المجتمع الدولي، والصين في المقابل لم تؤهل بعد لتولي هذا الدور، وأوروبا غائبة عن المشهد، بعد أن كشفت جائحة كورونا حجم الصراعات الداخلية، مع هذا يظل السيناريو الثاني أفضل نسبيا للعولمة والاقتصاد الدولي، لأنه سيتضمن حدا أدنى من التعاون الاقتصادي، وسيحافظ على الزخم العام للنمو الاقتصادي".

السعودية      |      المصدر: الاقتصادية    (منذ: 4 سنوات | 5 قراءة)
.