شرق أوسط على حافة الأيديولوجيا.. من التخادم إلى الصدام.. !
لم تكنِ المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل مجرد حرب تقليدية دامت اثني عشر يومًا، بل لحظة فارقة تكشف عن عمق التحولات البنيوية في توازن القوى داخل الشرق الأوسط، وعن مآلات الصراع الإقليمي في زمن يتداخل فيه الواقعي مع الميتافيزيقي، والسياسي مع الديني، والمصلحي مع الأيديولوجي.
اعتاد المحللون لعقود أن يفسروا تعقيدات هذا الصراع عبر نظريتين مركزيتين:
الأولى ترى العلاقات الدولية بوصفها لعبة توازن قوى تحكمها اعتبارات الردع والمصالح القومية والأمن، والثانية، تقرأ العلاقة بين طهران وتل أبيب من خلال منظور تاريخي يتحدث عن "تخادم وظيفي" قديم ومتجدد، يتستر بعداء ظاهر يخفي مصالح متبادلة.
لكن كلا النموذجين يعجز عن الإحاطة بظاهرة مركّبة بهذا القدر من التشابك، حيث تتلاقى الأيديولوجيا مع منطق الدولة الحديثة، وتختلط المصلحة بالرسالة، وتتحول العقيدة إلى أداة لصناعة السياسة، وربما إلى محرّك لها في لحظات التحوّل الكبرى.
الحرب لم تكن استعراضًا عسكريًّا فحسب، بل إعلان نهاية زمن المناورة، إسرائيل، بعد هول صدمة السابع من أكتوبر، فقدت قدرتها على الردع داخل غزة، وخسرت هيبتها في نظر حلفائها، وأدركت أن أدوات "الاحتواء" القديمة مع أذرع إيران لم تعد مجدية. كان لا بد من قلب الطاولة، حتى لو كلفها ذلك فتح أكثر من جبهة.
في المقابل، لم يكنِ النظام الإيراني راغبًا في حرب مفتوحة. طالما بنى شرعيته على خطاب المواجهة دون الدخول في مغامرات مباشرة، مستندًا إلى شبكة من الأذرع والميليشيات التي تمارس "الردع بالوكالة". لكن حين ضُربت مصالحه المباشرة، لم يعُد ممكنًا الاكتفاء بالصمت.
الأخطر في هذا المشهد هو الدور الأمريكي، الذي تجاوز هذه المرة منطق المصالح التقليدي نحو خطاب ديني معلن، تُهيمن عليه أفكار إنجيلية متطرفة. أصوات في الكونجرس، ورسائل من سفراء، وتصريحات علنية تؤكد أن إسرائيل بالنسبة لكثير من الساسة الأمريكيين لم تعد مجرد حليف إستراتيجي، بل وعد إلهي، ونبوءة يجب تحقيقها.، !
هذا التداخل بين المقدّس والسياسي، بين الخرافة والقوة، يحول الصراع من نزاع على النفوذ إلى معركة وجودية، لم تعد سوريا ولبنان والعراق ساحات جانبية، بل مفاتيح أساسية في إعادة تشكيل الإقليم. النظام الإيراني يرى أن سقوط حزب الله أو انهيار النظام السوري هو بداية نهايته. وإسرائيل ترى أن أي بقاء لهذه المحاور هو تهديد دائم لبقائها.
ورغم أن الدولة الحديثة في ظاهرها تقوم على مؤسسات، فإنها في لحظات الحسم تكون رهينة خطابها الثقافي والديني.. الأيديولوجيا هنا ليست مجرد خطاب سياسي، بل بنية شعورية تتغلغل في كل قرار، وكل حساب، وكل صفقة.
الشرق الأوسط يخرج من هذه الحرب أكثر تشظيًا، وأكثر وضوحًا في الوقت ذاته. لم تعدِ الرهانات قائمة على "تفاهمات ظرفية"، بل على اختيارات كبرى تعيد رسم الحدود والولاءات والهويات.
ما نشهده ليس مجرد حرب، بل صدام رؤى حول المستقبل. بين نظام إيراني يعتقد أن تصدير ثورته ضرورة للبقاء، ودولة إسرائيلية ترى في التفوق العسكري غطاءً لعقيدة إقصائية، لا تعترف بوجود الآخر.
السؤال الآن: هل نستطيع كعرب أن نخرج من دائرة التوظيف في هذه المعركة.. ؟ أم نظل مجرد أوراق في صراع أكبر منا جميعًا.. .؟
إن ما بعد الحرب هو اختبار للوعي، وللإرادة السياسية، وللقدرة على بناء مشروع يتجاوز التبعية والتخادم، نحو فهم جديد للذات، ودور جديد في الإقليم والعالم.، !!
اقرأ أيضًا