كُمُونٌ إلى حين!

كُمُونٌ إلى حين!

كُمُونٌ إلى حين! الخميس 21 نوفمبر 2019 08:07 م "‏من حُلْم إلى حُلْمٍ أَطيرُ وليس لي هَدَفٌ أَخيرٌ" .

.

محمود درويش   إليكم أنتم أرسل هذه الكلمات، إليك أنت بالذات أتحدث متغابياً لا متناسياً كل ما يدور من فوضى وعبث في بلد كنا نظن لسنين أنه قصيٌ وبعيد، لكن الأوغاد تداعوا إليه غير أبهين بإنسانه الكريم الذي حافظ عليه كما يحافظ المرء على عينيه من كل ما يمكن أن يفسدهما، إذا كان هناك مدارس خالدة للإنسانية فاليمن ستكون في مقدمتها، وإن كان لابد من الحفاظ على ما تبقى من قيم الأرض والإنسان فاليمن تستحق بجدارة إهتمام البشرية.

.

  دعني أتحدث إليك كما أتحدث إلى روحي، وليكن بساطنا أحمدي كما يقولون، ماذا عنك وأنت تتلظى بنيران فشل الدولة وتوقع سقوطها في العشر الأولى من الألفية الثانية، وتشتعل روحك بكل النيران العدوة والصديقة بعد أن خرجتَ تُطالب بحقك في دولة المواطنة المدنية في بداية العشر الثانية من نفس الألفية، بعد أن وقفت الدنيا ضدك وضد حلمك يا صديقي، أعرف أن الذكريات عموماً والنوستالجيا خصوصاً مُوجعة، لكن هذا الحنين إلى الذكريات لم يعد منه فائدة تُذكر، الفائدة بالنسبة لك كما أراها أنا تتمثل في الحفاظ على الأصول ولا أصل أهم منك ومن إنسانيتك وكل قيمك العليا، وكما يقول أهل الحكمة عندنا: " الحفاظ على الأصول ولا المحصول" هذا في الأوضاع الطبيعية أما في الأوضاع الاستثنائية حيث لا محصول فقد لزم حفظ الأصول بلا نقاش.

  من حافظوا على اليمن في هيئتها هذه منذ بدء الخليقة إلى اليوم سيكونوا قادرين على البقاء وحفظ اليمن على الرغم من كل الظروف المحيطة، في الطبيعة اليمنية يوجد الكثير من الأمثلة على الحفاظ على البقاء من الأشجار الراسخة إلى اللغة القديمة حفظاً ونطقاً وكتابة، بالإضافة للاحتفاظ باللكنات المحلية القديمة بعد تطور اللغة، الذهاب نحو المحافظات والمناطق الشرقية لليمن يخبرنا كيف استطاع الإنسان اليمني قهر الظروف وحافظ على البيئة وتنوعها والآثار القديمة وجمالها إلى أن أتت قطعان الهمج لتسرقها وتبيعها، يحافظ الجمل ابن هذه البيئة على الماء لأشهر في سنامه، وكذلك يحافظ الوعل السبئي على الماء في شحم سنامه ليصمد في مواسم الجفاف وفي قمم الجبال الشواهق، وفي الحقيقة هناك أمثلة كثيرة في كل الأرض وليس في اليمن وحدها للحفاظ على الذات وقهر الظروف القاسية، تجد أسماك في بحيرات أفريقيا حين توقن بخطر الجفاف و تبخر البحيرة تقاوم الموت الحتمي بابتلاع الطمي المشبع بالماء في جوفها ثم تحفر في قعر البحيرة لتعيش كحوصلة ساكنة في انتظار موسم المطر القادم، ومثلها ضفادع يخاصرها الجفاف في صحراء  أستراليا تحتفظ بالماء تحت جلدها لسنوات منتظرة الغيث .

  يبدو أنك تفهمني يا أخي، لا وطن بدون مواطن وحيثما يكون المواطن يكون الوطن حياً نابضاً، والمواطن هو حامل قضيته ومورثها لعقبه، فماذا يفعل المواطن في مثل هذه الحالة التي تمر بها البلد؟ عليه أن يقاوم بكل ما أُوتي من قوة وصبر وعزيمة وحكمة، ومن القوة والحكمة حماية الذات اليمنية تلك الذات المحفوظة في كل مواطن أينما حل أو أرتحل، وهذا الإنسان المحافظ على نبض قلبه يمنياً هو المواطن المقصود في هذه الأسطر، وهو رأسمال البلد، قد يضعف دوره في الحاضر لكنه وحده من سيصنع المستقبل، فالحاضر واللحظة التي قد تكون غير مواتية ليست نهاية العالم بل مجرد مرحلة زائلة.

  أتحدث إليك أنت يا أكثر من أخي  أينما كنت، وليكن حديثنا عاطفياً فالعاطفة صفة بشرية جوهرية يكذب من يدعي أنه قد تحول إلى آلة مبرمجة وعقل بلا قلب.

   لنتحدث وأنت تعيش في صنعاء حيث الظلمات بعضها فوق بعض، أنت أفضل ممن غادروا بلا استثناء، وأنت تعيش اليوم في مأرب والجوف فأنت ابن هذه الأرض بلا منازع وها أنت تعيد تأهيلها لما كانت عليه من مدنية وحضارة قبل هجرتك عنها قبل عصور.

وأنت تعيش في تعز فأنت هنا تقاوم همج الهاشمية السياسية بالمواجهة المباشرة وبالثبات والبقاء دون منح العدو حق تهجيرك من أرضك، كما أنك تقاوم همج الفساد والنهب والقروية وغياب الوعي والأمن.

وأنت تعيش اليوم في عدن  قد واجهت الهاشمية السياسية وواجهت من أتوا بعدها ليجعلوك عبداً لقرويتهم البدائية وجربوعاً مثلهم عند أسيادهم من عرب الصحراء.

وأنت تعيش اليوم في المهرة وسقطرى فأنت لا تمثل محافظتك أو ناحيتك بل تمثل الأمة اليمنية وتربط بين ماضيها ومستقبلها رغم كل ما تعرضت له اليوم والأمس من خذلان.

   أيها اليمني في صعدة وحجة والمحويت وتهامة واب وحضرموت وأنت تقاوم شظف العيش يا أخي وتقاوم الفقر والمرض ودواب الأرض وبائعي الضمير والوهم ومتمسك بيمنيتك فأنت اليمني بكل ما تحمله الكلمة من معاني وما تُوحي به من قُدسية وسمو.

  وليس ببعيد - رغم المسافات - أنت أيها المشرد خارج الديار أينما كنت فليس أمامك سوى الحفاظ على هويتك وذاتك وتجسيد بلدك بكل تنوعها تاركاً قريتك ومدينتك وعزلتك وكل مسمياتك الصغيرة لتحمل اسم اليمن فقط، فأنت مسؤول عن حراسة القيم اليمانية ذات الأبعاد الحضارية والثقافية والإنسانية السامية.

.

أنت من اليمن ويعنيك كل ما هو يمني، لذا أنت في مرحلة مقاومة مستمرة، بدءً من الحفاظ على الذات وانتهاءً بالحفاظ على الهوية.

  كل ما يدور في البلد قد حد من فاعلية المواطن المتناغم مع بلده، ولكي لا يشعر المواطن بالقهر أكثر أو الضيم وتذهب بنفسه الحسرات عليه أن يدرك أنه أمام مرحلة بالغة التعقيد فيها متناقضات مضاعفة ، لذا لابد من التركيز على الحفاظ على ذاته والمقاومة معاً! وكيف ذاك؟ بالكُمُون الواعي.

والكُمون ليس هروبا وإنما هو فعل مُقاوم في أساسه، واستعداد وتجهيز لما هو أت.

  مرحلة الكمون يمر بها الإنسان في صباه قبل مرحلة البلوغ حيث تتوقف لديه الصراعات الجديدة ويبدأ فيها بالتمييز والدخول في مرحلة الوعي، يحتاج الإنسان لهذا الكمون في مرحلة نضجة حتى يحافظ على ذاته من الصراعات والحروب التي ليست حروبه ولا تعنيه سوى أحزانها.

  ستجد يا صديقي - وأخي وأكثر من أخي - الكمون المناسب لك، وإياك أن تفهم أني أدعوك للهروب و الأنكفاء بل أحثك على بناء ذاتك و ترميم نفسك والمضي قُدماً نحو المستقبل بكل جد، إذا كان الحاضر نأي بنفسه عنك لأسباب قاهرة، فحاصره بالذهاب نحو المستقبل ببناء الذات.

   وإليكم أنتم يا أجزاء قلبي المتناثرة في كل مكان من الأرض .

.

لا تجعلوا للحزن منزلاً في قلوبكم الطاهرة ، فحتماً سيجمعنا قدرنا في أرضنا يوماً ما.

.

فاسمحوا لي أن أوصيكم بالكفاح أكثر ؛ غيروا مهنكم، بيعوا أقفال في "شوارع باكستان" فقد فعلها أب لكم من قبل، واستعدوا بكل أدوات ووسائل العصر الحديثة، كونوا فرقكم المتخصصة، منظماتكم، تجارتكم، قوموا بإنشاء مشاريعكم الخاصة، جربوا التجارة، فالتحول من مناضلين فقراء إلى مستثمرين مستنيرين هو أساس ولب المقاومة، ومرحلة بناء الذات القادرة على العطاء والإنتاج هي من أهم المراحل ذات اابعد التغييري على مر التاريخ، فلا تربطوا أقداركم بأقدار غيركم، ليس شرطاً أن تشبهوا أي جيل ولا أي جماعة في التاريخ، اصنعوا الشكل الذي يليق بكم، سواء أكنتم مستضعفين على الهامش في الداخل أو مشردين علي باب الله في الخارج، حافظوا على هويتكم اليمنية .

.

على قيمكم النبيلة.

.

على مكتسباتكم الحضارية .

.

على تسامحكم الديني، وتخلوا عن العفن المذهبي والطائفي والجهوي فاليمن أرض الحضارات والديانات كلها من عهد  النبي هود إلى عهد الرسول محمد، اليمن ليست حكراً على ثقافة إقصائية أو طائفية أو قروية جهوية أو عرقية، احملوا اليمن العظيمة في قلوبكم، جسدوا اليمن التي تحلمون بها على هيئة قيم تعيشونها وسلوكاً يومياً تمارسونه فيما بينكم ومع الآخرين، دعوا العالم يتعرف على اليمن من خلالكم .

.

من خلال سلوكياتكم، كونوا مثقفين فالثقافة سلوك في أرقى تعريف لها، كما أن الكذب والتزوير والغش وعدم احترام المواعيد والقوانين والمواثيق والعهود والعقود وتفكك الأسر كلها أمور مخزيات ومن نتاج الحروب التي بواسطتها يخرجون بها أسوأ مافيكم، أعداءكم يريدونكم بهذا الشكل الوضيع فدافعوا عن إنسانيتكم بكل ما أوتيتم من عزم.

    "قطفـوا الزهرة.

.

قالت من ورائي برعم سوف يثور قطعوا البرعم.

.

قال غيره ينبض في رحــم الجذور قلعوا الجذر من التربة.

.

قال إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور" (من قصيدة أثيرة لأحمد مطر).

اليمن      |      المصدر: الصحوة نت    (منذ: 4 سنوات | 12 قراءة)
.