صحافتي

كيف تؤثر الميكروبات التي تعيش في السُحب على حياتنا

صحافتي بتاريخ: 04-07-2025 | 12 ساعات مضت

كيف تؤثر الميكروبات التي تعيش في السُحب على حياتنا

صدر الصورة، Getty Images

    • Author, كارل زيمر
    • Role,

تجوب تريليونات من البكتيريا والفطريات والفيروسات والكائنات وحيدة الخلية، أعالي الغلاف الجوي للكرة الأرضية.

والعلماء في طور اكتشاف أنها تؤثر بشكل كبير في الطقس، وحتى على صحتنا.

السحب رفيقتنا الدائمة خلال حياتنا. تطفو فوقنا أحياناً على شكل خيوط رفيعة. وفي أيام أخرى، تُظلم السماء وتُسقط علينا المطر.

ولكن، وعلى الرغم من معرفتنا بهذه الأغطية التي تتشكل من بخار الماء، إلا أنها تُخفي عنا سراً.

  • للاستمتاع بمعلومات شيقة ومفيدة حول صحتك، انضم إلى قناتنا على واتساب ().

فالسحب في الحقيقة، جزر عائمة من الحياة، إذ هي موطن لتريليونات الكائنات الحية من آلاف الأنواع.

الأكثر قراءة

الأكثر قراءة نهاية

إذ يجوب الهواء إلى جانب الطيور واليعسوب وبذور الهندباء، محيط شاسع من الكائنات الحية الدقيقة (الميكروبات)، أي الأحياء التي لا تُرى بالعين المجردة.

كان الكيميائي الفرنسي لويس باستور، من أوائل العلماء الذين تعرفوا على ما يُطلق عليه العلماء اليوم اسم "الأيروبيوم" عام 1860.

تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي

اضغط هنا

يستحق الانتباه نهاية

ويشير مصطلح "الأيروبيوم" إلى مجموعة الكائنات الحية الدقيقة، بما في ذلك البكتيريا والفطريات والميكروبات الأخرى، التي تعيش في الغلاف الجوي للأرض.

رفع باستور في الهواء، قوارير معقمة مليئة بمرق ( حساء) اللحوم الصافي، وسمح للجراثيم العائمة بالاستقرار فيها، ما جعل المرق الصافي عكراً.

التقط باستور الجراثيم في شوارع باريس، وفي الريف الفرنسي، وحتى على قمة نهر جليدي في جبال الألب. لكن معاصريه رفضوا فكرته. وقال أحد الصحفيين لباستيور آنذاك: "العالم الذي ترغب في أن تأخذنا إليه خيالي للغاية".

استغرق الأمر عقوداً حتى يتقبل الناس حقيقة وجود هذه الكائنات الحية التي تعيش في البيئة الهوائية.

في ثلاثينيات القرن العشرين، حلق بعض العلماء في السماء بالطائرات، حاملين شرائح وأطباق بتري - وهي أطباق دائرية شفافة ذات غطاء مسطح، تستخدم لزراعة الكائنات الحية الدقيقة في المختبرات الطبية - لالتقاط جراثيم فطرية وبكتيريا تعيش في الهواء.

كما أطلقت رحلات بالمناطيد إلى الغلاف الجوي العلوي (الستراتوسفير) لالتقاط الخلايا أيضاً.

اليوم، في القرن الحادي والعشرين، ينشر علماء الأحياء الهوائية أجهزة متطورة لجمع عينات الهواء على طائرات بدون طيار.

كما يستخدمون تقنية تسلسل الحمض النووي لتحديد الكائنات الحية المحمولة جواً من خلال جيناتها.

ويُدرك الباحثون الآن أنّ البيئة الهوائية هي موطن هائل يعج بالزوار من الكائنات الحية.

يأتي هؤلاء الزوار من معظم أسطح كوكب الأرض.

في كل مرة تتحطم فيها موجة في المحيط، تُقذف قطرات دقيقة من مياه البحر في الهواء، ويكون بعضها يحمل فيروسات وبكتيريا وطحالب وكائنات حية وحيدة الخلية أخرى.

وبينما تسقط بعض هذه القطرات بسرعة عائدةً إلى المحيط، تلتقط الرياح بعضها الآخر وترتفع إلى السماء، حيث يمكن أن تحملها لآلاف الأميال.

على اليابسة، يمكن للرياح أن تجرف الأرض، حاملةً البكتيريا والفطريات والكائنات الحية الأخرى.

وفي كل صباح، عندما تشرق الشمس وتتبخر المياه في الهواء، يمكن أن تطلق أيضاً كائنات دقيقة.

كما تُولّد حرائق الغابات، تيارات هوائية صاعدة عنيفة قادرة على امتصاص الميكروبات من الأرض ومن جذوع الأشجار وأوراقها، حاملةً إياها إلى الأعلى مع الدخان المتصاعد.

ولا تنتظر العديد من أنواع الكائنات الحية القوى الفيزيائية لإطلاقها في الهواء.

فالطحالب، على سبيل المثال، تُنبت ساقاً تحمل في طرفها كيساً من الأبواغ (خلية تكاثر لا جنسي في علم النبات)، تُطلقه كنفحات من الدخان في الهواء.

وقد يسقط ما يصل إلى ستة ملايين من الأبواغ الطحلبية على متر مربع واحد من المستنقع خلال صيف واحد.

إذ تتكاثر العديد من أنواع النباتات عبر إطلاق مليارات حبوب اللقاح جواً خلال كل ربيع.

وتتميز الفطريات بمهارة خاصة في الطيران.

فقد طورت مدافع بيولوجية ووسائل أخرى لإطلاق أبواغها في الهواء، كما أن أبواغها مُجهزة بأصداف متينة وتكيفات أخرى لتحمل الظروف القاسية التي تواجهها أثناء سفرها عالياً حتى طبقة الستراتوسفير.

وقد عُثر على فطريات على ارتفاع يصل إلى 12 ميلاً (20 كيلومتراً)، فوق مياه المحيط الهادئ المفتوحة، وهي محمولة على الرياح.

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، تُطلق الطحالب أعداداً هائلة من الأبواغ في الهواء من كبسولات في نهايات سيقانها

ويُقدّر عدد الخلايا البكتيرية التي تصعد كل عام من اليابسة والبحر إلى السماء، بحوالي تريليون تريليون خلية.

كما يُقدّر أن 50 مليون طن من أبواغ الفطريات تُحمل جواً في المدة الزمنية نفسها.

وتصعد أعداد لا تُحصى من الفيروسات والأشنات والطحالب وغيرها من أشكال الحياة المجهرية إلى الهواء.

ومن الشائع أن تسافر لأيام في الهواء قبل الهبوط، وخلال هذه الفترة يُمكن أن تُحلّق لمئات أو آلاف الأميال.

وخلال هذه الرحلة، قد يطير كائن حي إلى منطقة من الهواء حيث يتكثف بخار الماء على شكل قطرات.

وسرعان ما يجد هذا الكائن نفسه مُغلفاً بإحدى تلك القطرات، وقد تحمله التيارات الصاعدة إلى عمق أكبر داخل كتلة الماء. فيدخل عندئذٍ قلب سحابة.

وقد جاء الكثير ممّا تعلمه العلماء عن الحياة في السحب، من قمة جبل في فرنسا يُسمى بوي دو دوم.

إذ تشكلت هذه القمة قبل حوالي 11 ألف عام، عندما اصطدمت كتلة من الصهارة - المادة السائلة أو شبه السائلة الساخنة أسفل أو داخل قشرة الأرض تتكون منها الحمم البركانية والصخور النارية الأخرى عند التبريد - بتلال متموجة وسط فرنسا، مكونةً بركاناً تفجرت منه الحمم البركانية قبل أن يخمد بعد بضع مئات من السنين.

وعلى مدار العشرين عاماً الماضية تقريباً، زُوِّدت محطة أرصاد جوية على قمة بوي دو دوم بأجهزة أخذ عينات من الهواء.

ويرتفع الجبل عالياً لدرجة أنّ السحب تغطي قمته بانتظام، ما يسمح للعلماء بالتقاط بعض الكائنات الحية من عليها.

وكشفت دراسات أجراها بيير أماتو، عالم الأحياء الهوائية في جامعة كليرمون أوفيرنيو الفرنسية القريبة من المنطقة، أن كل مليمتر من مياه السحابة التي تطفو فوق بوي دو دوم، يحتوي على ما يصل إلى 100,000 خلية. وقد كشف حمضها النووي أنّ بعضها ينتمي إلى أنواع مألوفة، لكن الكثير منها جديد على العلم.

ويشعر العلماء الذين يستخدمون الحمض النووي لتحديد نوع هذه الكائنات، بالقلق الدائم بشأن إمكانية تلوث العينات، وأماتو ليس استثناءً.

فعلى سبيل المثال، قد يحلق صقرٌ فوق أنابيب أماتو على بوي دو دوم وينفض الميكروبات عن ريشه.

وفي مختبر أماتو أيضاً، قد يزفر طالب دراسات عليا وهو يعاين العينات، بعض الجراثيم في أنبوب الاختبار.

وعلى مر السنين، رفض أماتو الاعتراف بآلاف الأنواع المحتملة، مشتبهاً بأن يكون هو أو طلابه قد لطخوا المعدات بميكروبات جلدية عن غير قصد.

إلا أنّهم أعلنوا بثقة عن اكتشافهم أكثر من 28,000 نوع من البكتيريا في السحب، وأكثر من 2,600 نوع من الفطريات.

ويشتبه أماتو وعلماء آخرون يدرسون السحب، في أنها قد تكون أماكن مثالية لبقاء البكتيريا على قيد الحياة - على الأقل لبعض الأنواع منها.

وكتب أماتو وفريق من زملائه عام 2017: "السحب بيئات مفتوحة للجميع (جميع الأنواع)، ولكن بعضها فقط هو الذي يزدهر فيها".

في السًحب، يعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصاً داخل قطرته الخاصة من المياه.

تعتبر السحابة بالنسبة للبكتيريا، عالماً غريباً جداً، يختلف اختلافاً جذرياً عن بيئاتها التي تعيش فيها عادةً على اليابسة أو في البحر.

إذ عادةً ما تتجمع البكتيريا في مجموعات.

وفي الأنهار، قد تنمو لتشكل حصائر ميكروبية. وفي أمعائنا، تُشكل أغشية كثيفة.

أمّا في السحب، فيعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصراً داخل قطرة ماء خاصة به.

وتعني هذه العزلة، أنّ بكتيريا السحابة لا تضطر للتنافس مع بعضها البعض على الموارد المحدودة. لكن في الوقت نفسه، لا تملك قطرة الماء مساحة كافية لحمل العناصر الغذائية التي تحتاجها الميكروبات للنمو.

ومع ذلك، وجد أماتو وزملاؤه أدلة على أنّ بعض الميكروبات يمكنها بالفعل النمو في السحب. ففي إحدى الدراسات، قارن الباحثون العينات التي جمعوها من السحب في بوي دو دوم، بعينات أخرى جمعوها من الجبل في أيام صافية.

وبحث الباحثون عن أدلة على نشاطها، عبر مقارنة كمية الحمض النووي في عيناتهم بكمية الحمض النووي الريبوزي (RNA).

إذ تُنتج الخلايا النشطة والنامية، نسخاً كثيرة من الحمض النووي الريبوزي من حمضها النووي بهدف إنتاج البروتينات.

ووجد الباحثون أن نسبة الحمض النووي DNA إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA)، كانت أعلى بعدة مرات في السحب منها في الهواء النقي، وهو دليل قوي على ازدهار الخلايا في السحب. كما وجدوا أن البكتيريا الموجودة في السحب تُفعّل الجينات الأساسية لاستقلاب الغذاء والنمو.

ولفهم كيفية ازدهار هذه البكتيريا في السحب، قام الباحثون بتربية بعض الأنواع التي التقطوها في مختبرهم، ثمّ وضعوها في غرف محاكاة للغلاف الجوي.

ويستخدم أحد أنواع الميكروبات، المعروف باسم ميثيلوباكتيريوم، طاقة ضوء الشمس لتحليل الكربون العضوي داخل قطرات المياه في السحب.

وبعبارة أخرى، تأكل هذه البكتيريا السحب. وبحسب أحد التقديرات، تكسر ميكروبات السحب مليون طن من الكربون العضوي في جميع أنحاء العالم سنوياً.

وتشير نتائج كهذه إلى أن هذه الكائنات التي تعيش في الهواء قوةٌ لا يستهان بها، إذ تؤثر تأثيراً بالغاً على كيمياء الغلاف الجوي. بل إنها تغيّر حالة الطقس.

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، لا تعيش البكتيريا والميكروبات الأخرى في السحب فحسب، بل تلعب دوراً في تكوينها أيضاُ

وعندما تتشكل السحابة، تُنشئ تيارات هوائية صاعدة ترفع الهواء المحمّل بالماء إلى ارتفاعات عالية تكون باردةً بما يكفي لتحويل الماء إلى جليد. ثم يتساقط الجليد مجدداً. وإذا كان الهواء القريب من الأرض بارداً، فقد يهبط على شكل ثلج. وإذا كان دافئاً، فيتحول إلى مطر.

وقد يكون من الصعب بشكل ملفت تكوّن الجليد في سحابة شديدة البرودة. حتى في درجات حرارة أقل بكثير من نقطة التجمد، يمكن لجزيئات الماء أن تبقى سائلة.

ومع ذلك، فإنّ إحدى طرق تحفيز تكوّن الجليد هي منحها بذرةً من الشوائب.

فعندما تلتصق جزيئات الماء بسطح الجسيم، فإنها تترابط مع بعضها البعض، في عملية تُعرف باسم التنوي. ثمّ تلتصق بها جزيئات ماء أخرى وتتجمع في بنية بلورية (تشبه الكريستال)، والتي عندما تصبح ثقيلة بما يكفي، ستسقط من السماء.

وقد اتضح أن الجزيئات البيولوجية وجدران الخلايا بارعةٌ للغاية في تحفيز هطول المطر. فالفطريات والطحالب وحبوب اللقاح والأشنات والبكتيريا، وحتى الفيروسات، قادرةٌ على تكوين الجليد في السحب.

من الممكن أيضاً أن تكون السحب والحياة مرتبطتان في دورةٍ وثيقة، لا تقتصر على العيش والتهام السحب فقط، بل تُساعدها أصلاً على التشكل.

وتُعدّ بكتيريا الزائفة الزنجارية (Pseudomonas) من أفضل مُنتجات المطر.

ولا يعلم العلماء سبب براعة هذه البكتيريا تحديداً في تكوين الجليد في السحب، ولكن قد يكون ذلك مرتبطاً بطريقة نموها على الأوراق.

فعندما يهطل مطرٌ بارد على ورقة، قد تُساعد الزائفة الزنجارية الماء السائل على التحول إلى جليد عند درجات حرارة أعلى من المعتاد. وعندما تفتح شقوق الجليد الأوراق، يُمكن للبكتيريا أن تتغذى على العناصر الغذائية الموجودة بداخلها.

حتى أنّ بعض العلماء تكهّنوا بأنّ النباتات ترحب ببكتيريا مثل الزائفة الزنجارية، على الرغم من الضرر الذي تُسببه.

وعندما تزيل الرياح البكتيريا عن النباتات وتدفعها في الهواء، ترتفع لتصل إلى السُحب في السماء. وتُمطر السحب المُلقحة بالزائفة الزنجارية المزيد من المطر على النباتات تحتها.

وتستخدم النباتات مياه هذه الأمطار لإنتاج المزيد من الأوراق، وتنمي هذه الأوراق المزيد من البكتيريا، التي ترتفع بدورها إلى السماء وتُحفز السحب لإنتاج المزيد من الأمطار لتغذية الحياة في الأسفل.

وإذا ثبتت صحة هذا التكهن، فسيكون ذلك تكافلاً مهيباً في علم الأحياء، يربط الغابات بالسماء.

كما تُثير الأبحاث حول الحياة في السحب، احتمال وجود كائنات حية محمولة جواً على كواكب أخرى - حتى تلك التي قد تبدو أسوأ الأماكن للحياة.

فكوكب الزهرة، على سبيل المثال، يتمتع بدرجة حرارة سطحية عالية بما يكفي لإذابة الرصاص. لكنّ السحب التي تُغطي الزهرة أبرد بكثير، وربما تكون مناسبة لاستمرار الحياة.

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، توجد بكتيريا الزائفة الزنجارية بشكل شائع في التربة وعلى النباتات، ولكنها قد تتكيف بشكل خاص كبذور لتكوين الجليد

وقد تكهنت سارة سيغر، عالمة الأحياء الفلكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بأنّ الحياة ربما نشأت على سطح كوكب الزهرة في وقت مبكر من تاريخه، عندما كان أكثر برودة ورطوبة.

ومع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، ربما وجدت بعض الميكروبات ملجأً لها في السحب. وتقول إنه بدلاً من أن تغرق عائدةً إلى السطح، ربما طفت صعوداً وهبوطاً في الغلاف الجوي، راكبةً التيارات الهوائية لملايين السنين.

إن التفكير في بيئة "سيغر" الهوائية الغريبة يمكن أن يجعل تأمل السحب أكثر متعة.

ولكن عندما ننظر إلى السحب، فإننا ننظر أيضاً إلى تأثيرنا على العالم، بحسب ما كشفته أبحاث أماتو.

وعندما قام أماتو وزملاؤه بمسح الجينات في الميكروبات التي يلتقطونها، وجدوا أنّ عدداً كبيراً من هذه الجينات يمنح البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

أمّا على الأرض، فقد حفزنا نحن البشر التطور الواسع النطاق لهذه الجينات المقاومة.

فعبر تناولنا كميات زائدة من البنسلين والأدوية الأخرى لمكافحة العدوى، قمنا بتقوية طفرات يمكنها مقاومة هذه المضادات.

وما يزيد الطين بلة، أنّ المزارعين يُطعمون الدجاج والخنازير وغيرها من الماشية المضادات الحيوية كي تنمو إلى أحجام أكبر.

وفي عام 2014 وحده، توفي 700 ألف شخص حول العالم بسبب عدوى بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

وبعد خمس سنوات، ارتفع العدد إلى 1.27 مليون.

وتتطور مقاومة المضادات الحيوية داخل أجسام البشر والحيوانات التي يأكلونها.

ثم تهرب البكتيريا المُكتسبة لهذه المقاومة من حاضناتها وتشق طريقها عبر البيئة - إلى التربة، وإلى مجاري المياه، بل وحتى إلى الهواء.

وقد وجد الباحثون مستويات عالية من هذه الجينات المقاومة في البكتيريا التي تطفو في المستشفيات وحول مزارع الخنازير.

صدر الصورة، Getty Images

التعليق على الصورة، يمكن للرياح أن تحمل الغبار والميكروبات لمسافات تصل إلى مئات، وأحياناً آلاف الأميال

لكنّ جينات البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية يمكن أن تنتشر جواً لمسافات أبعد بكثير.

فقد فحص فريق دولي من العلماء، فلاتر مكيفات هواء السيارات في تسع عشرة مدينة حول العالم.

ووجدوا أنّ هذه الفلاتر قد التقطت تنوعاً غنياً من البكتيريا المقاومة. بمعنى آخر، يبدو أنّ جينات المقاومة تطفو عبر المدن.

وفي السنوات الأخيرة، رصد أماتو وزملاؤه رحلات أطول لهذه الجينات.

ففي مسحٍ أُجري عام 2023 للسحب، أفاد الباحثون بالعثور على بكتيريا تحمل 29 نوعاً مختلفاً من جينات المقاومة للمضادات الحيوية فيها.

وقد تحمل بكتيريا واحدة محمولة في الهواء، ما يصل إلى تسعة جينات مقاومة، كل منها يوفر دفاعاً مختلفاً ضد الأدوية.

وقدّر الباحثون أنّ كل متر مكعب من سحابة واحدة، يحتوي على ما يصل إلى 10 ألف جين مقاوم للمضادات الحيوية.

وقد تحتوي سحابة عادية تطفو فوق رؤوسنا على أكثر من تريليون جين منها.

ويعتقد أماتو وزملاؤه أنّ السحب تحتوي على هذا العدد الكبير من جينات المقاومة لأنها تساعد البكتيريا على البقاء على قيد الحياة.

وتُوفر بعض الجينات، مقاومة للمضادات الحيوية، من خلال السماح للبكتيريا بضخ الأدوية خارج أنسجتها بسرعة، والتخلص منها قبل أن تُسبب لها ضرراً.

وقد يدفع ضغط الحياة في السحابة، البكتيريا إلى إنتاج نفايات سامة تحتاج إلى ضخها الى خارج أنسجتها بسرعة أيضاً.

وقد تتمكن السحب من نشر جينات المقاومة للمضادات الحيوية هذه إلى أبعد من اللحوم والمياه الملوثة.

فبمجرد دخول البكتيريا إلى السحابة، يمكنها السفر مئات الأميال في غضون أيام، قبل أن تُنثر قطرات المطر وتسقط عائدةً إلى الأرض.

وعندما تصل هذه الميكروبات إلى الأرض، قد تنقل جيناتها المقاومة إلى ميكروبات أخرى تصادفها في بيئتها الجديدة.

ويقدر أماتو وزملاؤه أن 2.2 تريليون تريليون جين مقاوم للمضادات الحيوية يتساقط من الغيوم سنوياً.

سيكون تذكر هذه المعلومة صادماً لنا أثناء تنزهنا تحت المطر. فنحن نسير وسط سيل من الحمض النووي الذي صنعناه بأنفسنا.

كارل زيمر

كارل زيمر كاتب عمود "أويجينز" (الأصول) في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، ومؤلف 15 كتاباً علمياً. أحدث كتبه هو "المحمول جواً: التاريخ الخفي للحياة التي نتنفسها"، وهو الكتاب المقتبس منه هذا المقال.

    الأخبار الرئيسية

    اخترنا لكم

    تفضيلات القراء

    1. 1
    2. 2
    3. 3
    4. 4
    5. 5
    6. 6
    7. 7
    8. 8
    9. 9
    10. 10

    © 2025 بي بي سي. بي بي سي ليست مسؤولة عن محتوى المواقع الخارجية.


    كيف تؤثر الميكروبات التي تعيش في السُحب على حياتنا

    صدر الصورة، Getty Images

      • Author, كارل زيمر
      • Role,

    تجوب تريليونات من البكتيريا والفطريات والفيروسات والكائنات وحيدة الخلية، أعالي الغلاف الجوي للكرة الأرضية.

    والعلماء في طور اكتشاف أنها تؤثر بشكل كبير في الطقس، وحتى على صحتنا.

    السحب رفيقتنا الدائمة خلال حياتنا. تطفو فوقنا أحياناً على شكل خيوط رفيعة. وفي أيام أخرى، تُظلم السماء وتُسقط علينا المطر.

    ولكن، وعلى الرغم من معرفتنا بهذه الأغطية التي تتشكل من بخار الماء، إلا أنها تُخفي عنا سراً.

    • للاستمتاع بمعلومات شيقة ومفيدة حول صحتك، انضم إلى قناتنا على واتساب ().

    فالسحب في الحقيقة، جزر عائمة من الحياة، إذ هي موطن لتريليونات الكائنات الحية من آلاف الأنواع.

    الأكثر قراءة

    الأكثر قراءة نهاية

    إذ يجوب الهواء إلى جانب الطيور واليعسوب وبذور الهندباء، محيط شاسع من الكائنات الحية الدقيقة (الميكروبات)، أي الأحياء التي لا تُرى بالعين المجردة.

    كان الكيميائي الفرنسي لويس باستور، من أوائل العلماء الذين تعرفوا على ما يُطلق عليه العلماء اليوم اسم "الأيروبيوم" عام 1860.

    تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي

    اضغط هنا

    يستحق الانتباه نهاية

    ويشير مصطلح "الأيروبيوم" إلى مجموعة الكائنات الحية الدقيقة، بما في ذلك البكتيريا والفطريات والميكروبات الأخرى، التي تعيش في الغلاف الجوي للأرض.

    رفع باستور في الهواء، قوارير معقمة مليئة بمرق ( حساء) اللحوم الصافي، وسمح للجراثيم العائمة بالاستقرار فيها، ما جعل المرق الصافي عكراً.

    التقط باستور الجراثيم في شوارع باريس، وفي الريف الفرنسي، وحتى على قمة نهر جليدي في جبال الألب. لكن معاصريه رفضوا فكرته. وقال أحد الصحفيين لباستيور آنذاك: "العالم الذي ترغب في أن تأخذنا إليه خيالي للغاية".

    استغرق الأمر عقوداً حتى يتقبل الناس حقيقة وجود هذه الكائنات الحية التي تعيش في البيئة الهوائية.

    في ثلاثينيات القرن العشرين، حلق بعض العلماء في السماء بالطائرات، حاملين شرائح وأطباق بتري - وهي أطباق دائرية شفافة ذات غطاء مسطح، تستخدم لزراعة الكائنات الحية الدقيقة في المختبرات الطبية - لالتقاط جراثيم فطرية وبكتيريا تعيش في الهواء.

    كما أطلقت رحلات بالمناطيد إلى الغلاف الجوي العلوي (الستراتوسفير) لالتقاط الخلايا أيضاً.

    اليوم، في القرن الحادي والعشرين، ينشر علماء الأحياء الهوائية أجهزة متطورة لجمع عينات الهواء على طائرات بدون طيار.

    كما يستخدمون تقنية تسلسل الحمض النووي لتحديد الكائنات الحية المحمولة جواً من خلال جيناتها.

    ويُدرك الباحثون الآن أنّ البيئة الهوائية هي موطن هائل يعج بالزوار من الكائنات الحية.

    يأتي هؤلاء الزوار من معظم أسطح كوكب الأرض.

    في كل مرة تتحطم فيها موجة في المحيط، تُقذف قطرات دقيقة من مياه البحر في الهواء، ويكون بعضها يحمل فيروسات وبكتيريا وطحالب وكائنات حية وحيدة الخلية أخرى.

    وبينما تسقط بعض هذه القطرات بسرعة عائدةً إلى المحيط، تلتقط الرياح بعضها الآخر وترتفع إلى السماء، حيث يمكن أن تحملها لآلاف الأميال.

    على اليابسة، يمكن للرياح أن تجرف الأرض، حاملةً البكتيريا والفطريات والكائنات الحية الأخرى.

    وفي كل صباح، عندما تشرق الشمس وتتبخر المياه في الهواء، يمكن أن تطلق أيضاً كائنات دقيقة.

    كما تُولّد حرائق الغابات، تيارات هوائية صاعدة عنيفة قادرة على امتصاص الميكروبات من الأرض ومن جذوع الأشجار وأوراقها، حاملةً إياها إلى الأعلى مع الدخان المتصاعد.

    ولا تنتظر العديد من أنواع الكائنات الحية القوى الفيزيائية لإطلاقها في الهواء.

    فالطحالب، على سبيل المثال، تُنبت ساقاً تحمل في طرفها كيساً من الأبواغ (خلية تكاثر لا جنسي في علم النبات)، تُطلقه كنفحات من الدخان في الهواء.

    وقد يسقط ما يصل إلى ستة ملايين من الأبواغ الطحلبية على متر مربع واحد من المستنقع خلال صيف واحد.

    إذ تتكاثر العديد من أنواع النباتات عبر إطلاق مليارات حبوب اللقاح جواً خلال كل ربيع.

    وتتميز الفطريات بمهارة خاصة في الطيران.

    فقد طورت مدافع بيولوجية ووسائل أخرى لإطلاق أبواغها في الهواء، كما أن أبواغها مُجهزة بأصداف متينة وتكيفات أخرى لتحمل الظروف القاسية التي تواجهها أثناء سفرها عالياً حتى طبقة الستراتوسفير.

    وقد عُثر على فطريات على ارتفاع يصل إلى 12 ميلاً (20 كيلومتراً)، فوق مياه المحيط الهادئ المفتوحة، وهي محمولة على الرياح.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، تُطلق الطحالب أعداداً هائلة من الأبواغ في الهواء من كبسولات في نهايات سيقانها

    ويُقدّر عدد الخلايا البكتيرية التي تصعد كل عام من اليابسة والبحر إلى السماء، بحوالي تريليون تريليون خلية.

    كما يُقدّر أن 50 مليون طن من أبواغ الفطريات تُحمل جواً في المدة الزمنية نفسها.

    وتصعد أعداد لا تُحصى من الفيروسات والأشنات والطحالب وغيرها من أشكال الحياة المجهرية إلى الهواء.

    ومن الشائع أن تسافر لأيام في الهواء قبل الهبوط، وخلال هذه الفترة يُمكن أن تُحلّق لمئات أو آلاف الأميال.

    وخلال هذه الرحلة، قد يطير كائن حي إلى منطقة من الهواء حيث يتكثف بخار الماء على شكل قطرات.

    وسرعان ما يجد هذا الكائن نفسه مُغلفاً بإحدى تلك القطرات، وقد تحمله التيارات الصاعدة إلى عمق أكبر داخل كتلة الماء. فيدخل عندئذٍ قلب سحابة.

    وقد جاء الكثير ممّا تعلمه العلماء عن الحياة في السحب، من قمة جبل في فرنسا يُسمى بوي دو دوم.

    إذ تشكلت هذه القمة قبل حوالي 11 ألف عام، عندما اصطدمت كتلة من الصهارة - المادة السائلة أو شبه السائلة الساخنة أسفل أو داخل قشرة الأرض تتكون منها الحمم البركانية والصخور النارية الأخرى عند التبريد - بتلال متموجة وسط فرنسا، مكونةً بركاناً تفجرت منه الحمم البركانية قبل أن يخمد بعد بضع مئات من السنين.

    وعلى مدار العشرين عاماً الماضية تقريباً، زُوِّدت محطة أرصاد جوية على قمة بوي دو دوم بأجهزة أخذ عينات من الهواء.

    ويرتفع الجبل عالياً لدرجة أنّ السحب تغطي قمته بانتظام، ما يسمح للعلماء بالتقاط بعض الكائنات الحية من عليها.

    وكشفت دراسات أجراها بيير أماتو، عالم الأحياء الهوائية في جامعة كليرمون أوفيرنيو الفرنسية القريبة من المنطقة، أن كل مليمتر من مياه السحابة التي تطفو فوق بوي دو دوم، يحتوي على ما يصل إلى 100,000 خلية. وقد كشف حمضها النووي أنّ بعضها ينتمي إلى أنواع مألوفة، لكن الكثير منها جديد على العلم.

    ويشعر العلماء الذين يستخدمون الحمض النووي لتحديد نوع هذه الكائنات، بالقلق الدائم بشأن إمكانية تلوث العينات، وأماتو ليس استثناءً.

    فعلى سبيل المثال، قد يحلق صقرٌ فوق أنابيب أماتو على بوي دو دوم وينفض الميكروبات عن ريشه.

    وفي مختبر أماتو أيضاً، قد يزفر طالب دراسات عليا وهو يعاين العينات، بعض الجراثيم في أنبوب الاختبار.

    وعلى مر السنين، رفض أماتو الاعتراف بآلاف الأنواع المحتملة، مشتبهاً بأن يكون هو أو طلابه قد لطخوا المعدات بميكروبات جلدية عن غير قصد.

    إلا أنّهم أعلنوا بثقة عن اكتشافهم أكثر من 28,000 نوع من البكتيريا في السحب، وأكثر من 2,600 نوع من الفطريات.

    ويشتبه أماتو وعلماء آخرون يدرسون السحب، في أنها قد تكون أماكن مثالية لبقاء البكتيريا على قيد الحياة - على الأقل لبعض الأنواع منها.

    وكتب أماتو وفريق من زملائه عام 2017: "السحب بيئات مفتوحة للجميع (جميع الأنواع)، ولكن بعضها فقط هو الذي يزدهر فيها".

    في السًحب، يعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصاً داخل قطرته الخاصة من المياه.

    تعتبر السحابة بالنسبة للبكتيريا، عالماً غريباً جداً، يختلف اختلافاً جذرياً عن بيئاتها التي تعيش فيها عادةً على اليابسة أو في البحر.

    إذ عادةً ما تتجمع البكتيريا في مجموعات.

    وفي الأنهار، قد تنمو لتشكل حصائر ميكروبية. وفي أمعائنا، تُشكل أغشية كثيفة.

    أمّا في السحب، فيعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصراً داخل قطرة ماء خاصة به.

    وتعني هذه العزلة، أنّ بكتيريا السحابة لا تضطر للتنافس مع بعضها البعض على الموارد المحدودة. لكن في الوقت نفسه، لا تملك قطرة الماء مساحة كافية لحمل العناصر الغذائية التي تحتاجها الميكروبات للنمو.

    ومع ذلك، وجد أماتو وزملاؤه أدلة على أنّ بعض الميكروبات يمكنها بالفعل النمو في السحب. ففي إحدى الدراسات، قارن الباحثون العينات التي جمعوها من السحب في بوي دو دوم، بعينات أخرى جمعوها من الجبل في أيام صافية.

    وبحث الباحثون عن أدلة على نشاطها، عبر مقارنة كمية الحمض النووي في عيناتهم بكمية الحمض النووي الريبوزي (RNA).

    إذ تُنتج الخلايا النشطة والنامية، نسخاً كثيرة من الحمض النووي الريبوزي من حمضها النووي بهدف إنتاج البروتينات.

    ووجد الباحثون أن نسبة الحمض النووي DNA إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA)، كانت أعلى بعدة مرات في السحب منها في الهواء النقي، وهو دليل قوي على ازدهار الخلايا في السحب. كما وجدوا أن البكتيريا الموجودة في السحب تُفعّل الجينات الأساسية لاستقلاب الغذاء والنمو.

    ولفهم كيفية ازدهار هذه البكتيريا في السحب، قام الباحثون بتربية بعض الأنواع التي التقطوها في مختبرهم، ثمّ وضعوها في غرف محاكاة للغلاف الجوي.

    ويستخدم أحد أنواع الميكروبات، المعروف باسم ميثيلوباكتيريوم، طاقة ضوء الشمس لتحليل الكربون العضوي داخل قطرات المياه في السحب.

    وبعبارة أخرى، تأكل هذه البكتيريا السحب. وبحسب أحد التقديرات، تكسر ميكروبات السحب مليون طن من الكربون العضوي في جميع أنحاء العالم سنوياً.

    وتشير نتائج كهذه إلى أن هذه الكائنات التي تعيش في الهواء قوةٌ لا يستهان بها، إذ تؤثر تأثيراً بالغاً على كيمياء الغلاف الجوي. بل إنها تغيّر حالة الطقس.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، لا تعيش البكتيريا والميكروبات الأخرى في السحب فحسب، بل تلعب دوراً في تكوينها أيضاُ

    وعندما تتشكل السحابة، تُنشئ تيارات هوائية صاعدة ترفع الهواء المحمّل بالماء إلى ارتفاعات عالية تكون باردةً بما يكفي لتحويل الماء إلى جليد. ثم يتساقط الجليد مجدداً. وإذا كان الهواء القريب من الأرض بارداً، فقد يهبط على شكل ثلج. وإذا كان دافئاً، فيتحول إلى مطر.

    وقد يكون من الصعب بشكل ملفت تكوّن الجليد في سحابة شديدة البرودة. حتى في درجات حرارة أقل بكثير من نقطة التجمد، يمكن لجزيئات الماء أن تبقى سائلة.

    ومع ذلك، فإنّ إحدى طرق تحفيز تكوّن الجليد هي منحها بذرةً من الشوائب.

    فعندما تلتصق جزيئات الماء بسطح الجسيم، فإنها تترابط مع بعضها البعض، في عملية تُعرف باسم التنوي. ثمّ تلتصق بها جزيئات ماء أخرى وتتجمع في بنية بلورية (تشبه الكريستال)، والتي عندما تصبح ثقيلة بما يكفي، ستسقط من السماء.

    وقد اتضح أن الجزيئات البيولوجية وجدران الخلايا بارعةٌ للغاية في تحفيز هطول المطر. فالفطريات والطحالب وحبوب اللقاح والأشنات والبكتيريا، وحتى الفيروسات، قادرةٌ على تكوين الجليد في السحب.

    من الممكن أيضاً أن تكون السحب والحياة مرتبطتان في دورةٍ وثيقة، لا تقتصر على العيش والتهام السحب فقط، بل تُساعدها أصلاً على التشكل.

    وتُعدّ بكتيريا الزائفة الزنجارية (Pseudomonas) من أفضل مُنتجات المطر.

    ولا يعلم العلماء سبب براعة هذه البكتيريا تحديداً في تكوين الجليد في السحب، ولكن قد يكون ذلك مرتبطاً بطريقة نموها على الأوراق.

    فعندما يهطل مطرٌ بارد على ورقة، قد تُساعد الزائفة الزنجارية الماء السائل على التحول إلى جليد عند درجات حرارة أعلى من المعتاد. وعندما تفتح شقوق الجليد الأوراق، يُمكن للبكتيريا أن تتغذى على العناصر الغذائية الموجودة بداخلها.

    حتى أنّ بعض العلماء تكهّنوا بأنّ النباتات ترحب ببكتيريا مثل الزائفة الزنجارية، على الرغم من الضرر الذي تُسببه.

    وعندما تزيل الرياح البكتيريا عن النباتات وتدفعها في الهواء، ترتفع لتصل إلى السُحب في السماء. وتُمطر السحب المُلقحة بالزائفة الزنجارية المزيد من المطر على النباتات تحتها.

    وتستخدم النباتات مياه هذه الأمطار لإنتاج المزيد من الأوراق، وتنمي هذه الأوراق المزيد من البكتيريا، التي ترتفع بدورها إلى السماء وتُحفز السحب لإنتاج المزيد من الأمطار لتغذية الحياة في الأسفل.

    وإذا ثبتت صحة هذا التكهن، فسيكون ذلك تكافلاً مهيباً في علم الأحياء، يربط الغابات بالسماء.

    كما تُثير الأبحاث حول الحياة في السحب، احتمال وجود كائنات حية محمولة جواً على كواكب أخرى - حتى تلك التي قد تبدو أسوأ الأماكن للحياة.

    فكوكب الزهرة، على سبيل المثال، يتمتع بدرجة حرارة سطحية عالية بما يكفي لإذابة الرصاص. لكنّ السحب التي تُغطي الزهرة أبرد بكثير، وربما تكون مناسبة لاستمرار الحياة.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، توجد بكتيريا الزائفة الزنجارية بشكل شائع في التربة وعلى النباتات، ولكنها قد تتكيف بشكل خاص كبذور لتكوين الجليد

    وقد تكهنت سارة سيغر، عالمة الأحياء الفلكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بأنّ الحياة ربما نشأت على سطح كوكب الزهرة في وقت مبكر من تاريخه، عندما كان أكثر برودة ورطوبة.

    ومع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، ربما وجدت بعض الميكروبات ملجأً لها في السحب. وتقول إنه بدلاً من أن تغرق عائدةً إلى السطح، ربما طفت صعوداً وهبوطاً في الغلاف الجوي، راكبةً التيارات الهوائية لملايين السنين.

    إن التفكير في بيئة "سيغر" الهوائية الغريبة يمكن أن يجعل تأمل السحب أكثر متعة.

    ولكن عندما ننظر إلى السحب، فإننا ننظر أيضاً إلى تأثيرنا على العالم، بحسب ما كشفته أبحاث أماتو.

    وعندما قام أماتو وزملاؤه بمسح الجينات في الميكروبات التي يلتقطونها، وجدوا أنّ عدداً كبيراً من هذه الجينات يمنح البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

    أمّا على الأرض، فقد حفزنا نحن البشر التطور الواسع النطاق لهذه الجينات المقاومة.

    فعبر تناولنا كميات زائدة من البنسلين والأدوية الأخرى لمكافحة العدوى، قمنا بتقوية طفرات يمكنها مقاومة هذه المضادات.

    وما يزيد الطين بلة، أنّ المزارعين يُطعمون الدجاج والخنازير وغيرها من الماشية المضادات الحيوية كي تنمو إلى أحجام أكبر.

    وفي عام 2014 وحده، توفي 700 ألف شخص حول العالم بسبب عدوى بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

    وبعد خمس سنوات، ارتفع العدد إلى 1.27 مليون.

    وتتطور مقاومة المضادات الحيوية داخل أجسام البشر والحيوانات التي يأكلونها.

    ثم تهرب البكتيريا المُكتسبة لهذه المقاومة من حاضناتها وتشق طريقها عبر البيئة - إلى التربة، وإلى مجاري المياه، بل وحتى إلى الهواء.

    وقد وجد الباحثون مستويات عالية من هذه الجينات المقاومة في البكتيريا التي تطفو في المستشفيات وحول مزارع الخنازير.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، يمكن للرياح أن تحمل الغبار والميكروبات لمسافات تصل إلى مئات، وأحياناً آلاف الأميال

    لكنّ جينات البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية يمكن أن تنتشر جواً لمسافات أبعد بكثير.

    فقد فحص فريق دولي من العلماء، فلاتر مكيفات هواء السيارات في تسع عشرة مدينة حول العالم.

    ووجدوا أنّ هذه الفلاتر قد التقطت تنوعاً غنياً من البكتيريا المقاومة. بمعنى آخر، يبدو أنّ جينات المقاومة تطفو عبر المدن.

    وفي السنوات الأخيرة، رصد أماتو وزملاؤه رحلات أطول لهذه الجينات.

    ففي مسحٍ أُجري عام 2023 للسحب، أفاد الباحثون بالعثور على بكتيريا تحمل 29 نوعاً مختلفاً من جينات المقاومة للمضادات الحيوية فيها.

    وقد تحمل بكتيريا واحدة محمولة في الهواء، ما يصل إلى تسعة جينات مقاومة، كل منها يوفر دفاعاً مختلفاً ضد الأدوية.

    وقدّر الباحثون أنّ كل متر مكعب من سحابة واحدة، يحتوي على ما يصل إلى 10 ألف جين مقاوم للمضادات الحيوية.

    وقد تحتوي سحابة عادية تطفو فوق رؤوسنا على أكثر من تريليون جين منها.

    ويعتقد أماتو وزملاؤه أنّ السحب تحتوي على هذا العدد الكبير من جينات المقاومة لأنها تساعد البكتيريا على البقاء على قيد الحياة.

    وتُوفر بعض الجينات، مقاومة للمضادات الحيوية، من خلال السماح للبكتيريا بضخ الأدوية خارج أنسجتها بسرعة، والتخلص منها قبل أن تُسبب لها ضرراً.

    وقد يدفع ضغط الحياة في السحابة، البكتيريا إلى إنتاج نفايات سامة تحتاج إلى ضخها الى خارج أنسجتها بسرعة أيضاً.

    وقد تتمكن السحب من نشر جينات المقاومة للمضادات الحيوية هذه إلى أبعد من اللحوم والمياه الملوثة.

    فبمجرد دخول البكتيريا إلى السحابة، يمكنها السفر مئات الأميال في غضون أيام، قبل أن تُنثر قطرات المطر وتسقط عائدةً إلى الأرض.

    وعندما تصل هذه الميكروبات إلى الأرض، قد تنقل جيناتها المقاومة إلى ميكروبات أخرى تصادفها في بيئتها الجديدة.

    ويقدر أماتو وزملاؤه أن 2.2 تريليون تريليون جين مقاوم للمضادات الحيوية يتساقط من الغيوم سنوياً.

    سيكون تذكر هذه المعلومة صادماً لنا أثناء تنزهنا تحت المطر. فنحن نسير وسط سيل من الحمض النووي الذي صنعناه بأنفسنا.

    كارل زيمر

    كارل زيمر كاتب عمود "أويجينز" (الأصول) في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، ومؤلف 15 كتاباً علمياً. أحدث كتبه هو "المحمول جواً: التاريخ الخفي للحياة التي نتنفسها"، وهو الكتاب المقتبس منه هذا المقال.

    الأخبار الرئيسية

    اخترنا لكم

    تفضيلات القراء

    1. 1
    2. 2
    3. 3
    4. 4
    5. 5
    6. 6
    7. 7
    8. 8
    9. 9
    10. 10




    إذهب الى المحتوى





    كيف تؤثر الميكروبات التي تعيش في السُحب على حياتنا

    صدر الصورة، Getty Images

      • Author, كارل زيمر
      • Role,

    تجوب تريليونات من البكتيريا والفطريات والفيروسات والكائنات وحيدة الخلية، أعالي الغلاف الجوي للكرة الأرضية.

    والعلماء في طور اكتشاف أنها تؤثر بشكل كبير في الطقس، وحتى على صحتنا.

    السحب رفيقتنا الدائمة خلال حياتنا. تطفو فوقنا أحياناً على شكل خيوط رفيعة. وفي أيام أخرى، تُظلم السماء وتُسقط علينا المطر.

    ولكن، وعلى الرغم من معرفتنا بهذه الأغطية التي تتشكل من بخار الماء، إلا أنها تُخفي عنا سراً.

    • للاستمتاع بمعلومات شيقة ومفيدة حول صحتك، انضم إلى قناتنا على واتساب ().

    فالسحب في الحقيقة، جزر عائمة من الحياة، إذ هي موطن لتريليونات الكائنات الحية من آلاف الأنواع.

    الأكثر قراءة

    الأكثر قراءة نهاية

    إذ يجوب الهواء إلى جانب الطيور واليعسوب وبذور الهندباء، محيط شاسع من الكائنات الحية الدقيقة (الميكروبات)، أي الأحياء التي لا تُرى بالعين المجردة.

    كان الكيميائي الفرنسي لويس باستور، من أوائل العلماء الذين تعرفوا على ما يُطلق عليه العلماء اليوم اسم "الأيروبيوم" عام 1860.

    تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي

    اضغط هنا

    يستحق الانتباه نهاية

    ويشير مصطلح "الأيروبيوم" إلى مجموعة الكائنات الحية الدقيقة، بما في ذلك البكتيريا والفطريات والميكروبات الأخرى، التي تعيش في الغلاف الجوي للأرض.

    رفع باستور في الهواء، قوارير معقمة مليئة بمرق ( حساء) اللحوم الصافي، وسمح للجراثيم العائمة بالاستقرار فيها، ما جعل المرق الصافي عكراً.

    التقط باستور الجراثيم في شوارع باريس، وفي الريف الفرنسي، وحتى على قمة نهر جليدي في جبال الألب. لكن معاصريه رفضوا فكرته. وقال أحد الصحفيين لباستيور آنذاك: "العالم الذي ترغب في أن تأخذنا إليه خيالي للغاية".

    استغرق الأمر عقوداً حتى يتقبل الناس حقيقة وجود هذه الكائنات الحية التي تعيش في البيئة الهوائية.

    في ثلاثينيات القرن العشرين، حلق بعض العلماء في السماء بالطائرات، حاملين شرائح وأطباق بتري - وهي أطباق دائرية شفافة ذات غطاء مسطح، تستخدم لزراعة الكائنات الحية الدقيقة في المختبرات الطبية - لالتقاط جراثيم فطرية وبكتيريا تعيش في الهواء.

    كما أطلقت رحلات بالمناطيد إلى الغلاف الجوي العلوي (الستراتوسفير) لالتقاط الخلايا أيضاً.

    اليوم، في القرن الحادي والعشرين، ينشر علماء الأحياء الهوائية أجهزة متطورة لجمع عينات الهواء على طائرات بدون طيار.

    كما يستخدمون تقنية تسلسل الحمض النووي لتحديد الكائنات الحية المحمولة جواً من خلال جيناتها.

    ويُدرك الباحثون الآن أنّ البيئة الهوائية هي موطن هائل يعج بالزوار من الكائنات الحية.

    يأتي هؤلاء الزوار من معظم أسطح كوكب الأرض.

    في كل مرة تتحطم فيها موجة في المحيط، تُقذف قطرات دقيقة من مياه البحر في الهواء، ويكون بعضها يحمل فيروسات وبكتيريا وطحالب وكائنات حية وحيدة الخلية أخرى.

    وبينما تسقط بعض هذه القطرات بسرعة عائدةً إلى المحيط، تلتقط الرياح بعضها الآخر وترتفع إلى السماء، حيث يمكن أن تحملها لآلاف الأميال.

    على اليابسة، يمكن للرياح أن تجرف الأرض، حاملةً البكتيريا والفطريات والكائنات الحية الأخرى.

    وفي كل صباح، عندما تشرق الشمس وتتبخر المياه في الهواء، يمكن أن تطلق أيضاً كائنات دقيقة.

    كما تُولّد حرائق الغابات، تيارات هوائية صاعدة عنيفة قادرة على امتصاص الميكروبات من الأرض ومن جذوع الأشجار وأوراقها، حاملةً إياها إلى الأعلى مع الدخان المتصاعد.

    ولا تنتظر العديد من أنواع الكائنات الحية القوى الفيزيائية لإطلاقها في الهواء.

    فالطحالب، على سبيل المثال، تُنبت ساقاً تحمل في طرفها كيساً من الأبواغ (خلية تكاثر لا جنسي في علم النبات)، تُطلقه كنفحات من الدخان في الهواء.

    وقد يسقط ما يصل إلى ستة ملايين من الأبواغ الطحلبية على متر مربع واحد من المستنقع خلال صيف واحد.

    إذ تتكاثر العديد من أنواع النباتات عبر إطلاق مليارات حبوب اللقاح جواً خلال كل ربيع.

    وتتميز الفطريات بمهارة خاصة في الطيران.

    فقد طورت مدافع بيولوجية ووسائل أخرى لإطلاق أبواغها في الهواء، كما أن أبواغها مُجهزة بأصداف متينة وتكيفات أخرى لتحمل الظروف القاسية التي تواجهها أثناء سفرها عالياً حتى طبقة الستراتوسفير.

    وقد عُثر على فطريات على ارتفاع يصل إلى 12 ميلاً (20 كيلومتراً)، فوق مياه المحيط الهادئ المفتوحة، وهي محمولة على الرياح.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، تُطلق الطحالب أعداداً هائلة من الأبواغ في الهواء من كبسولات في نهايات سيقانها

    ويُقدّر عدد الخلايا البكتيرية التي تصعد كل عام من اليابسة والبحر إلى السماء، بحوالي تريليون تريليون خلية.

    كما يُقدّر أن 50 مليون طن من أبواغ الفطريات تُحمل جواً في المدة الزمنية نفسها.

    وتصعد أعداد لا تُحصى من الفيروسات والأشنات والطحالب وغيرها من أشكال الحياة المجهرية إلى الهواء.

    ومن الشائع أن تسافر لأيام في الهواء قبل الهبوط، وخلال هذه الفترة يُمكن أن تُحلّق لمئات أو آلاف الأميال.

    وخلال هذه الرحلة، قد يطير كائن حي إلى منطقة من الهواء حيث يتكثف بخار الماء على شكل قطرات.

    وسرعان ما يجد هذا الكائن نفسه مُغلفاً بإحدى تلك القطرات، وقد تحمله التيارات الصاعدة إلى عمق أكبر داخل كتلة الماء. فيدخل عندئذٍ قلب سحابة.

    وقد جاء الكثير ممّا تعلمه العلماء عن الحياة في السحب، من قمة جبل في فرنسا يُسمى بوي دو دوم.

    إذ تشكلت هذه القمة قبل حوالي 11 ألف عام، عندما اصطدمت كتلة من الصهارة - المادة السائلة أو شبه السائلة الساخنة أسفل أو داخل قشرة الأرض تتكون منها الحمم البركانية والصخور النارية الأخرى عند التبريد - بتلال متموجة وسط فرنسا، مكونةً بركاناً تفجرت منه الحمم البركانية قبل أن يخمد بعد بضع مئات من السنين.

    وعلى مدار العشرين عاماً الماضية تقريباً، زُوِّدت محطة أرصاد جوية على قمة بوي دو دوم بأجهزة أخذ عينات من الهواء.

    ويرتفع الجبل عالياً لدرجة أنّ السحب تغطي قمته بانتظام، ما يسمح للعلماء بالتقاط بعض الكائنات الحية من عليها.

    وكشفت دراسات أجراها بيير أماتو، عالم الأحياء الهوائية في جامعة كليرمون أوفيرنيو الفرنسية القريبة من المنطقة، أن كل مليمتر من مياه السحابة التي تطفو فوق بوي دو دوم، يحتوي على ما يصل إلى 100,000 خلية. وقد كشف حمضها النووي أنّ بعضها ينتمي إلى أنواع مألوفة، لكن الكثير منها جديد على العلم.

    ويشعر العلماء الذين يستخدمون الحمض النووي لتحديد نوع هذه الكائنات، بالقلق الدائم بشأن إمكانية تلوث العينات، وأماتو ليس استثناءً.

    فعلى سبيل المثال، قد يحلق صقرٌ فوق أنابيب أماتو على بوي دو دوم وينفض الميكروبات عن ريشه.

    وفي مختبر أماتو أيضاً، قد يزفر طالب دراسات عليا وهو يعاين العينات، بعض الجراثيم في أنبوب الاختبار.

    وعلى مر السنين، رفض أماتو الاعتراف بآلاف الأنواع المحتملة، مشتبهاً بأن يكون هو أو طلابه قد لطخوا المعدات بميكروبات جلدية عن غير قصد.

    إلا أنّهم أعلنوا بثقة عن اكتشافهم أكثر من 28,000 نوع من البكتيريا في السحب، وأكثر من 2,600 نوع من الفطريات.

    ويشتبه أماتو وعلماء آخرون يدرسون السحب، في أنها قد تكون أماكن مثالية لبقاء البكتيريا على قيد الحياة - على الأقل لبعض الأنواع منها.

    وكتب أماتو وفريق من زملائه عام 2017: "السحب بيئات مفتوحة للجميع (جميع الأنواع)، ولكن بعضها فقط هو الذي يزدهر فيها".

    في السًحب، يعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصاً داخل قطرته الخاصة من المياه.

    تعتبر السحابة بالنسبة للبكتيريا، عالماً غريباً جداً، يختلف اختلافاً جذرياً عن بيئاتها التي تعيش فيها عادةً على اليابسة أو في البحر.

    إذ عادةً ما تتجمع البكتيريا في مجموعات.

    وفي الأنهار، قد تنمو لتشكل حصائر ميكروبية. وفي أمعائنا، تُشكل أغشية كثيفة.

    أمّا في السحب، فيعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصراً داخل قطرة ماء خاصة به.

    وتعني هذه العزلة، أنّ بكتيريا السحابة لا تضطر للتنافس مع بعضها البعض على الموارد المحدودة. لكن في الوقت نفسه، لا تملك قطرة الماء مساحة كافية لحمل العناصر الغذائية التي تحتاجها الميكروبات للنمو.

    ومع ذلك، وجد أماتو وزملاؤه أدلة على أنّ بعض الميكروبات يمكنها بالفعل النمو في السحب. ففي إحدى الدراسات، قارن الباحثون العينات التي جمعوها من السحب في بوي دو دوم، بعينات أخرى جمعوها من الجبل في أيام صافية.

    وبحث الباحثون عن أدلة على نشاطها، عبر مقارنة كمية الحمض النووي في عيناتهم بكمية الحمض النووي الريبوزي (RNA).

    إذ تُنتج الخلايا النشطة والنامية، نسخاً كثيرة من الحمض النووي الريبوزي من حمضها النووي بهدف إنتاج البروتينات.

    ووجد الباحثون أن نسبة الحمض النووي DNA إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA)، كانت أعلى بعدة مرات في السحب منها في الهواء النقي، وهو دليل قوي على ازدهار الخلايا في السحب. كما وجدوا أن البكتيريا الموجودة في السحب تُفعّل الجينات الأساسية لاستقلاب الغذاء والنمو.

    ولفهم كيفية ازدهار هذه البكتيريا في السحب، قام الباحثون بتربية بعض الأنواع التي التقطوها في مختبرهم، ثمّ وضعوها في غرف محاكاة للغلاف الجوي.

    ويستخدم أحد أنواع الميكروبات، المعروف باسم ميثيلوباكتيريوم، طاقة ضوء الشمس لتحليل الكربون العضوي داخل قطرات المياه في السحب.

    وبعبارة أخرى، تأكل هذه البكتيريا السحب. وبحسب أحد التقديرات، تكسر ميكروبات السحب مليون طن من الكربون العضوي في جميع أنحاء العالم سنوياً.

    وتشير نتائج كهذه إلى أن هذه الكائنات التي تعيش في الهواء قوةٌ لا يستهان بها، إذ تؤثر تأثيراً بالغاً على كيمياء الغلاف الجوي. بل إنها تغيّر حالة الطقس.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، لا تعيش البكتيريا والميكروبات الأخرى في السحب فحسب، بل تلعب دوراً في تكوينها أيضاُ

    وعندما تتشكل السحابة، تُنشئ تيارات هوائية صاعدة ترفع الهواء المحمّل بالماء إلى ارتفاعات عالية تكون باردةً بما يكفي لتحويل الماء إلى جليد. ثم يتساقط الجليد مجدداً. وإذا كان الهواء القريب من الأرض بارداً، فقد يهبط على شكل ثلج. وإذا كان دافئاً، فيتحول إلى مطر.

    وقد يكون من الصعب بشكل ملفت تكوّن الجليد في سحابة شديدة البرودة. حتى في درجات حرارة أقل بكثير من نقطة التجمد، يمكن لجزيئات الماء أن تبقى سائلة.

    ومع ذلك، فإنّ إحدى طرق تحفيز تكوّن الجليد هي منحها بذرةً من الشوائب.

    فعندما تلتصق جزيئات الماء بسطح الجسيم، فإنها تترابط مع بعضها البعض، في عملية تُعرف باسم التنوي. ثمّ تلتصق بها جزيئات ماء أخرى وتتجمع في بنية بلورية (تشبه الكريستال)، والتي عندما تصبح ثقيلة بما يكفي، ستسقط من السماء.

    وقد اتضح أن الجزيئات البيولوجية وجدران الخلايا بارعةٌ للغاية في تحفيز هطول المطر. فالفطريات والطحالب وحبوب اللقاح والأشنات والبكتيريا، وحتى الفيروسات، قادرةٌ على تكوين الجليد في السحب.

    من الممكن أيضاً أن تكون السحب والحياة مرتبطتان في دورةٍ وثيقة، لا تقتصر على العيش والتهام السحب فقط، بل تُساعدها أصلاً على التشكل.

    وتُعدّ بكتيريا الزائفة الزنجارية (Pseudomonas) من أفضل مُنتجات المطر.

    ولا يعلم العلماء سبب براعة هذه البكتيريا تحديداً في تكوين الجليد في السحب، ولكن قد يكون ذلك مرتبطاً بطريقة نموها على الأوراق.

    فعندما يهطل مطرٌ بارد على ورقة، قد تُساعد الزائفة الزنجارية الماء السائل على التحول إلى جليد عند درجات حرارة أعلى من المعتاد. وعندما تفتح شقوق الجليد الأوراق، يُمكن للبكتيريا أن تتغذى على العناصر الغذائية الموجودة بداخلها.

    حتى أنّ بعض العلماء تكهّنوا بأنّ النباتات ترحب ببكتيريا مثل الزائفة الزنجارية، على الرغم من الضرر الذي تُسببه.

    وعندما تزيل الرياح البكتيريا عن النباتات وتدفعها في الهواء، ترتفع لتصل إلى السُحب في السماء. وتُمطر السحب المُلقحة بالزائفة الزنجارية المزيد من المطر على النباتات تحتها.

    وتستخدم النباتات مياه هذه الأمطار لإنتاج المزيد من الأوراق، وتنمي هذه الأوراق المزيد من البكتيريا، التي ترتفع بدورها إلى السماء وتُحفز السحب لإنتاج المزيد من الأمطار لتغذية الحياة في الأسفل.

    وإذا ثبتت صحة هذا التكهن، فسيكون ذلك تكافلاً مهيباً في علم الأحياء، يربط الغابات بالسماء.

    كما تُثير الأبحاث حول الحياة في السحب، احتمال وجود كائنات حية محمولة جواً على كواكب أخرى - حتى تلك التي قد تبدو أسوأ الأماكن للحياة.

    فكوكب الزهرة، على سبيل المثال، يتمتع بدرجة حرارة سطحية عالية بما يكفي لإذابة الرصاص. لكنّ السحب التي تُغطي الزهرة أبرد بكثير، وربما تكون مناسبة لاستمرار الحياة.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، توجد بكتيريا الزائفة الزنجارية بشكل شائع في التربة وعلى النباتات، ولكنها قد تتكيف بشكل خاص كبذور لتكوين الجليد

    وقد تكهنت سارة سيغر، عالمة الأحياء الفلكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بأنّ الحياة ربما نشأت على سطح كوكب الزهرة في وقت مبكر من تاريخه، عندما كان أكثر برودة ورطوبة.

    ومع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، ربما وجدت بعض الميكروبات ملجأً لها في السحب. وتقول إنه بدلاً من أن تغرق عائدةً إلى السطح، ربما طفت صعوداً وهبوطاً في الغلاف الجوي، راكبةً التيارات الهوائية لملايين السنين.

    إن التفكير في بيئة "سيغر" الهوائية الغريبة يمكن أن يجعل تأمل السحب أكثر متعة.

    ولكن عندما ننظر إلى السحب، فإننا ننظر أيضاً إلى تأثيرنا على العالم، بحسب ما كشفته أبحاث أماتو.

    وعندما قام أماتو وزملاؤه بمسح الجينات في الميكروبات التي يلتقطونها، وجدوا أنّ عدداً كبيراً من هذه الجينات يمنح البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

    أمّا على الأرض، فقد حفزنا نحن البشر التطور الواسع النطاق لهذه الجينات المقاومة.

    فعبر تناولنا كميات زائدة من البنسلين والأدوية الأخرى لمكافحة العدوى، قمنا بتقوية طفرات يمكنها مقاومة هذه المضادات.

    وما يزيد الطين بلة، أنّ المزارعين يُطعمون الدجاج والخنازير وغيرها من الماشية المضادات الحيوية كي تنمو إلى أحجام أكبر.

    وفي عام 2014 وحده، توفي 700 ألف شخص حول العالم بسبب عدوى بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

    وبعد خمس سنوات، ارتفع العدد إلى 1.27 مليون.

    وتتطور مقاومة المضادات الحيوية داخل أجسام البشر والحيوانات التي يأكلونها.

    ثم تهرب البكتيريا المُكتسبة لهذه المقاومة من حاضناتها وتشق طريقها عبر البيئة - إلى التربة، وإلى مجاري المياه، بل وحتى إلى الهواء.

    وقد وجد الباحثون مستويات عالية من هذه الجينات المقاومة في البكتيريا التي تطفو في المستشفيات وحول مزارع الخنازير.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، يمكن للرياح أن تحمل الغبار والميكروبات لمسافات تصل إلى مئات، وأحياناً آلاف الأميال

    لكنّ جينات البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية يمكن أن تنتشر جواً لمسافات أبعد بكثير.

    فقد فحص فريق دولي من العلماء، فلاتر مكيفات هواء السيارات في تسع عشرة مدينة حول العالم.

    ووجدوا أنّ هذه الفلاتر قد التقطت تنوعاً غنياً من البكتيريا المقاومة. بمعنى آخر، يبدو أنّ جينات المقاومة تطفو عبر المدن.

    وفي السنوات الأخيرة، رصد أماتو وزملاؤه رحلات أطول لهذه الجينات.

    ففي مسحٍ أُجري عام 2023 للسحب، أفاد الباحثون بالعثور على بكتيريا تحمل 29 نوعاً مختلفاً من جينات المقاومة للمضادات الحيوية فيها.

    وقد تحمل بكتيريا واحدة محمولة في الهواء، ما يصل إلى تسعة جينات مقاومة، كل منها يوفر دفاعاً مختلفاً ضد الأدوية.

    وقدّر الباحثون أنّ كل متر مكعب من سحابة واحدة، يحتوي على ما يصل إلى 10 ألف جين مقاوم للمضادات الحيوية.

    وقد تحتوي سحابة عادية تطفو فوق رؤوسنا على أكثر من تريليون جين منها.

    ويعتقد أماتو وزملاؤه أنّ السحب تحتوي على هذا العدد الكبير من جينات المقاومة لأنها تساعد البكتيريا على البقاء على قيد الحياة.

    وتُوفر بعض الجينات، مقاومة للمضادات الحيوية، من خلال السماح للبكتيريا بضخ الأدوية خارج أنسجتها بسرعة، والتخلص منها قبل أن تُسبب لها ضرراً.

    وقد يدفع ضغط الحياة في السحابة، البكتيريا إلى إنتاج نفايات سامة تحتاج إلى ضخها الى خارج أنسجتها بسرعة أيضاً.

    وقد تتمكن السحب من نشر جينات المقاومة للمضادات الحيوية هذه إلى أبعد من اللحوم والمياه الملوثة.

    فبمجرد دخول البكتيريا إلى السحابة، يمكنها السفر مئات الأميال في غضون أيام، قبل أن تُنثر قطرات المطر وتسقط عائدةً إلى الأرض.

    وعندما تصل هذه الميكروبات إلى الأرض، قد تنقل جيناتها المقاومة إلى ميكروبات أخرى تصادفها في بيئتها الجديدة.

    ويقدر أماتو وزملاؤه أن 2.2 تريليون تريليون جين مقاوم للمضادات الحيوية يتساقط من الغيوم سنوياً.

    سيكون تذكر هذه المعلومة صادماً لنا أثناء تنزهنا تحت المطر. فنحن نسير وسط سيل من الحمض النووي الذي صنعناه بأنفسنا.

    كارل زيمر

    كارل زيمر كاتب عمود "أويجينز" (الأصول) في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، ومؤلف 15 كتاباً علمياً. أحدث كتبه هو "المحمول جواً: التاريخ الخفي للحياة التي نتنفسها"، وهو الكتاب المقتبس منه هذا المقال.

    الأخبار الرئيسية

    اخترنا لكم

    تفضيلات القراء

    1. 1
    2. 2
    3. 3
    4. 4
    5. 5
    6. 6
    7. 7
    8. 8
    9. 9
    10. 10

    كيف تؤثر الميكروبات التي تعيش في السُحب على حياتنا

    صدر الصورة، Getty Images

      • Author, كارل زيمر
      • Role,

    تجوب تريليونات من البكتيريا والفطريات والفيروسات والكائنات وحيدة الخلية، أعالي الغلاف الجوي للكرة الأرضية.

    والعلماء في طور اكتشاف أنها تؤثر بشكل كبير في الطقس، وحتى على صحتنا.

    السحب رفيقتنا الدائمة خلال حياتنا. تطفو فوقنا أحياناً على شكل خيوط رفيعة. وفي أيام أخرى، تُظلم السماء وتُسقط علينا المطر.

    ولكن، وعلى الرغم من معرفتنا بهذه الأغطية التي تتشكل من بخار الماء، إلا أنها تُخفي عنا سراً.

    • للاستمتاع بمعلومات شيقة ومفيدة حول صحتك، انضم إلى قناتنا على واتساب ().

    فالسحب في الحقيقة، جزر عائمة من الحياة، إذ هي موطن لتريليونات الكائنات الحية من آلاف الأنواع.

    الأكثر قراءة

    الأكثر قراءة نهاية

    إذ يجوب الهواء إلى جانب الطيور واليعسوب وبذور الهندباء، محيط شاسع من الكائنات الحية الدقيقة (الميكروبات)، أي الأحياء التي لا تُرى بالعين المجردة.

    كان الكيميائي الفرنسي لويس باستور، من أوائل العلماء الذين تعرفوا على ما يُطلق عليه العلماء اليوم اسم "الأيروبيوم" عام 1860.

    تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي

    اضغط هنا

    يستحق الانتباه نهاية

    ويشير مصطلح "الأيروبيوم" إلى مجموعة الكائنات الحية الدقيقة، بما في ذلك البكتيريا والفطريات والميكروبات الأخرى، التي تعيش في الغلاف الجوي للأرض.

    رفع باستور في الهواء، قوارير معقمة مليئة بمرق ( حساء) اللحوم الصافي، وسمح للجراثيم العائمة بالاستقرار فيها، ما جعل المرق الصافي عكراً.

    التقط باستور الجراثيم في شوارع باريس، وفي الريف الفرنسي، وحتى على قمة نهر جليدي في جبال الألب. لكن معاصريه رفضوا فكرته. وقال أحد الصحفيين لباستيور آنذاك: "العالم الذي ترغب في أن تأخذنا إليه خيالي للغاية".

    استغرق الأمر عقوداً حتى يتقبل الناس حقيقة وجود هذه الكائنات الحية التي تعيش في البيئة الهوائية.

    في ثلاثينيات القرن العشرين، حلق بعض العلماء في السماء بالطائرات، حاملين شرائح وأطباق بتري - وهي أطباق دائرية شفافة ذات غطاء مسطح، تستخدم لزراعة الكائنات الحية الدقيقة في المختبرات الطبية - لالتقاط جراثيم فطرية وبكتيريا تعيش في الهواء.

    كما أطلقت رحلات بالمناطيد إلى الغلاف الجوي العلوي (الستراتوسفير) لالتقاط الخلايا أيضاً.

    اليوم، في القرن الحادي والعشرين، ينشر علماء الأحياء الهوائية أجهزة متطورة لجمع عينات الهواء على طائرات بدون طيار.

    كما يستخدمون تقنية تسلسل الحمض النووي لتحديد الكائنات الحية المحمولة جواً من خلال جيناتها.

    ويُدرك الباحثون الآن أنّ البيئة الهوائية هي موطن هائل يعج بالزوار من الكائنات الحية.

    يأتي هؤلاء الزوار من معظم أسطح كوكب الأرض.

    في كل مرة تتحطم فيها موجة في المحيط، تُقذف قطرات دقيقة من مياه البحر في الهواء، ويكون بعضها يحمل فيروسات وبكتيريا وطحالب وكائنات حية وحيدة الخلية أخرى.

    وبينما تسقط بعض هذه القطرات بسرعة عائدةً إلى المحيط، تلتقط الرياح بعضها الآخر وترتفع إلى السماء، حيث يمكن أن تحملها لآلاف الأميال.

    على اليابسة، يمكن للرياح أن تجرف الأرض، حاملةً البكتيريا والفطريات والكائنات الحية الأخرى.

    وفي كل صباح، عندما تشرق الشمس وتتبخر المياه في الهواء، يمكن أن تطلق أيضاً كائنات دقيقة.

    كما تُولّد حرائق الغابات، تيارات هوائية صاعدة عنيفة قادرة على امتصاص الميكروبات من الأرض ومن جذوع الأشجار وأوراقها، حاملةً إياها إلى الأعلى مع الدخان المتصاعد.

    ولا تنتظر العديد من أنواع الكائنات الحية القوى الفيزيائية لإطلاقها في الهواء.

    فالطحالب، على سبيل المثال، تُنبت ساقاً تحمل في طرفها كيساً من الأبواغ (خلية تكاثر لا جنسي في علم النبات)، تُطلقه كنفحات من الدخان في الهواء.

    وقد يسقط ما يصل إلى ستة ملايين من الأبواغ الطحلبية على متر مربع واحد من المستنقع خلال صيف واحد.

    إذ تتكاثر العديد من أنواع النباتات عبر إطلاق مليارات حبوب اللقاح جواً خلال كل ربيع.

    وتتميز الفطريات بمهارة خاصة في الطيران.

    فقد طورت مدافع بيولوجية ووسائل أخرى لإطلاق أبواغها في الهواء، كما أن أبواغها مُجهزة بأصداف متينة وتكيفات أخرى لتحمل الظروف القاسية التي تواجهها أثناء سفرها عالياً حتى طبقة الستراتوسفير.

    وقد عُثر على فطريات على ارتفاع يصل إلى 12 ميلاً (20 كيلومتراً)، فوق مياه المحيط الهادئ المفتوحة، وهي محمولة على الرياح.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، تُطلق الطحالب أعداداً هائلة من الأبواغ في الهواء من كبسولات في نهايات سيقانها

    ويُقدّر عدد الخلايا البكتيرية التي تصعد كل عام من اليابسة والبحر إلى السماء، بحوالي تريليون تريليون خلية.

    كما يُقدّر أن 50 مليون طن من أبواغ الفطريات تُحمل جواً في المدة الزمنية نفسها.

    وتصعد أعداد لا تُحصى من الفيروسات والأشنات والطحالب وغيرها من أشكال الحياة المجهرية إلى الهواء.

    ومن الشائع أن تسافر لأيام في الهواء قبل الهبوط، وخلال هذه الفترة يُمكن أن تُحلّق لمئات أو آلاف الأميال.

    وخلال هذه الرحلة، قد يطير كائن حي إلى منطقة من الهواء حيث يتكثف بخار الماء على شكل قطرات.

    وسرعان ما يجد هذا الكائن نفسه مُغلفاً بإحدى تلك القطرات، وقد تحمله التيارات الصاعدة إلى عمق أكبر داخل كتلة الماء. فيدخل عندئذٍ قلب سحابة.

    وقد جاء الكثير ممّا تعلمه العلماء عن الحياة في السحب، من قمة جبل في فرنسا يُسمى بوي دو دوم.

    إذ تشكلت هذه القمة قبل حوالي 11 ألف عام، عندما اصطدمت كتلة من الصهارة - المادة السائلة أو شبه السائلة الساخنة أسفل أو داخل قشرة الأرض تتكون منها الحمم البركانية والصخور النارية الأخرى عند التبريد - بتلال متموجة وسط فرنسا، مكونةً بركاناً تفجرت منه الحمم البركانية قبل أن يخمد بعد بضع مئات من السنين.

    وعلى مدار العشرين عاماً الماضية تقريباً، زُوِّدت محطة أرصاد جوية على قمة بوي دو دوم بأجهزة أخذ عينات من الهواء.

    ويرتفع الجبل عالياً لدرجة أنّ السحب تغطي قمته بانتظام، ما يسمح للعلماء بالتقاط بعض الكائنات الحية من عليها.

    وكشفت دراسات أجراها بيير أماتو، عالم الأحياء الهوائية في جامعة كليرمون أوفيرنيو الفرنسية القريبة من المنطقة، أن كل مليمتر من مياه السحابة التي تطفو فوق بوي دو دوم، يحتوي على ما يصل إلى 100,000 خلية. وقد كشف حمضها النووي أنّ بعضها ينتمي إلى أنواع مألوفة، لكن الكثير منها جديد على العلم.

    ويشعر العلماء الذين يستخدمون الحمض النووي لتحديد نوع هذه الكائنات، بالقلق الدائم بشأن إمكانية تلوث العينات، وأماتو ليس استثناءً.

    فعلى سبيل المثال، قد يحلق صقرٌ فوق أنابيب أماتو على بوي دو دوم وينفض الميكروبات عن ريشه.

    وفي مختبر أماتو أيضاً، قد يزفر طالب دراسات عليا وهو يعاين العينات، بعض الجراثيم في أنبوب الاختبار.

    وعلى مر السنين، رفض أماتو الاعتراف بآلاف الأنواع المحتملة، مشتبهاً بأن يكون هو أو طلابه قد لطخوا المعدات بميكروبات جلدية عن غير قصد.

    إلا أنّهم أعلنوا بثقة عن اكتشافهم أكثر من 28,000 نوع من البكتيريا في السحب، وأكثر من 2,600 نوع من الفطريات.

    ويشتبه أماتو وعلماء آخرون يدرسون السحب، في أنها قد تكون أماكن مثالية لبقاء البكتيريا على قيد الحياة - على الأقل لبعض الأنواع منها.

    وكتب أماتو وفريق من زملائه عام 2017: "السحب بيئات مفتوحة للجميع (جميع الأنواع)، ولكن بعضها فقط هو الذي يزدهر فيها".

    في السًحب، يعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصاً داخل قطرته الخاصة من المياه.

    تعتبر السحابة بالنسبة للبكتيريا، عالماً غريباً جداً، يختلف اختلافاً جذرياً عن بيئاتها التي تعيش فيها عادةً على اليابسة أو في البحر.

    إذ عادةً ما تتجمع البكتيريا في مجموعات.

    وفي الأنهار، قد تنمو لتشكل حصائر ميكروبية. وفي أمعائنا، تُشكل أغشية كثيفة.

    أمّا في السحب، فيعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصراً داخل قطرة ماء خاصة به.

    وتعني هذه العزلة، أنّ بكتيريا السحابة لا تضطر للتنافس مع بعضها البعض على الموارد المحدودة. لكن في الوقت نفسه، لا تملك قطرة الماء مساحة كافية لحمل العناصر الغذائية التي تحتاجها الميكروبات للنمو.

    ومع ذلك، وجد أماتو وزملاؤه أدلة على أنّ بعض الميكروبات يمكنها بالفعل النمو في السحب. ففي إحدى الدراسات، قارن الباحثون العينات التي جمعوها من السحب في بوي دو دوم، بعينات أخرى جمعوها من الجبل في أيام صافية.

    وبحث الباحثون عن أدلة على نشاطها، عبر مقارنة كمية الحمض النووي في عيناتهم بكمية الحمض النووي الريبوزي (RNA).

    إذ تُنتج الخلايا النشطة والنامية، نسخاً كثيرة من الحمض النووي الريبوزي من حمضها النووي بهدف إنتاج البروتينات.

    ووجد الباحثون أن نسبة الحمض النووي DNA إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA)، كانت أعلى بعدة مرات في السحب منها في الهواء النقي، وهو دليل قوي على ازدهار الخلايا في السحب. كما وجدوا أن البكتيريا الموجودة في السحب تُفعّل الجينات الأساسية لاستقلاب الغذاء والنمو.

    ولفهم كيفية ازدهار هذه البكتيريا في السحب، قام الباحثون بتربية بعض الأنواع التي التقطوها في مختبرهم، ثمّ وضعوها في غرف محاكاة للغلاف الجوي.

    ويستخدم أحد أنواع الميكروبات، المعروف باسم ميثيلوباكتيريوم، طاقة ضوء الشمس لتحليل الكربون العضوي داخل قطرات المياه في السحب.

    وبعبارة أخرى، تأكل هذه البكتيريا السحب. وبحسب أحد التقديرات، تكسر ميكروبات السحب مليون طن من الكربون العضوي في جميع أنحاء العالم سنوياً.

    وتشير نتائج كهذه إلى أن هذه الكائنات التي تعيش في الهواء قوةٌ لا يستهان بها، إذ تؤثر تأثيراً بالغاً على كيمياء الغلاف الجوي. بل إنها تغيّر حالة الطقس.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، لا تعيش البكتيريا والميكروبات الأخرى في السحب فحسب، بل تلعب دوراً في تكوينها أيضاُ

    وعندما تتشكل السحابة، تُنشئ تيارات هوائية صاعدة ترفع الهواء المحمّل بالماء إلى ارتفاعات عالية تكون باردةً بما يكفي لتحويل الماء إلى جليد. ثم يتساقط الجليد مجدداً. وإذا كان الهواء القريب من الأرض بارداً، فقد يهبط على شكل ثلج. وإذا كان دافئاً، فيتحول إلى مطر.

    وقد يكون من الصعب بشكل ملفت تكوّن الجليد في سحابة شديدة البرودة. حتى في درجات حرارة أقل بكثير من نقطة التجمد، يمكن لجزيئات الماء أن تبقى سائلة.

    ومع ذلك، فإنّ إحدى طرق تحفيز تكوّن الجليد هي منحها بذرةً من الشوائب.

    فعندما تلتصق جزيئات الماء بسطح الجسيم، فإنها تترابط مع بعضها البعض، في عملية تُعرف باسم التنوي. ثمّ تلتصق بها جزيئات ماء أخرى وتتجمع في بنية بلورية (تشبه الكريستال)، والتي عندما تصبح ثقيلة بما يكفي، ستسقط من السماء.

    وقد اتضح أن الجزيئات البيولوجية وجدران الخلايا بارعةٌ للغاية في تحفيز هطول المطر. فالفطريات والطحالب وحبوب اللقاح والأشنات والبكتيريا، وحتى الفيروسات، قادرةٌ على تكوين الجليد في السحب.

    من الممكن أيضاً أن تكون السحب والحياة مرتبطتان في دورةٍ وثيقة، لا تقتصر على العيش والتهام السحب فقط، بل تُساعدها أصلاً على التشكل.

    وتُعدّ بكتيريا الزائفة الزنجارية (Pseudomonas) من أفضل مُنتجات المطر.

    ولا يعلم العلماء سبب براعة هذه البكتيريا تحديداً في تكوين الجليد في السحب، ولكن قد يكون ذلك مرتبطاً بطريقة نموها على الأوراق.

    فعندما يهطل مطرٌ بارد على ورقة، قد تُساعد الزائفة الزنجارية الماء السائل على التحول إلى جليد عند درجات حرارة أعلى من المعتاد. وعندما تفتح شقوق الجليد الأوراق، يُمكن للبكتيريا أن تتغذى على العناصر الغذائية الموجودة بداخلها.

    حتى أنّ بعض العلماء تكهّنوا بأنّ النباتات ترحب ببكتيريا مثل الزائفة الزنجارية، على الرغم من الضرر الذي تُسببه.

    وعندما تزيل الرياح البكتيريا عن النباتات وتدفعها في الهواء، ترتفع لتصل إلى السُحب في السماء. وتُمطر السحب المُلقحة بالزائفة الزنجارية المزيد من المطر على النباتات تحتها.

    وتستخدم النباتات مياه هذه الأمطار لإنتاج المزيد من الأوراق، وتنمي هذه الأوراق المزيد من البكتيريا، التي ترتفع بدورها إلى السماء وتُحفز السحب لإنتاج المزيد من الأمطار لتغذية الحياة في الأسفل.

    وإذا ثبتت صحة هذا التكهن، فسيكون ذلك تكافلاً مهيباً في علم الأحياء، يربط الغابات بالسماء.

    كما تُثير الأبحاث حول الحياة في السحب، احتمال وجود كائنات حية محمولة جواً على كواكب أخرى - حتى تلك التي قد تبدو أسوأ الأماكن للحياة.

    فكوكب الزهرة، على سبيل المثال، يتمتع بدرجة حرارة سطحية عالية بما يكفي لإذابة الرصاص. لكنّ السحب التي تُغطي الزهرة أبرد بكثير، وربما تكون مناسبة لاستمرار الحياة.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، توجد بكتيريا الزائفة الزنجارية بشكل شائع في التربة وعلى النباتات، ولكنها قد تتكيف بشكل خاص كبذور لتكوين الجليد

    وقد تكهنت سارة سيغر، عالمة الأحياء الفلكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بأنّ الحياة ربما نشأت على سطح كوكب الزهرة في وقت مبكر من تاريخه، عندما كان أكثر برودة ورطوبة.

    ومع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، ربما وجدت بعض الميكروبات ملجأً لها في السحب. وتقول إنه بدلاً من أن تغرق عائدةً إلى السطح، ربما طفت صعوداً وهبوطاً في الغلاف الجوي، راكبةً التيارات الهوائية لملايين السنين.

    إن التفكير في بيئة "سيغر" الهوائية الغريبة يمكن أن يجعل تأمل السحب أكثر متعة.

    ولكن عندما ننظر إلى السحب، فإننا ننظر أيضاً إلى تأثيرنا على العالم، بحسب ما كشفته أبحاث أماتو.

    وعندما قام أماتو وزملاؤه بمسح الجينات في الميكروبات التي يلتقطونها، وجدوا أنّ عدداً كبيراً من هذه الجينات يمنح البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

    أمّا على الأرض، فقد حفزنا نحن البشر التطور الواسع النطاق لهذه الجينات المقاومة.

    فعبر تناولنا كميات زائدة من البنسلين والأدوية الأخرى لمكافحة العدوى، قمنا بتقوية طفرات يمكنها مقاومة هذه المضادات.

    وما يزيد الطين بلة، أنّ المزارعين يُطعمون الدجاج والخنازير وغيرها من الماشية المضادات الحيوية كي تنمو إلى أحجام أكبر.

    وفي عام 2014 وحده، توفي 700 ألف شخص حول العالم بسبب عدوى بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

    وبعد خمس سنوات، ارتفع العدد إلى 1.27 مليون.

    وتتطور مقاومة المضادات الحيوية داخل أجسام البشر والحيوانات التي يأكلونها.

    ثم تهرب البكتيريا المُكتسبة لهذه المقاومة من حاضناتها وتشق طريقها عبر البيئة - إلى التربة، وإلى مجاري المياه، بل وحتى إلى الهواء.

    وقد وجد الباحثون مستويات عالية من هذه الجينات المقاومة في البكتيريا التي تطفو في المستشفيات وحول مزارع الخنازير.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، يمكن للرياح أن تحمل الغبار والميكروبات لمسافات تصل إلى مئات، وأحياناً آلاف الأميال

    لكنّ جينات البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية يمكن أن تنتشر جواً لمسافات أبعد بكثير.

    فقد فحص فريق دولي من العلماء، فلاتر مكيفات هواء السيارات في تسع عشرة مدينة حول العالم.

    ووجدوا أنّ هذه الفلاتر قد التقطت تنوعاً غنياً من البكتيريا المقاومة. بمعنى آخر، يبدو أنّ جينات المقاومة تطفو عبر المدن.

    وفي السنوات الأخيرة، رصد أماتو وزملاؤه رحلات أطول لهذه الجينات.

    ففي مسحٍ أُجري عام 2023 للسحب، أفاد الباحثون بالعثور على بكتيريا تحمل 29 نوعاً مختلفاً من جينات المقاومة للمضادات الحيوية فيها.

    وقد تحمل بكتيريا واحدة محمولة في الهواء، ما يصل إلى تسعة جينات مقاومة، كل منها يوفر دفاعاً مختلفاً ضد الأدوية.

    وقدّر الباحثون أنّ كل متر مكعب من سحابة واحدة، يحتوي على ما يصل إلى 10 ألف جين مقاوم للمضادات الحيوية.

    وقد تحتوي سحابة عادية تطفو فوق رؤوسنا على أكثر من تريليون جين منها.

    ويعتقد أماتو وزملاؤه أنّ السحب تحتوي على هذا العدد الكبير من جينات المقاومة لأنها تساعد البكتيريا على البقاء على قيد الحياة.

    وتُوفر بعض الجينات، مقاومة للمضادات الحيوية، من خلال السماح للبكتيريا بضخ الأدوية خارج أنسجتها بسرعة، والتخلص منها قبل أن تُسبب لها ضرراً.

    وقد يدفع ضغط الحياة في السحابة، البكتيريا إلى إنتاج نفايات سامة تحتاج إلى ضخها الى خارج أنسجتها بسرعة أيضاً.

    وقد تتمكن السحب من نشر جينات المقاومة للمضادات الحيوية هذه إلى أبعد من اللحوم والمياه الملوثة.

    فبمجرد دخول البكتيريا إلى السحابة، يمكنها السفر مئات الأميال في غضون أيام، قبل أن تُنثر قطرات المطر وتسقط عائدةً إلى الأرض.

    وعندما تصل هذه الميكروبات إلى الأرض، قد تنقل جيناتها المقاومة إلى ميكروبات أخرى تصادفها في بيئتها الجديدة.

    ويقدر أماتو وزملاؤه أن 2.2 تريليون تريليون جين مقاوم للمضادات الحيوية يتساقط من الغيوم سنوياً.

    سيكون تذكر هذه المعلومة صادماً لنا أثناء تنزهنا تحت المطر. فنحن نسير وسط سيل من الحمض النووي الذي صنعناه بأنفسنا.

    كارل زيمر

    كارل زيمر كاتب عمود "أويجينز" (الأصول) في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، ومؤلف 15 كتاباً علمياً. أحدث كتبه هو "المحمول جواً: التاريخ الخفي للحياة التي نتنفسها"، وهو الكتاب المقتبس منه هذا المقال.

    الأخبار الرئيسية

    اخترنا لكم

    تفضيلات القراء

    1. 1
    2. 2
    3. 3
    4. 4
    5. 5
    6. 6
    7. 7
    8. 8
    9. 9
    10. 10


    كيف تؤثر الميكروبات التي تعيش في السُحب على حياتنا

    صدر الصورة، Getty Images

      • Author, كارل زيمر
      • Role,

    تجوب تريليونات من البكتيريا والفطريات والفيروسات والكائنات وحيدة الخلية، أعالي الغلاف الجوي للكرة الأرضية.

    والعلماء في طور اكتشاف أنها تؤثر بشكل كبير في الطقس، وحتى على صحتنا.

    السحب رفيقتنا الدائمة خلال حياتنا. تطفو فوقنا أحياناً على شكل خيوط رفيعة. وفي أيام أخرى، تُظلم السماء وتُسقط علينا المطر.

    ولكن، وعلى الرغم من معرفتنا بهذه الأغطية التي تتشكل من بخار الماء، إلا أنها تُخفي عنا سراً.

    • للاستمتاع بمعلومات شيقة ومفيدة حول صحتك، انضم إلى قناتنا على واتساب ().

    فالسحب في الحقيقة، جزر عائمة من الحياة، إذ هي موطن لتريليونات الكائنات الحية من آلاف الأنواع.

    الأكثر قراءة

    الأكثر قراءة نهاية

    إذ يجوب الهواء إلى جانب الطيور واليعسوب وبذور الهندباء، محيط شاسع من الكائنات الحية الدقيقة (الميكروبات)، أي الأحياء التي لا تُرى بالعين المجردة.

    كان الكيميائي الفرنسي لويس باستور، من أوائل العلماء الذين تعرفوا على ما يُطلق عليه العلماء اليوم اسم "الأيروبيوم" عام 1860.

    تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي

    اضغط هنا

    يستحق الانتباه نهاية

    ويشير مصطلح "الأيروبيوم" إلى مجموعة الكائنات الحية الدقيقة، بما في ذلك البكتيريا والفطريات والميكروبات الأخرى، التي تعيش في الغلاف الجوي للأرض.

    رفع باستور في الهواء، قوارير معقمة مليئة بمرق ( حساء) اللحوم الصافي، وسمح للجراثيم العائمة بالاستقرار فيها، ما جعل المرق الصافي عكراً.

    التقط باستور الجراثيم في شوارع باريس، وفي الريف الفرنسي، وحتى على قمة نهر جليدي في جبال الألب. لكن معاصريه رفضوا فكرته. وقال أحد الصحفيين لباستيور آنذاك: "العالم الذي ترغب في أن تأخذنا إليه خيالي للغاية".

    استغرق الأمر عقوداً حتى يتقبل الناس حقيقة وجود هذه الكائنات الحية التي تعيش في البيئة الهوائية.

    في ثلاثينيات القرن العشرين، حلق بعض العلماء في السماء بالطائرات، حاملين شرائح وأطباق بتري - وهي أطباق دائرية شفافة ذات غطاء مسطح، تستخدم لزراعة الكائنات الحية الدقيقة في المختبرات الطبية - لالتقاط جراثيم فطرية وبكتيريا تعيش في الهواء.

    كما أطلقت رحلات بالمناطيد إلى الغلاف الجوي العلوي (الستراتوسفير) لالتقاط الخلايا أيضاً.

    اليوم، في القرن الحادي والعشرين، ينشر علماء الأحياء الهوائية أجهزة متطورة لجمع عينات الهواء على طائرات بدون طيار.

    كما يستخدمون تقنية تسلسل الحمض النووي لتحديد الكائنات الحية المحمولة جواً من خلال جيناتها.

    ويُدرك الباحثون الآن أنّ البيئة الهوائية هي موطن هائل يعج بالزوار من الكائنات الحية.

    يأتي هؤلاء الزوار من معظم أسطح كوكب الأرض.

    في كل مرة تتحطم فيها موجة في المحيط، تُقذف قطرات دقيقة من مياه البحر في الهواء، ويكون بعضها يحمل فيروسات وبكتيريا وطحالب وكائنات حية وحيدة الخلية أخرى.

    وبينما تسقط بعض هذه القطرات بسرعة عائدةً إلى المحيط، تلتقط الرياح بعضها الآخر وترتفع إلى السماء، حيث يمكن أن تحملها لآلاف الأميال.

    على اليابسة، يمكن للرياح أن تجرف الأرض، حاملةً البكتيريا والفطريات والكائنات الحية الأخرى.

    وفي كل صباح، عندما تشرق الشمس وتتبخر المياه في الهواء، يمكن أن تطلق أيضاً كائنات دقيقة.

    كما تُولّد حرائق الغابات، تيارات هوائية صاعدة عنيفة قادرة على امتصاص الميكروبات من الأرض ومن جذوع الأشجار وأوراقها، حاملةً إياها إلى الأعلى مع الدخان المتصاعد.

    ولا تنتظر العديد من أنواع الكائنات الحية القوى الفيزيائية لإطلاقها في الهواء.

    فالطحالب، على سبيل المثال، تُنبت ساقاً تحمل في طرفها كيساً من الأبواغ (خلية تكاثر لا جنسي في علم النبات)، تُطلقه كنفحات من الدخان في الهواء.

    وقد يسقط ما يصل إلى ستة ملايين من الأبواغ الطحلبية على متر مربع واحد من المستنقع خلال صيف واحد.

    إذ تتكاثر العديد من أنواع النباتات عبر إطلاق مليارات حبوب اللقاح جواً خلال كل ربيع.

    وتتميز الفطريات بمهارة خاصة في الطيران.

    فقد طورت مدافع بيولوجية ووسائل أخرى لإطلاق أبواغها في الهواء، كما أن أبواغها مُجهزة بأصداف متينة وتكيفات أخرى لتحمل الظروف القاسية التي تواجهها أثناء سفرها عالياً حتى طبقة الستراتوسفير.

    وقد عُثر على فطريات على ارتفاع يصل إلى 12 ميلاً (20 كيلومتراً)، فوق مياه المحيط الهادئ المفتوحة، وهي محمولة على الرياح.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، تُطلق الطحالب أعداداً هائلة من الأبواغ في الهواء من كبسولات في نهايات سيقانها

    ويُقدّر عدد الخلايا البكتيرية التي تصعد كل عام من اليابسة والبحر إلى السماء، بحوالي تريليون تريليون خلية.

    كما يُقدّر أن 50 مليون طن من أبواغ الفطريات تُحمل جواً في المدة الزمنية نفسها.

    وتصعد أعداد لا تُحصى من الفيروسات والأشنات والطحالب وغيرها من أشكال الحياة المجهرية إلى الهواء.

    ومن الشائع أن تسافر لأيام في الهواء قبل الهبوط، وخلال هذه الفترة يُمكن أن تُحلّق لمئات أو آلاف الأميال.

    وخلال هذه الرحلة، قد يطير كائن حي إلى منطقة من الهواء حيث يتكثف بخار الماء على شكل قطرات.

    وسرعان ما يجد هذا الكائن نفسه مُغلفاً بإحدى تلك القطرات، وقد تحمله التيارات الصاعدة إلى عمق أكبر داخل كتلة الماء. فيدخل عندئذٍ قلب سحابة.

    وقد جاء الكثير ممّا تعلمه العلماء عن الحياة في السحب، من قمة جبل في فرنسا يُسمى بوي دو دوم.

    إذ تشكلت هذه القمة قبل حوالي 11 ألف عام، عندما اصطدمت كتلة من الصهارة - المادة السائلة أو شبه السائلة الساخنة أسفل أو داخل قشرة الأرض تتكون منها الحمم البركانية والصخور النارية الأخرى عند التبريد - بتلال متموجة وسط فرنسا، مكونةً بركاناً تفجرت منه الحمم البركانية قبل أن يخمد بعد بضع مئات من السنين.

    وعلى مدار العشرين عاماً الماضية تقريباً، زُوِّدت محطة أرصاد جوية على قمة بوي دو دوم بأجهزة أخذ عينات من الهواء.

    ويرتفع الجبل عالياً لدرجة أنّ السحب تغطي قمته بانتظام، ما يسمح للعلماء بالتقاط بعض الكائنات الحية من عليها.

    وكشفت دراسات أجراها بيير أماتو، عالم الأحياء الهوائية في جامعة كليرمون أوفيرنيو الفرنسية القريبة من المنطقة، أن كل مليمتر من مياه السحابة التي تطفو فوق بوي دو دوم، يحتوي على ما يصل إلى 100,000 خلية. وقد كشف حمضها النووي أنّ بعضها ينتمي إلى أنواع مألوفة، لكن الكثير منها جديد على العلم.

    ويشعر العلماء الذين يستخدمون الحمض النووي لتحديد نوع هذه الكائنات، بالقلق الدائم بشأن إمكانية تلوث العينات، وأماتو ليس استثناءً.

    فعلى سبيل المثال، قد يحلق صقرٌ فوق أنابيب أماتو على بوي دو دوم وينفض الميكروبات عن ريشه.

    وفي مختبر أماتو أيضاً، قد يزفر طالب دراسات عليا وهو يعاين العينات، بعض الجراثيم في أنبوب الاختبار.

    وعلى مر السنين، رفض أماتو الاعتراف بآلاف الأنواع المحتملة، مشتبهاً بأن يكون هو أو طلابه قد لطخوا المعدات بميكروبات جلدية عن غير قصد.

    إلا أنّهم أعلنوا بثقة عن اكتشافهم أكثر من 28,000 نوع من البكتيريا في السحب، وأكثر من 2,600 نوع من الفطريات.

    ويشتبه أماتو وعلماء آخرون يدرسون السحب، في أنها قد تكون أماكن مثالية لبقاء البكتيريا على قيد الحياة - على الأقل لبعض الأنواع منها.

    وكتب أماتو وفريق من زملائه عام 2017: "السحب بيئات مفتوحة للجميع (جميع الأنواع)، ولكن بعضها فقط هو الذي يزدهر فيها".

    في السًحب، يعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصاً داخل قطرته الخاصة من المياه.

    تعتبر السحابة بالنسبة للبكتيريا، عالماً غريباً جداً، يختلف اختلافاً جذرياً عن بيئاتها التي تعيش فيها عادةً على اليابسة أو في البحر.

    إذ عادةً ما تتجمع البكتيريا في مجموعات.

    وفي الأنهار، قد تنمو لتشكل حصائر ميكروبية. وفي أمعائنا، تُشكل أغشية كثيفة.

    أمّا في السحب، فيعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصراً داخل قطرة ماء خاصة به.

    وتعني هذه العزلة، أنّ بكتيريا السحابة لا تضطر للتنافس مع بعضها البعض على الموارد المحدودة. لكن في الوقت نفسه، لا تملك قطرة الماء مساحة كافية لحمل العناصر الغذائية التي تحتاجها الميكروبات للنمو.

    ومع ذلك، وجد أماتو وزملاؤه أدلة على أنّ بعض الميكروبات يمكنها بالفعل النمو في السحب. ففي إحدى الدراسات، قارن الباحثون العينات التي جمعوها من السحب في بوي دو دوم، بعينات أخرى جمعوها من الجبل في أيام صافية.

    وبحث الباحثون عن أدلة على نشاطها، عبر مقارنة كمية الحمض النووي في عيناتهم بكمية الحمض النووي الريبوزي (RNA).

    إذ تُنتج الخلايا النشطة والنامية، نسخاً كثيرة من الحمض النووي الريبوزي من حمضها النووي بهدف إنتاج البروتينات.

    ووجد الباحثون أن نسبة الحمض النووي DNA إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA)، كانت أعلى بعدة مرات في السحب منها في الهواء النقي، وهو دليل قوي على ازدهار الخلايا في السحب. كما وجدوا أن البكتيريا الموجودة في السحب تُفعّل الجينات الأساسية لاستقلاب الغذاء والنمو.

    ولفهم كيفية ازدهار هذه البكتيريا في السحب، قام الباحثون بتربية بعض الأنواع التي التقطوها في مختبرهم، ثمّ وضعوها في غرف محاكاة للغلاف الجوي.

    ويستخدم أحد أنواع الميكروبات، المعروف باسم ميثيلوباكتيريوم، طاقة ضوء الشمس لتحليل الكربون العضوي داخل قطرات المياه في السحب.

    وبعبارة أخرى، تأكل هذه البكتيريا السحب. وبحسب أحد التقديرات، تكسر ميكروبات السحب مليون طن من الكربون العضوي في جميع أنحاء العالم سنوياً.

    وتشير نتائج كهذه إلى أن هذه الكائنات التي تعيش في الهواء قوةٌ لا يستهان بها، إذ تؤثر تأثيراً بالغاً على كيمياء الغلاف الجوي. بل إنها تغيّر حالة الطقس.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، لا تعيش البكتيريا والميكروبات الأخرى في السحب فحسب، بل تلعب دوراً في تكوينها أيضاُ

    وعندما تتشكل السحابة، تُنشئ تيارات هوائية صاعدة ترفع الهواء المحمّل بالماء إلى ارتفاعات عالية تكون باردةً بما يكفي لتحويل الماء إلى جليد. ثم يتساقط الجليد مجدداً. وإذا كان الهواء القريب من الأرض بارداً، فقد يهبط على شكل ثلج. وإذا كان دافئاً، فيتحول إلى مطر.

    وقد يكون من الصعب بشكل ملفت تكوّن الجليد في سحابة شديدة البرودة. حتى في درجات حرارة أقل بكثير من نقطة التجمد، يمكن لجزيئات الماء أن تبقى سائلة.

    ومع ذلك، فإنّ إحدى طرق تحفيز تكوّن الجليد هي منحها بذرةً من الشوائب.

    فعندما تلتصق جزيئات الماء بسطح الجسيم، فإنها تترابط مع بعضها البعض، في عملية تُعرف باسم التنوي. ثمّ تلتصق بها جزيئات ماء أخرى وتتجمع في بنية بلورية (تشبه الكريستال)، والتي عندما تصبح ثقيلة بما يكفي، ستسقط من السماء.

    وقد اتضح أن الجزيئات البيولوجية وجدران الخلايا بارعةٌ للغاية في تحفيز هطول المطر. فالفطريات والطحالب وحبوب اللقاح والأشنات والبكتيريا، وحتى الفيروسات، قادرةٌ على تكوين الجليد في السحب.

    من الممكن أيضاً أن تكون السحب والحياة مرتبطتان في دورةٍ وثيقة، لا تقتصر على العيش والتهام السحب فقط، بل تُساعدها أصلاً على التشكل.

    وتُعدّ بكتيريا الزائفة الزنجارية (Pseudomonas) من أفضل مُنتجات المطر.

    ولا يعلم العلماء سبب براعة هذه البكتيريا تحديداً في تكوين الجليد في السحب، ولكن قد يكون ذلك مرتبطاً بطريقة نموها على الأوراق.

    فعندما يهطل مطرٌ بارد على ورقة، قد تُساعد الزائفة الزنجارية الماء السائل على التحول إلى جليد عند درجات حرارة أعلى من المعتاد. وعندما تفتح شقوق الجليد الأوراق، يُمكن للبكتيريا أن تتغذى على العناصر الغذائية الموجودة بداخلها.

    حتى أنّ بعض العلماء تكهّنوا بأنّ النباتات ترحب ببكتيريا مثل الزائفة الزنجارية، على الرغم من الضرر الذي تُسببه.

    وعندما تزيل الرياح البكتيريا عن النباتات وتدفعها في الهواء، ترتفع لتصل إلى السُحب في السماء. وتُمطر السحب المُلقحة بالزائفة الزنجارية المزيد من المطر على النباتات تحتها.

    وتستخدم النباتات مياه هذه الأمطار لإنتاج المزيد من الأوراق، وتنمي هذه الأوراق المزيد من البكتيريا، التي ترتفع بدورها إلى السماء وتُحفز السحب لإنتاج المزيد من الأمطار لتغذية الحياة في الأسفل.

    وإذا ثبتت صحة هذا التكهن، فسيكون ذلك تكافلاً مهيباً في علم الأحياء، يربط الغابات بالسماء.

    كما تُثير الأبحاث حول الحياة في السحب، احتمال وجود كائنات حية محمولة جواً على كواكب أخرى - حتى تلك التي قد تبدو أسوأ الأماكن للحياة.

    فكوكب الزهرة، على سبيل المثال، يتمتع بدرجة حرارة سطحية عالية بما يكفي لإذابة الرصاص. لكنّ السحب التي تُغطي الزهرة أبرد بكثير، وربما تكون مناسبة لاستمرار الحياة.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، توجد بكتيريا الزائفة الزنجارية بشكل شائع في التربة وعلى النباتات، ولكنها قد تتكيف بشكل خاص كبذور لتكوين الجليد

    وقد تكهنت سارة سيغر، عالمة الأحياء الفلكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بأنّ الحياة ربما نشأت على سطح كوكب الزهرة في وقت مبكر من تاريخه، عندما كان أكثر برودة ورطوبة.

    ومع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، ربما وجدت بعض الميكروبات ملجأً لها في السحب. وتقول إنه بدلاً من أن تغرق عائدةً إلى السطح، ربما طفت صعوداً وهبوطاً في الغلاف الجوي، راكبةً التيارات الهوائية لملايين السنين.

    إن التفكير في بيئة "سيغر" الهوائية الغريبة يمكن أن يجعل تأمل السحب أكثر متعة.

    ولكن عندما ننظر إلى السحب، فإننا ننظر أيضاً إلى تأثيرنا على العالم، بحسب ما كشفته أبحاث أماتو.

    وعندما قام أماتو وزملاؤه بمسح الجينات في الميكروبات التي يلتقطونها، وجدوا أنّ عدداً كبيراً من هذه الجينات يمنح البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

    أمّا على الأرض، فقد حفزنا نحن البشر التطور الواسع النطاق لهذه الجينات المقاومة.

    فعبر تناولنا كميات زائدة من البنسلين والأدوية الأخرى لمكافحة العدوى، قمنا بتقوية طفرات يمكنها مقاومة هذه المضادات.

    وما يزيد الطين بلة، أنّ المزارعين يُطعمون الدجاج والخنازير وغيرها من الماشية المضادات الحيوية كي تنمو إلى أحجام أكبر.

    وفي عام 2014 وحده، توفي 700 ألف شخص حول العالم بسبب عدوى بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

    وبعد خمس سنوات، ارتفع العدد إلى 1.27 مليون.

    وتتطور مقاومة المضادات الحيوية داخل أجسام البشر والحيوانات التي يأكلونها.

    ثم تهرب البكتيريا المُكتسبة لهذه المقاومة من حاضناتها وتشق طريقها عبر البيئة - إلى التربة، وإلى مجاري المياه، بل وحتى إلى الهواء.

    وقد وجد الباحثون مستويات عالية من هذه الجينات المقاومة في البكتيريا التي تطفو في المستشفيات وحول مزارع الخنازير.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، يمكن للرياح أن تحمل الغبار والميكروبات لمسافات تصل إلى مئات، وأحياناً آلاف الأميال

    لكنّ جينات البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية يمكن أن تنتشر جواً لمسافات أبعد بكثير.

    فقد فحص فريق دولي من العلماء، فلاتر مكيفات هواء السيارات في تسع عشرة مدينة حول العالم.

    ووجدوا أنّ هذه الفلاتر قد التقطت تنوعاً غنياً من البكتيريا المقاومة. بمعنى آخر، يبدو أنّ جينات المقاومة تطفو عبر المدن.

    وفي السنوات الأخيرة، رصد أماتو وزملاؤه رحلات أطول لهذه الجينات.

    ففي مسحٍ أُجري عام 2023 للسحب، أفاد الباحثون بالعثور على بكتيريا تحمل 29 نوعاً مختلفاً من جينات المقاومة للمضادات الحيوية فيها.

    وقد تحمل بكتيريا واحدة محمولة في الهواء، ما يصل إلى تسعة جينات مقاومة، كل منها يوفر دفاعاً مختلفاً ضد الأدوية.

    وقدّر الباحثون أنّ كل متر مكعب من سحابة واحدة، يحتوي على ما يصل إلى 10 ألف جين مقاوم للمضادات الحيوية.

    وقد تحتوي سحابة عادية تطفو فوق رؤوسنا على أكثر من تريليون جين منها.

    ويعتقد أماتو وزملاؤه أنّ السحب تحتوي على هذا العدد الكبير من جينات المقاومة لأنها تساعد البكتيريا على البقاء على قيد الحياة.

    وتُوفر بعض الجينات، مقاومة للمضادات الحيوية، من خلال السماح للبكتيريا بضخ الأدوية خارج أنسجتها بسرعة، والتخلص منها قبل أن تُسبب لها ضرراً.

    وقد يدفع ضغط الحياة في السحابة، البكتيريا إلى إنتاج نفايات سامة تحتاج إلى ضخها الى خارج أنسجتها بسرعة أيضاً.

    وقد تتمكن السحب من نشر جينات المقاومة للمضادات الحيوية هذه إلى أبعد من اللحوم والمياه الملوثة.

    فبمجرد دخول البكتيريا إلى السحابة، يمكنها السفر مئات الأميال في غضون أيام، قبل أن تُنثر قطرات المطر وتسقط عائدةً إلى الأرض.

    وعندما تصل هذه الميكروبات إلى الأرض، قد تنقل جيناتها المقاومة إلى ميكروبات أخرى تصادفها في بيئتها الجديدة.

    ويقدر أماتو وزملاؤه أن 2.2 تريليون تريليون جين مقاوم للمضادات الحيوية يتساقط من الغيوم سنوياً.

    سيكون تذكر هذه المعلومة صادماً لنا أثناء تنزهنا تحت المطر. فنحن نسير وسط سيل من الحمض النووي الذي صنعناه بأنفسنا.

    كارل زيمر

    كارل زيمر كاتب عمود "أويجينز" (الأصول) في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، ومؤلف 15 كتاباً علمياً. أحدث كتبه هو "المحمول جواً: التاريخ الخفي للحياة التي نتنفسها"، وهو الكتاب المقتبس منه هذا المقال.

    الأخبار الرئيسية

    اخترنا لكم


    كيف تؤثر الميكروبات التي تعيش في السُحب على حياتنا

    صدر الصورة، Getty Images

      • Author, كارل زيمر
      • Role,

    تجوب تريليونات من البكتيريا والفطريات والفيروسات والكائنات وحيدة الخلية، أعالي الغلاف الجوي للكرة الأرضية.

    والعلماء في طور اكتشاف أنها تؤثر بشكل كبير في الطقس، وحتى على صحتنا.

    السحب رفيقتنا الدائمة خلال حياتنا. تطفو فوقنا أحياناً على شكل خيوط رفيعة. وفي أيام أخرى، تُظلم السماء وتُسقط علينا المطر.

    ولكن، وعلى الرغم من معرفتنا بهذه الأغطية التي تتشكل من بخار الماء، إلا أنها تُخفي عنا سراً.

    • للاستمتاع بمعلومات شيقة ومفيدة حول صحتك، انضم إلى قناتنا على واتساب ().

    فالسحب في الحقيقة، جزر عائمة من الحياة، إذ هي موطن لتريليونات الكائنات الحية من آلاف الأنواع.

    الأكثر قراءة

    الأكثر قراءة نهاية

    إذ يجوب الهواء إلى جانب الطيور واليعسوب وبذور الهندباء، محيط شاسع من الكائنات الحية الدقيقة (الميكروبات)، أي الأحياء التي لا تُرى بالعين المجردة.

    كان الكيميائي الفرنسي لويس باستور، من أوائل العلماء الذين تعرفوا على ما يُطلق عليه العلماء اليوم اسم "الأيروبيوم" عام 1860.

    تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي

    اضغط هنا

    يستحق الانتباه نهاية

    ويشير مصطلح "الأيروبيوم" إلى مجموعة الكائنات الحية الدقيقة، بما في ذلك البكتيريا والفطريات والميكروبات الأخرى، التي تعيش في الغلاف الجوي للأرض.

    رفع باستور في الهواء، قوارير معقمة مليئة بمرق ( حساء) اللحوم الصافي، وسمح للجراثيم العائمة بالاستقرار فيها، ما جعل المرق الصافي عكراً.

    التقط باستور الجراثيم في شوارع باريس، وفي الريف الفرنسي، وحتى على قمة نهر جليدي في جبال الألب. لكن معاصريه رفضوا فكرته. وقال أحد الصحفيين لباستيور آنذاك: "العالم الذي ترغب في أن تأخذنا إليه خيالي للغاية".

    استغرق الأمر عقوداً حتى يتقبل الناس حقيقة وجود هذه الكائنات الحية التي تعيش في البيئة الهوائية.

    في ثلاثينيات القرن العشرين، حلق بعض العلماء في السماء بالطائرات، حاملين شرائح وأطباق بتري - وهي أطباق دائرية شفافة ذات غطاء مسطح، تستخدم لزراعة الكائنات الحية الدقيقة في المختبرات الطبية - لالتقاط جراثيم فطرية وبكتيريا تعيش في الهواء.

    كما أطلقت رحلات بالمناطيد إلى الغلاف الجوي العلوي (الستراتوسفير) لالتقاط الخلايا أيضاً.

    اليوم، في القرن الحادي والعشرين، ينشر علماء الأحياء الهوائية أجهزة متطورة لجمع عينات الهواء على طائرات بدون طيار.

    كما يستخدمون تقنية تسلسل الحمض النووي لتحديد الكائنات الحية المحمولة جواً من خلال جيناتها.

    ويُدرك الباحثون الآن أنّ البيئة الهوائية هي موطن هائل يعج بالزوار من الكائنات الحية.

    يأتي هؤلاء الزوار من معظم أسطح كوكب الأرض.

    في كل مرة تتحطم فيها موجة في المحيط، تُقذف قطرات دقيقة من مياه البحر في الهواء، ويكون بعضها يحمل فيروسات وبكتيريا وطحالب وكائنات حية وحيدة الخلية أخرى.

    وبينما تسقط بعض هذه القطرات بسرعة عائدةً إلى المحيط، تلتقط الرياح بعضها الآخر وترتفع إلى السماء، حيث يمكن أن تحملها لآلاف الأميال.

    على اليابسة، يمكن للرياح أن تجرف الأرض، حاملةً البكتيريا والفطريات والكائنات الحية الأخرى.

    وفي كل صباح، عندما تشرق الشمس وتتبخر المياه في الهواء، يمكن أن تطلق أيضاً كائنات دقيقة.

    كما تُولّد حرائق الغابات، تيارات هوائية صاعدة عنيفة قادرة على امتصاص الميكروبات من الأرض ومن جذوع الأشجار وأوراقها، حاملةً إياها إلى الأعلى مع الدخان المتصاعد.

    ولا تنتظر العديد من أنواع الكائنات الحية القوى الفيزيائية لإطلاقها في الهواء.

    فالطحالب، على سبيل المثال، تُنبت ساقاً تحمل في طرفها كيساً من الأبواغ (خلية تكاثر لا جنسي في علم النبات)، تُطلقه كنفحات من الدخان في الهواء.

    وقد يسقط ما يصل إلى ستة ملايين من الأبواغ الطحلبية على متر مربع واحد من المستنقع خلال صيف واحد.

    إذ تتكاثر العديد من أنواع النباتات عبر إطلاق مليارات حبوب اللقاح جواً خلال كل ربيع.

    وتتميز الفطريات بمهارة خاصة في الطيران.

    فقد طورت مدافع بيولوجية ووسائل أخرى لإطلاق أبواغها في الهواء، كما أن أبواغها مُجهزة بأصداف متينة وتكيفات أخرى لتحمل الظروف القاسية التي تواجهها أثناء سفرها عالياً حتى طبقة الستراتوسفير.

    وقد عُثر على فطريات على ارتفاع يصل إلى 12 ميلاً (20 كيلومتراً)، فوق مياه المحيط الهادئ المفتوحة، وهي محمولة على الرياح.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، تُطلق الطحالب أعداداً هائلة من الأبواغ في الهواء من كبسولات في نهايات سيقانها

    ويُقدّر عدد الخلايا البكتيرية التي تصعد كل عام من اليابسة والبحر إلى السماء، بحوالي تريليون تريليون خلية.

    كما يُقدّر أن 50 مليون طن من أبواغ الفطريات تُحمل جواً في المدة الزمنية نفسها.

    وتصعد أعداد لا تُحصى من الفيروسات والأشنات والطحالب وغيرها من أشكال الحياة المجهرية إلى الهواء.

    ومن الشائع أن تسافر لأيام في الهواء قبل الهبوط، وخلال هذه الفترة يُمكن أن تُحلّق لمئات أو آلاف الأميال.

    وخلال هذه الرحلة، قد يطير كائن حي إلى منطقة من الهواء حيث يتكثف بخار الماء على شكل قطرات.

    وسرعان ما يجد هذا الكائن نفسه مُغلفاً بإحدى تلك القطرات، وقد تحمله التيارات الصاعدة إلى عمق أكبر داخل كتلة الماء. فيدخل عندئذٍ قلب سحابة.

    وقد جاء الكثير ممّا تعلمه العلماء عن الحياة في السحب، من قمة جبل في فرنسا يُسمى بوي دو دوم.

    إذ تشكلت هذه القمة قبل حوالي 11 ألف عام، عندما اصطدمت كتلة من الصهارة - المادة السائلة أو شبه السائلة الساخنة أسفل أو داخل قشرة الأرض تتكون منها الحمم البركانية والصخور النارية الأخرى عند التبريد - بتلال متموجة وسط فرنسا، مكونةً بركاناً تفجرت منه الحمم البركانية قبل أن يخمد بعد بضع مئات من السنين.

    وعلى مدار العشرين عاماً الماضية تقريباً، زُوِّدت محطة أرصاد جوية على قمة بوي دو دوم بأجهزة أخذ عينات من الهواء.

    ويرتفع الجبل عالياً لدرجة أنّ السحب تغطي قمته بانتظام، ما يسمح للعلماء بالتقاط بعض الكائنات الحية من عليها.

    وكشفت دراسات أجراها بيير أماتو، عالم الأحياء الهوائية في جامعة كليرمون أوفيرنيو الفرنسية القريبة من المنطقة، أن كل مليمتر من مياه السحابة التي تطفو فوق بوي دو دوم، يحتوي على ما يصل إلى 100,000 خلية. وقد كشف حمضها النووي أنّ بعضها ينتمي إلى أنواع مألوفة، لكن الكثير منها جديد على العلم.

    ويشعر العلماء الذين يستخدمون الحمض النووي لتحديد نوع هذه الكائنات، بالقلق الدائم بشأن إمكانية تلوث العينات، وأماتو ليس استثناءً.

    فعلى سبيل المثال، قد يحلق صقرٌ فوق أنابيب أماتو على بوي دو دوم وينفض الميكروبات عن ريشه.

    وفي مختبر أماتو أيضاً، قد يزفر طالب دراسات عليا وهو يعاين العينات، بعض الجراثيم في أنبوب الاختبار.

    وعلى مر السنين، رفض أماتو الاعتراف بآلاف الأنواع المحتملة، مشتبهاً بأن يكون هو أو طلابه قد لطخوا المعدات بميكروبات جلدية عن غير قصد.

    إلا أنّهم أعلنوا بثقة عن اكتشافهم أكثر من 28,000 نوع من البكتيريا في السحب، وأكثر من 2,600 نوع من الفطريات.

    ويشتبه أماتو وعلماء آخرون يدرسون السحب، في أنها قد تكون أماكن مثالية لبقاء البكتيريا على قيد الحياة - على الأقل لبعض الأنواع منها.

    وكتب أماتو وفريق من زملائه عام 2017: "السحب بيئات مفتوحة للجميع (جميع الأنواع)، ولكن بعضها فقط هو الذي يزدهر فيها".

    في السًحب، يعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصاً داخل قطرته الخاصة من المياه.

    تعتبر السحابة بالنسبة للبكتيريا، عالماً غريباً جداً، يختلف اختلافاً جذرياً عن بيئاتها التي تعيش فيها عادةً على اليابسة أو في البحر.

    إذ عادةً ما تتجمع البكتيريا في مجموعات.

    وفي الأنهار، قد تنمو لتشكل حصائر ميكروبية. وفي أمعائنا، تُشكل أغشية كثيفة.

    أمّا في السحب، فيعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصراً داخل قطرة ماء خاصة به.

    وتعني هذه العزلة، أنّ بكتيريا السحابة لا تضطر للتنافس مع بعضها البعض على الموارد المحدودة. لكن في الوقت نفسه، لا تملك قطرة الماء مساحة كافية لحمل العناصر الغذائية التي تحتاجها الميكروبات للنمو.

    ومع ذلك، وجد أماتو وزملاؤه أدلة على أنّ بعض الميكروبات يمكنها بالفعل النمو في السحب. ففي إحدى الدراسات، قارن الباحثون العينات التي جمعوها من السحب في بوي دو دوم، بعينات أخرى جمعوها من الجبل في أيام صافية.

    وبحث الباحثون عن أدلة على نشاطها، عبر مقارنة كمية الحمض النووي في عيناتهم بكمية الحمض النووي الريبوزي (RNA).

    إذ تُنتج الخلايا النشطة والنامية، نسخاً كثيرة من الحمض النووي الريبوزي من حمضها النووي بهدف إنتاج البروتينات.

    ووجد الباحثون أن نسبة الحمض النووي DNA إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA)، كانت أعلى بعدة مرات في السحب منها في الهواء النقي، وهو دليل قوي على ازدهار الخلايا في السحب. كما وجدوا أن البكتيريا الموجودة في السحب تُفعّل الجينات الأساسية لاستقلاب الغذاء والنمو.

    ولفهم كيفية ازدهار هذه البكتيريا في السحب، قام الباحثون بتربية بعض الأنواع التي التقطوها في مختبرهم، ثمّ وضعوها في غرف محاكاة للغلاف الجوي.

    ويستخدم أحد أنواع الميكروبات، المعروف باسم ميثيلوباكتيريوم، طاقة ضوء الشمس لتحليل الكربون العضوي داخل قطرات المياه في السحب.

    وبعبارة أخرى، تأكل هذه البكتيريا السحب. وبحسب أحد التقديرات، تكسر ميكروبات السحب مليون طن من الكربون العضوي في جميع أنحاء العالم سنوياً.

    وتشير نتائج كهذه إلى أن هذه الكائنات التي تعيش في الهواء قوةٌ لا يستهان بها، إذ تؤثر تأثيراً بالغاً على كيمياء الغلاف الجوي. بل إنها تغيّر حالة الطقس.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، لا تعيش البكتيريا والميكروبات الأخرى في السحب فحسب، بل تلعب دوراً في تكوينها أيضاُ

    وعندما تتشكل السحابة، تُنشئ تيارات هوائية صاعدة ترفع الهواء المحمّل بالماء إلى ارتفاعات عالية تكون باردةً بما يكفي لتحويل الماء إلى جليد. ثم يتساقط الجليد مجدداً. وإذا كان الهواء القريب من الأرض بارداً، فقد يهبط على شكل ثلج. وإذا كان دافئاً، فيتحول إلى مطر.

    وقد يكون من الصعب بشكل ملفت تكوّن الجليد في سحابة شديدة البرودة. حتى في درجات حرارة أقل بكثير من نقطة التجمد، يمكن لجزيئات الماء أن تبقى سائلة.

    ومع ذلك، فإنّ إحدى طرق تحفيز تكوّن الجليد هي منحها بذرةً من الشوائب.

    فعندما تلتصق جزيئات الماء بسطح الجسيم، فإنها تترابط مع بعضها البعض، في عملية تُعرف باسم التنوي. ثمّ تلتصق بها جزيئات ماء أخرى وتتجمع في بنية بلورية (تشبه الكريستال)، والتي عندما تصبح ثقيلة بما يكفي، ستسقط من السماء.

    وقد اتضح أن الجزيئات البيولوجية وجدران الخلايا بارعةٌ للغاية في تحفيز هطول المطر. فالفطريات والطحالب وحبوب اللقاح والأشنات والبكتيريا، وحتى الفيروسات، قادرةٌ على تكوين الجليد في السحب.

    من الممكن أيضاً أن تكون السحب والحياة مرتبطتان في دورةٍ وثيقة، لا تقتصر على العيش والتهام السحب فقط، بل تُساعدها أصلاً على التشكل.

    وتُعدّ بكتيريا الزائفة الزنجارية (Pseudomonas) من أفضل مُنتجات المطر.

    ولا يعلم العلماء سبب براعة هذه البكتيريا تحديداً في تكوين الجليد في السحب، ولكن قد يكون ذلك مرتبطاً بطريقة نموها على الأوراق.

    فعندما يهطل مطرٌ بارد على ورقة، قد تُساعد الزائفة الزنجارية الماء السائل على التحول إلى جليد عند درجات حرارة أعلى من المعتاد. وعندما تفتح شقوق الجليد الأوراق، يُمكن للبكتيريا أن تتغذى على العناصر الغذائية الموجودة بداخلها.

    حتى أنّ بعض العلماء تكهّنوا بأنّ النباتات ترحب ببكتيريا مثل الزائفة الزنجارية، على الرغم من الضرر الذي تُسببه.

    وعندما تزيل الرياح البكتيريا عن النباتات وتدفعها في الهواء، ترتفع لتصل إلى السُحب في السماء. وتُمطر السحب المُلقحة بالزائفة الزنجارية المزيد من المطر على النباتات تحتها.

    وتستخدم النباتات مياه هذه الأمطار لإنتاج المزيد من الأوراق، وتنمي هذه الأوراق المزيد من البكتيريا، التي ترتفع بدورها إلى السماء وتُحفز السحب لإنتاج المزيد من الأمطار لتغذية الحياة في الأسفل.

    وإذا ثبتت صحة هذا التكهن، فسيكون ذلك تكافلاً مهيباً في علم الأحياء، يربط الغابات بالسماء.

    كما تُثير الأبحاث حول الحياة في السحب، احتمال وجود كائنات حية محمولة جواً على كواكب أخرى - حتى تلك التي قد تبدو أسوأ الأماكن للحياة.

    فكوكب الزهرة، على سبيل المثال، يتمتع بدرجة حرارة سطحية عالية بما يكفي لإذابة الرصاص. لكنّ السحب التي تُغطي الزهرة أبرد بكثير، وربما تكون مناسبة لاستمرار الحياة.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، توجد بكتيريا الزائفة الزنجارية بشكل شائع في التربة وعلى النباتات، ولكنها قد تتكيف بشكل خاص كبذور لتكوين الجليد

    وقد تكهنت سارة سيغر، عالمة الأحياء الفلكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بأنّ الحياة ربما نشأت على سطح كوكب الزهرة في وقت مبكر من تاريخه، عندما كان أكثر برودة ورطوبة.

    ومع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، ربما وجدت بعض الميكروبات ملجأً لها في السحب. وتقول إنه بدلاً من أن تغرق عائدةً إلى السطح، ربما طفت صعوداً وهبوطاً في الغلاف الجوي، راكبةً التيارات الهوائية لملايين السنين.

    إن التفكير في بيئة "سيغر" الهوائية الغريبة يمكن أن يجعل تأمل السحب أكثر متعة.

    ولكن عندما ننظر إلى السحب، فإننا ننظر أيضاً إلى تأثيرنا على العالم، بحسب ما كشفته أبحاث أماتو.

    وعندما قام أماتو وزملاؤه بمسح الجينات في الميكروبات التي يلتقطونها، وجدوا أنّ عدداً كبيراً من هذه الجينات يمنح البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

    أمّا على الأرض، فقد حفزنا نحن البشر التطور الواسع النطاق لهذه الجينات المقاومة.

    فعبر تناولنا كميات زائدة من البنسلين والأدوية الأخرى لمكافحة العدوى، قمنا بتقوية طفرات يمكنها مقاومة هذه المضادات.

    وما يزيد الطين بلة، أنّ المزارعين يُطعمون الدجاج والخنازير وغيرها من الماشية المضادات الحيوية كي تنمو إلى أحجام أكبر.

    وفي عام 2014 وحده، توفي 700 ألف شخص حول العالم بسبب عدوى بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.

    وبعد خمس سنوات، ارتفع العدد إلى 1.27 مليون.

    وتتطور مقاومة المضادات الحيوية داخل أجسام البشر والحيوانات التي يأكلونها.

    ثم تهرب البكتيريا المُكتسبة لهذه المقاومة من حاضناتها وتشق طريقها عبر البيئة - إلى التربة، وإلى مجاري المياه، بل وحتى إلى الهواء.

    وقد وجد الباحثون مستويات عالية من هذه الجينات المقاومة في البكتيريا التي تطفو في المستشفيات وحول مزارع الخنازير.

    صدر الصورة، Getty Images

    التعليق على الصورة، يمكن للرياح أن تحمل الغبار والميكروبات لمسافات تصل إلى مئات، وأحياناً آلاف الأميال

    لكنّ جينات البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية يمكن أن تنتشر جواً لمسافات أبعد بكثير.

    فقد فحص فريق دولي من العلماء، فلاتر مكيفات هواء السيارات في تسع عشرة مدينة حول العالم.

    ووجدوا أنّ هذه الفلاتر قد التقطت تنوعاً غنياً من البكتيريا المقاومة. بمعنى آخر، يبدو أنّ جينات المقاومة تطفو عبر المدن.

    وفي السنوات الأخيرة، رصد أماتو وزملاؤه رحلات أطول لهذه الجينات.

    ففي مسحٍ أُجري عام 2023 للسحب، أفاد الباحثون بالعثور على بكتيريا تحمل 29 نوعاً مختلفاً من جينات المقاومة للمضادات الحيوية فيها.

    وقد تحمل بكتيريا واحدة محمولة في الهواء، ما يصل إلى تسعة جينات مقاومة، كل منها يوفر دفاعاً مختلفاً ضد الأدوية.

    وقدّر الباحثون أنّ كل متر مكعب من سحابة واحدة، يحتوي على ما يصل إلى 10 ألف جين مقاوم للمضادات الحيوية.

    وقد تحتوي سحابة عادية تطفو فوق رؤوسنا على أكثر من تريليون جين منها.

    ويعتقد أماتو وزملاؤه أنّ السحب تحتوي على هذا العدد الكبير من جينات المقاومة لأنها تساعد البكتيريا على البقاء على قيد الحياة.

    وتُوفر بعض الجينات، مقاومة للمضادات الحيوية، من خلال السماح للبكتيريا بضخ الأدوية خارج أنسجتها بسرعة، والتخلص منها قبل أن تُسبب لها ضرراً.

    وقد يدفع ضغط الحياة في السحابة، البكتيريا إلى إنتاج نفايات سامة تحتاج إلى ضخها الى خارج أنسجتها بسرعة أيضاً.

    وقد تتمكن السحب من نشر جينات المقاومة للمضادات الحيوية هذه إلى أبعد من اللحوم والمياه الملوثة.

    فبمجرد دخول البكتيريا إلى السحابة، يمكنها السفر مئات الأميال في غضون أيام، قبل أن تُنثر قطرات المطر وتسقط عائدةً إلى الأرض.

    وعندما تصل هذه الميكروبات إلى الأرض، قد تنقل جيناتها المقاومة إلى ميكروبات أخرى تصادفها في بيئتها الجديدة.

    ويقدر أماتو وزملاؤه أن 2.2 تريليون تريليون جين مقاوم للمضادات الحيوية يتساقط من الغيوم سنوياً.

    سيكون تذكر هذه المعلومة صادماً لنا أثناء تنزهنا تحت المطر. فنحن نسير وسط سيل من الحمض النووي الذي صنعناه بأنفسنا.

    كارل زيمر

    كارل زيمر كاتب عمود "أويجينز" (الأصول) في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، ومؤلف 15 كتاباً علمياً. أحدث كتبه هو "المحمول جواً: التاريخ الخفي للحياة التي نتنفسها"، وهو الكتاب المقتبس منه هذا المقال.


  • كيف تؤثر الميكروبات التي تعيش في السُحب على حياتنا


    صدر الصورة، Getty Images



    تجوب تريليونات من البكتيريا والفطريات والفيروسات والكائنات وحيدة الخلية، أعالي الغلاف الجوي للكرة الأرضية.


    والعلماء في طور اكتشاف أنها تؤثر بشكل كبير في الطقس، وحتى على صحتنا.


    السحب رفيقتنا الدائمة خلال حياتنا. تطفو فوقنا أحياناً على شكل خيوط رفيعة. وفي أيام أخرى، تُظلم السماء وتُسقط علينا المطر.


    ولكن، وعلى الرغم من معرفتنا بهذه الأغطية التي تتشكل من بخار الماء، إلا أنها تُخفي عنا سراً.




    فالسحب في الحقيقة، جزر عائمة من الحياة، إذ هي موطن لتريليونات الكائنات الحية من آلاف الأنواع.


    الأكثر قراءة

    الأكثر قراءة نهاية


    الأكثر قراءة




















    إذ يجوب الهواء إلى جانب الطيور واليعسوب وبذور الهندباء، محيط شاسع من الكائنات الحية الدقيقة (الميكروبات)، أي الأحياء التي لا تُرى بالعين المجردة.


    كان الكيميائي الفرنسي لويس باستور، من أوائل العلماء الذين تعرفوا على ما يُطلق عليه العلماء اليوم اسم "الأيروبيوم" عام 1860.


    تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي

    اضغط هنا

    يستحق الانتباه نهاية


    تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي

    اضغط هنا

    يستحق الانتباه نهاية


    تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي

    اضغط هنا







    تابعوا التغطية الشاملة من بي بي سي نيوز عربي

    اضغط هنا


    ويشير مصطلح "الأيروبيوم" إلى مجموعة الكائنات الحية الدقيقة، بما في ذلك البكتيريا والفطريات والميكروبات الأخرى، التي تعيش في الغلاف الجوي للأرض.


    رفع باستور في الهواء، قوارير معقمة مليئة بمرق ( حساء) اللحوم الصافي، وسمح للجراثيم العائمة بالاستقرار فيها، ما جعل المرق الصافي عكراً.


    التقط باستور الجراثيم في شوارع باريس، وفي الريف الفرنسي، وحتى على قمة نهر جليدي في جبال الألب. لكن معاصريه رفضوا فكرته. وقال أحد الصحفيين لباستيور آنذاك: "العالم الذي ترغب في أن تأخذنا إليه خيالي للغاية".


    استغرق الأمر عقوداً حتى يتقبل الناس حقيقة وجود هذه الكائنات الحية التي تعيش في البيئة الهوائية.


    في ثلاثينيات القرن العشرين، حلق بعض العلماء في السماء بالطائرات، حاملين شرائح وأطباق بتري - وهي أطباق دائرية شفافة ذات غطاء مسطح، تستخدم لزراعة الكائنات الحية الدقيقة في المختبرات الطبية - لالتقاط جراثيم فطرية وبكتيريا تعيش في الهواء.


    كما أطلقت رحلات بالمناطيد إلى الغلاف الجوي العلوي (الستراتوسفير) لالتقاط الخلايا أيضاً.


    اليوم، في القرن الحادي والعشرين، ينشر علماء الأحياء الهوائية أجهزة متطورة لجمع عينات الهواء على طائرات بدون طيار.


    كما يستخدمون تقنية تسلسل الحمض النووي لتحديد الكائنات الحية المحمولة جواً من خلال جيناتها.


    ويُدرك الباحثون الآن أنّ البيئة الهوائية هي موطن هائل يعج بالزوار من الكائنات الحية.




    يأتي هؤلاء الزوار من معظم أسطح كوكب الأرض.


    في كل مرة تتحطم فيها موجة في المحيط، تُقذف قطرات دقيقة من مياه البحر في الهواء، ويكون بعضها يحمل فيروسات وبكتيريا وطحالب وكائنات حية وحيدة الخلية أخرى.


    وبينما تسقط بعض هذه القطرات بسرعة عائدةً إلى المحيط، تلتقط الرياح بعضها الآخر وترتفع إلى السماء، حيث يمكن أن تحملها لآلاف الأميال.


    على اليابسة، يمكن للرياح أن تجرف الأرض، حاملةً البكتيريا والفطريات والكائنات الحية الأخرى.


    وفي كل صباح، عندما تشرق الشمس وتتبخر المياه في الهواء، يمكن أن تطلق أيضاً كائنات دقيقة.


    كما تُولّد حرائق الغابات، تيارات هوائية صاعدة عنيفة قادرة على امتصاص الميكروبات من الأرض ومن جذوع الأشجار وأوراقها، حاملةً إياها إلى الأعلى مع الدخان المتصاعد.


    ولا تنتظر العديد من أنواع الكائنات الحية القوى الفيزيائية لإطلاقها في الهواء.


    فالطحالب، على سبيل المثال، تُنبت ساقاً تحمل في طرفها كيساً من الأبواغ (خلية تكاثر لا جنسي في علم النبات)، تُطلقه كنفحات من الدخان في الهواء.


    وقد يسقط ما يصل إلى ستة ملايين من الأبواغ الطحلبية على متر مربع واحد من المستنقع خلال صيف واحد.


    إذ تتكاثر العديد من أنواع النباتات عبر إطلاق مليارات حبوب اللقاح جواً خلال كل ربيع.


    وتتميز الفطريات بمهارة خاصة في الطيران.


    فقد طورت مدافع بيولوجية ووسائل أخرى لإطلاق أبواغها في الهواء، كما أن أبواغها مُجهزة بأصداف متينة وتكيفات أخرى لتحمل الظروف القاسية التي تواجهها أثناء سفرها عالياً حتى طبقة الستراتوسفير.


    وقد عُثر على فطريات على ارتفاع يصل إلى 12 ميلاً (20 كيلومتراً)، فوق مياه المحيط الهادئ المفتوحة، وهي محمولة على الرياح.


    صدر الصورة، Getty Images


    ويُقدّر عدد الخلايا البكتيرية التي تصعد كل عام من اليابسة والبحر إلى السماء، بحوالي تريليون تريليون خلية.


    كما يُقدّر أن 50 مليون طن من أبواغ الفطريات تُحمل جواً في المدة الزمنية نفسها.


    وتصعد أعداد لا تُحصى من الفيروسات والأشنات والطحالب وغيرها من أشكال الحياة المجهرية إلى الهواء.


    ومن الشائع أن تسافر لأيام في الهواء قبل الهبوط، وخلال هذه الفترة يُمكن أن تُحلّق لمئات أو آلاف الأميال.


    وخلال هذه الرحلة، قد يطير كائن حي إلى منطقة من الهواء حيث يتكثف بخار الماء على شكل قطرات.


    وسرعان ما يجد هذا الكائن نفسه مُغلفاً بإحدى تلك القطرات، وقد تحمله التيارات الصاعدة إلى عمق أكبر داخل كتلة الماء. فيدخل عندئذٍ قلب سحابة.


    وقد جاء الكثير ممّا تعلمه العلماء عن الحياة في السحب، من قمة جبل في فرنسا يُسمى بوي دو دوم.


    إذ تشكلت هذه القمة قبل حوالي 11 ألف عام، عندما اصطدمت كتلة من الصهارة - المادة السائلة أو شبه السائلة الساخنة أسفل أو داخل قشرة الأرض تتكون منها الحمم البركانية والصخور النارية الأخرى عند التبريد - بتلال متموجة وسط فرنسا، مكونةً بركاناً تفجرت منه الحمم البركانية قبل أن يخمد بعد بضع مئات من السنين.


    وعلى مدار العشرين عاماً الماضية تقريباً، زُوِّدت محطة أرصاد جوية على قمة بوي دو دوم بأجهزة أخذ عينات من الهواء.


    ويرتفع الجبل عالياً لدرجة أنّ السحب تغطي قمته بانتظام، ما يسمح للعلماء بالتقاط بعض الكائنات الحية من عليها.


    وكشفت دراسات أجراها بيير أماتو، عالم الأحياء الهوائية في جامعة كليرمون أوفيرنيو الفرنسية القريبة من المنطقة، أن كل مليمتر من مياه السحابة التي تطفو فوق بوي دو دوم، يحتوي على ما يصل إلى 100,000 خلية. وقد كشف حمضها النووي أنّ بعضها ينتمي إلى أنواع مألوفة، لكن الكثير منها جديد على العلم.


    ويشعر العلماء الذين يستخدمون الحمض النووي لتحديد نوع هذه الكائنات، بالقلق الدائم بشأن إمكانية تلوث العينات، وأماتو ليس استثناءً.


    فعلى سبيل المثال، قد يحلق صقرٌ فوق أنابيب أماتو على بوي دو دوم وينفض الميكروبات عن ريشه.


    وفي مختبر أماتو أيضاً، قد يزفر طالب دراسات عليا وهو يعاين العينات، بعض الجراثيم في أنبوب الاختبار.


    وعلى مر السنين، رفض أماتو الاعتراف بآلاف الأنواع المحتملة، مشتبهاً بأن يكون هو أو طلابه قد لطخوا المعدات بميكروبات جلدية عن غير قصد.


    إلا أنّهم أعلنوا بثقة عن اكتشافهم أكثر من 28,000 نوع من البكتيريا في السحب، وأكثر من 2,600 نوع من الفطريات.


    ويشتبه أماتو وعلماء آخرون يدرسون السحب، في أنها قد تكون أماكن مثالية لبقاء البكتيريا على قيد الحياة - على الأقل لبعض الأنواع منها.


    وكتب أماتو وفريق من زملائه عام 2017: "السحب بيئات مفتوحة للجميع (جميع الأنواع)، ولكن بعضها فقط هو الذي يزدهر فيها".




    في السًحب، يعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصاً داخل قطرته الخاصة من المياه.


    تعتبر السحابة بالنسبة للبكتيريا، عالماً غريباً جداً، يختلف اختلافاً جذرياً عن بيئاتها التي تعيش فيها عادةً على اليابسة أو في البحر.


    إذ عادةً ما تتجمع البكتيريا في مجموعات.


    وفي الأنهار، قد تنمو لتشكل حصائر ميكروبية. وفي أمعائنا، تُشكل أغشية كثيفة.


    أمّا في السحب، فيعيش كل ميكروب في عزلة تامة، محاصراً داخل قطرة ماء خاصة به.


    وتعني هذه العزلة، أنّ بكتيريا السحابة لا تضطر للتنافس مع بعضها البعض على الموارد المحدودة. لكن في الوقت نفسه، لا تملك قطرة الماء مساحة كافية لحمل العناصر الغذائية التي تحتاجها الميكروبات للنمو.


    ومع ذلك، وجد أماتو وزملاؤه أدلة على أنّ بعض الميكروبات يمكنها بالفعل النمو في السحب. ففي إحدى الدراسات، قارن الباحثون العينات التي جمعوها من السحب في بوي دو دوم، بعينات أخرى جمعوها من الجبل في أيام صافية.


    وبحث الباحثون عن أدلة على نشاطها، عبر مقارنة كمية الحمض النووي في عيناتهم بكمية الحمض النووي الريبوزي (RNA).


    إذ تُنتج الخلايا النشطة والنامية، نسخاً كثيرة من الحمض النووي الريبوزي من حمضها النووي بهدف إنتاج البروتينات.


    ووجد الباحثون أن نسبة الحمض النووي DNA إلى الحمض النووي الريبوزي (RNA)، كانت أعلى بعدة مرات في السحب منها في الهواء النقي، وهو دليل قوي على ازدهار الخلايا في السحب. كما وجدوا أن البكتيريا الموجودة في السحب تُفعّل الجينات الأساسية لاستقلاب الغذاء والنمو.


    ولفهم كيفية ازدهار هذه البكتيريا في السحب، قام الباحثون بتربية بعض الأنواع التي التقطوها في مختبرهم، ثمّ وضعوها في غرف محاكاة للغلاف الجوي.


    ويستخدم أحد أنواع الميكروبات، المعروف باسم ميثيلوباكتيريوم، طاقة ضوء الشمس لتحليل الكربون العضوي داخل قطرات المياه في السحب.


    وبعبارة أخرى، تأكل هذه البكتيريا السحب. وبحسب أحد التقديرات، تكسر ميكروبات السحب مليون طن من الكربون العضوي في جميع أنحاء العالم سنوياً.


    وتشير نتائج كهذه إلى أن هذه الكائنات التي تعيش في الهواء قوةٌ لا يستهان بها، إذ تؤثر تأثيراً بالغاً على كيمياء الغلاف الجوي. بل إنها تغيّر حالة الطقس.


    صدر الصورة، Getty Images


    وعندما تتشكل السحابة، تُنشئ تيارات هوائية صاعدة ترفع الهواء المحمّل بالماء إلى ارتفاعات عالية تكون باردةً بما يكفي لتحويل الماء إلى جليد. ثم يتساقط الجليد مجدداً. وإذا كان الهواء القريب من الأرض بارداً، فقد يهبط على شكل ثلج. وإذا كان دافئاً، فيتحول إلى مطر.


    وقد يكون من الصعب بشكل ملفت تكوّن الجليد في سحابة شديدة البرودة. حتى في درجات حرارة أقل بكثير من نقطة التجمد، يمكن لجزيئات الماء أن تبقى سائلة.


    ومع ذلك، فإنّ إحدى طرق تحفيز تكوّن الجليد هي منحها بذرةً من الشوائب.


    فعندما تلتصق جزيئات الماء بسطح الجسيم، فإنها تترابط مع بعضها البعض، في عملية تُعرف باسم التنوي. ثمّ تلتصق بها جزيئات ماء أخرى وتتجمع في بنية بلورية (تشبه الكريستال)، والتي عندما تصبح ثقيلة بما يكفي، ستسقط من السماء.


    وقد اتضح أن الجزيئات البيولوجية وجدران الخلايا بارعةٌ للغاية في تحفيز هطول المطر. فالفطريات والطحالب وحبوب اللقاح والأشنات والبكتيريا، وحتى الفيروسات، قادرةٌ على تكوين الجليد في السحب.


    من الممكن أيضاً أن تكون السحب والحياة مرتبطتان في دورةٍ وثيقة، لا تقتصر على العيش والتهام السحب فقط، بل تُساعدها أصلاً على التشكل.


    وتُعدّ بكتيريا الزائفة الزنجارية (Pseudomonas) من أفضل مُنتجات المطر.


    ولا يعلم العلماء سبب براعة هذه البكتيريا تحديداً في تكوين الجليد في السحب، ولكن قد يكون ذلك مرتبطاً بطريقة نموها على الأوراق.


    فعندما يهطل مطرٌ بارد على ورقة، قد تُساعد الزائفة الزنجارية الماء السائل على التحول إلى جليد عند درجات حرارة أعلى من المعتاد. وعندما تفتح شقوق الجليد الأوراق، يُمكن للبكتيريا أن تتغذى على العناصر الغذائية الموجودة بداخلها.


    حتى أنّ بعض العلماء تكهّنوا بأنّ النباتات ترحب ببكتيريا مثل الزائفة الزنجارية، على الرغم من الضرر الذي تُسببه.


    وعندما تزيل الرياح البكتيريا عن النباتات وتدفعها في الهواء، ترتفع لتصل إلى السُحب في السماء. وتُمطر السحب المُلقحة بالزائفة الزنجارية المزيد من المطر على النباتات تحتها.


    وتستخدم النباتات مياه هذه الأمطار لإنتاج المزيد من الأوراق، وتنمي هذه الأوراق المزيد من البكتيريا، التي ترتفع بدورها إلى السماء وتُحفز السحب لإنتاج المزيد من الأمطار لتغذية الحياة في الأسفل.


    وإذا ثبتت صحة هذا التكهن، فسيكون ذلك تكافلاً مهيباً في علم الأحياء، يربط الغابات بالسماء.


    كما تُثير الأبحاث حول الحياة في السحب، احتمال وجود كائنات حية محمولة جواً على كواكب أخرى - حتى تلك التي قد تبدو أسوأ الأماكن للحياة.


    فكوكب الزهرة، على سبيل المثال، يتمتع بدرجة حرارة سطحية عالية بما يكفي لإذابة الرصاص. لكنّ السحب التي تُغطي الزهرة أبرد بكثير، وربما تكون مناسبة لاستمرار الحياة.


    صدر الصورة، Getty Images


    وقد تكهنت سارة سيغر، عالمة الأحياء الفلكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بأنّ الحياة ربما نشأت على سطح كوكب الزهرة في وقت مبكر من تاريخه، عندما كان أكثر برودة ورطوبة.


    ومع ارتفاع درجة حرارة الكوكب، ربما وجدت بعض الميكروبات ملجأً لها في السحب. وتقول إنه بدلاً من أن تغرق عائدةً إلى السطح، ربما طفت صعوداً وهبوطاً في الغلاف الجوي، راكبةً التيارات الهوائية لملايين السنين.


    إن التفكير في بيئة "سيغر" الهوائية الغريبة يمكن أن يجعل تأمل السحب أكثر متعة.


    ولكن عندما ننظر إلى السحب، فإننا ننظر أيضاً إلى تأثيرنا على العالم، بحسب ما كشفته أبحاث أماتو.


    وعندما قام أماتو وزملاؤه بمسح الجينات في الميكروبات التي يلتقطونها، وجدوا أنّ عدداً كبيراً من هذه الجينات يمنح البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.


    أمّا على الأرض، فقد حفزنا نحن البشر التطور الواسع النطاق لهذه الجينات المقاومة.


    فعبر تناولنا كميات زائدة من البنسلين والأدوية الأخرى لمكافحة العدوى، قمنا بتقوية طفرات يمكنها مقاومة هذه المضادات.


    وما يزيد الطين بلة، أنّ المزارعين يُطعمون الدجاج والخنازير وغيرها من الماشية المضادات الحيوية كي تنمو إلى أحجام أكبر.


    وفي عام 2014 وحده، توفي 700 ألف شخص حول العالم بسبب عدوى بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية.


    وبعد خمس سنوات، ارتفع العدد إلى 1.27 مليون.


    وتتطور مقاومة المضادات الحيوية داخل أجسام البشر والحيوانات التي يأكلونها.


    ثم تهرب البكتيريا المُكتسبة لهذه المقاومة من حاضناتها وتشق طريقها عبر البيئة - إلى التربة، وإلى مجاري المياه، بل وحتى إلى الهواء.


    وقد وجد الباحثون مستويات عالية من هذه الجينات المقاومة في البكتيريا التي تطفو في المستشفيات وحول مزارع الخنازير.


    صدر الصورة، Getty Images


    لكنّ جينات البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية يمكن أن تنتشر جواً لمسافات أبعد بكثير.


    فقد فحص فريق دولي من العلماء، فلاتر مكيفات هواء السيارات في تسع عشرة مدينة حول العالم.


    ووجدوا أنّ هذه الفلاتر قد التقطت تنوعاً غنياً من البكتيريا المقاومة. بمعنى آخر، يبدو أنّ جينات المقاومة تطفو عبر المدن.


    وفي السنوات الأخيرة، رصد أماتو وزملاؤه رحلات أطول لهذه الجينات.


    ففي مسحٍ أُجري عام 2023 للسحب، أفاد الباحثون بالعثور على بكتيريا تحمل 29 نوعاً مختلفاً من جينات المقاومة للمضادات الحيوية فيها.


    وقد تحمل بكتيريا واحدة محمولة في الهواء، ما يصل إلى تسعة جينات مقاومة، كل منها يوفر دفاعاً مختلفاً ضد الأدوية.


    وقدّر الباحثون أنّ كل متر مكعب من سحابة واحدة، يحتوي على ما يصل إلى 10 ألف جين مقاوم للمضادات الحيوية.


    وقد تحتوي سحابة عادية تطفو فوق رؤوسنا على أكثر من تريليون جين منها.


    ويعتقد أماتو وزملاؤه أنّ السحب تحتوي على هذا العدد الكبير من جينات المقاومة لأنها تساعد البكتيريا على البقاء على قيد الحياة.


    وتُوفر بعض الجينات، مقاومة للمضادات الحيوية، من خلال السماح للبكتيريا بضخ الأدوية خارج أنسجتها بسرعة، والتخلص منها قبل أن تُسبب لها ضرراً.


    وقد يدفع ضغط الحياة في السحابة، البكتيريا إلى إنتاج نفايات سامة تحتاج إلى ضخها الى خارج أنسجتها بسرعة أيضاً.


    وقد تتمكن السحب من نشر جينات المقاومة للمضادات الحيوية هذه إلى أبعد من اللحوم والمياه الملوثة.


    فبمجرد دخول البكتيريا إلى السحابة، يمكنها السفر مئات الأميال في غضون أيام، قبل أن تُنثر قطرات المطر وتسقط عائدةً إلى الأرض.


    وعندما تصل هذه الميكروبات إلى الأرض، قد تنقل جيناتها المقاومة إلى ميكروبات أخرى تصادفها في بيئتها الجديدة.


    ويقدر أماتو وزملاؤه أن 2.2 تريليون تريليون جين مقاوم للمضادات الحيوية يتساقط من الغيوم سنوياً.


    سيكون تذكر هذه المعلومة صادماً لنا أثناء تنزهنا تحت المطر. فنحن نسير وسط سيل من الحمض النووي الذي صنعناه بأنفسنا.


    كارل زيمر


    كارل زيمر كاتب عمود "أويجينز" (الأصول) في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، ومؤلف 15 كتاباً علمياً. أحدث كتبه هو "المحمول جواً: التاريخ الخفي للحياة التي نتنفسها"، وهو الكتاب المقتبس منه هذا المقال.
















    الأخبار الرئيسية

    اخترنا لكم


    الأخبار الرئيسية


    الأخبار الرئيسية











    اخترنا لكم


    اخترنا لكم






















    تفضيلات القراء


    1

    1

    2

    2

    3

    3

    4

    4

    5

    5

    6

    6

    7

    7

    8

    8

    9

    9

    10

    10



    © 2025 بي بي سي. بي بي سي ليست مسؤولة عن محتوى المواقع الخارجية.


    © 2025 بي بي سي. بي بي سي ليست مسؤولة عن محتوى المواقع الخارجية.