مهاجرون عرب يروون للجزيرة نت تجربتهم السياسية في بلجيكا
بروكسل- تُشكل الجاليات العربية نحو 12% من الناخبين بالمدن الكبرى في بلجيكا، إلا أن وجودهم في هيئاتها التشريعية لم يتجاوز 5% فقط في السابق، مما جعل كل فوز انتخابي بمثابة انتصار ذي دلالة رمزية وإستراتيجية.
مؤخرا، وصل تمثيل المهاجرين إلى حوالي 7% من أعضاء مجلس النواب الفدرالي، وحقق العرب حضورا متزايدا ضمن أحزاب ، رغم أن الطريق لم يكن مفروشا بالورود، فقد واجه كثير منهم خطابات التشكيك، واتهامات بالازدواجية.
ويوثق التقرير التالي ملامح التحوّل في مسيرة هذه الجالية عبر شهادات حصرية لسياسيين من أصول عربية، يكشفون فيه عن البدايات والصعوبات وأحلام التغيير.
سامي وحكاية لاجئ
يقول سامي مهدي "أنا ابن لاجئ، لكن لا أساوم على الحقيقة"، ويضيف "وُلدت في بلجيكا، والدي كان لاجئا هرب في عهد نظام ، ونشأت في بيت يؤمن بالصرامة والاحترام، ولم يكن يسمح لي التحدث ب، لا عن جهل، بل عن قناعة أن علينا أن نندمج كليًا في هذا المجتمع. كنت أطيعه، وأتمنى تعلّم العربية، لكنني لم أفعل، واليوم أفهم لماذا كان يفكر بهذه الطريقة".
يستهل سامي (37 عاما) حديثه، وهو جالس في مكتبه بمقر الحزب "الديمقراطي المسيحي الفلمنكي" الذي يترأسه منذ 2022، كأصغر من يتزعم المنصب في تاريخ الحزب الذي يرمز له بـ "سي دي آند في" (CD&V) ويُعد أحد أعرق الأحزاب في البلاد.
وبسرعة صعد سامي إلى هرم السياسة البلجيكية؛ من ناشط في صفوف الشبيبة الحزبية، إلى وزير للهجرة، ثم رئيس للحزب. ويقول "حين وصلت للحكومة كوزير للهجرة، قيل إنني لن أستمر، لكنني اشتغلت بجد، وكنت واضحا: الاندماج مسؤولية، وليس منحة، وعلى من يعيش هنا أن يساهم، لا أن يكتفي بالمطالبة".
وهذا الخطاب الصارم كلّفه اتهامات، فالبعض يعتبره "متنكرا لأصوله" أو "يغازل اليمين على حساب المهاجرين"، ويردّ بابتسامة حازمة "أنا لا أتهرب من جذوري، أفتخر بأنني ابن لاجئ، لكنني أيضا سياسي بلجيكي، لا يمكن أن أغمض عيني عن المشاكل".
ويتابع أنه حين كتب مقالة بعد أعمال عنف في بلجيكا عقب مباراة، قال الحقيقة، ومفادها "نحن لاجئون سابقون، لكن أبناءنا سلوكهم خالٍ من الاحترام، كأنهم نسوا ما فعل آباؤهم ليستقروا هنا".
ويضيف أنه يحمل مسؤولية لا تجاهَ حزبه فقط، بل تجاهَ الشباب أمثاله، فهو حين كان مراهقا لم يكن له قدوة، ولم يرَ أحدا يشبهه في مراكز القرار، واليوم، "آمل أن أكون أنا الشخص القدوة، وإشارة إلى أن النجاح ليس حكرا على أبناء النخبة".
وفي السياسة، يتقن مهدي حساب التوازنات، ويقول "نعم، أستطيع إسقاط الحكومة إن انسحب حزبي من التحالف، لكنها ليست لعبة، نحن نتحمل مسؤولية الحكم، ولا نلعب بالاستقرار".
وتزوج سامي مؤخرا من نوال فاريح، التي تعيش في مدينة خينك وهي برلمانية من نفس الحزب من أصل مغربي. ويقول إنها شريكته في الحياة وفي الرؤية معا، ويؤمنان أن بلجيكا قادرة على أن تكون "عادلة ومتماسكة، دون شعارات فارغة".
وعن موقفه من الحرب على ، يقول سامي "منذ البداية، دعوت لوقف فوري لإطلاق النار، لا أقبل بقتل المدنيين، أيا كان الطرف، قلتها صراحة وكررتها داخل البرلمان، لأن المبدأ لا يتجزأ؛ حقوق الإنسان تشمل الفلسطينيين أيضا".
وفي زاوية بالمقر المتواضع لحزب سامي، تلفت الانتباه قصيدة معلّقة على عمود داخلي للكاتبة غريت أوب دي بيك، مؤرخة بالأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2016، تقول في نهايتها "دعونا لا نكون ملائكة، لكن إن استطعنا، فلنكن بشرا، دعونا نجرؤ". وهو نص ربما يعكس جوهر وملخص المسار الذي اختاره سامي لنفسه.
ابن "حي سان غيل"
في الطابق العلوي من مبنى برلمان بروكسل، يفتح فؤاد أحيدار باب مكتبه بنفسه؛ فلا حواجز ولا بروتوكولات. في الداخل، طاولة اجتماعات بسيطة تحيط بها مجموعة من الشبان، هم مساعدوه: شابة رواندية، وشاب يهودي من هايتي يُدعى كلاوديو، وآخرون من أحياء بروكسل الشعبية.
"تفضل، اجلس معنا، نحن هنا نفكر معا، لا ننتظر الأوامر من فوق"، يقول أحيدار ضاحكا.
اصطحبنا أحيدار في جولة بين قاعات برلمان بروكسل العريقة، وحدثنا عن تجربته منذ أكثر من 30 عاما، حيث خرج من حي "سان غيل"، وهو أحد أكثر أحياء العاصمة تهميشا، حاملا في داخله غضب المراهقين من ممارسات الشرطة، ومظلومية الأحياء المغاربية التي تُعامل كما لو أنها عبء أمني.
يقول "كنت في سن 15 عاما، وقلت: هذا لا يُحتمل، كنا نُفتَّش بلا سبب، ويُنظر إلينا كمجرمين فقط لأننا عرب، السياسة لم تكن طموحًا، بل رد فعل على الظلم".
دخل أحيدار البرلمان لأول مرة كمساعد في ديوان وزير الثقافة والشباب، ثم ما لبث أن أصبح نائبا منتخبا، وها هو اليوم يملك 3 من أصل 17 مقعدا ناطقا بالهولندية في برلمان بروكسل، أي ما يكفي لتعطيل تشكيل الحكومة أو تمريرها.
أبعد أحيدار عن حزبه اليساري، فأسس في 2024 حزبا جديدا أطلق عليه اسم "فريق فؤاد أحيدر". يقول "تعبت من الوعود، أردت حزبا يسمع الناس فعلا، لا حزبا يخاطبهم كل خمس سنوات فقط".
اتهامات وصمود
ومنذ تأسيس حزبه، يُهاجَم أحيدار بشكل متواصل من الإعلام ومن بعض خصومه الذين يصفونه بـ"الإسلامي المقنّع" أو "الإخواني المتخفي"، لكنه يرد ساخرا "أنا مسلم، واشتراكي، وبلجيكي، ولا أفهم أصلا ماذا يعني الإخوان، وهي تهمة أصبحت موضة في أوروبا لإسكات من يدافع عن المسلمين".
ويؤمن أحيدار بالتعددية ويمارسها، ويجمع فريقه البرلماني بين جنسيات وخلفيات ثقافية متنوعة، ويقول إن حزبه يضم أكثر من 60 متطوعا، لا يتقاضون أجورا بل يعملون من أجل الأحياء التي نشؤوا فيها.
ويضيف "نريد فقط سياسة عادلة، وسكنا لائقا، وتعليما مجانيا، وحرية معتقد"، منتقدا تضييق السلطات على المسلمين، من منع الذبح الحلال إلى ختان الأطفال، مرورا بتقييد الحجاب ببعض المهن.
وعن غزة، يقول أحيدار "ليست مسألة دينية، بل إنسانية، حين يُقتل الأطفال ولا يتحرك الضمير الأوروبي، فهناك خلل، نحن لا نطلب انحيازا، بل عدالة فقط".
ورغم صلابته الظاهرة، يذوب حين يتحدث عن والدته، ويردف "هي الرابط في حياتي، حين أتعب أتصل بها، ويكفي دعاؤها لأشعر أنني قادر على الاستمرار".
النساء أيضا
وثمة حضور لافت للنساء المهاجرات في بلديات بلجيكا، كحال فتيحة أمردون، وهي سيدة أعمال وأم لثلاثة أطفال، جمعت بين النشاط البلدي والعمل الخيري، لتصبح صوتا مسموعا في مدينة هارلبيكي، بصفتها رئيسة جمعية "تمازيرت" وعضوًا بالانتخاب في البلدية عن الحزب الديمقراطي المسيحي.
تعمل فتيحة على دعم الفئات الهشة وتعزيز قيم التضامن والاندماج، وتقول "نلت ثقة الناس لأنني واجهت التحديات، لكن ذلك يجعلني أُحسب كقوة يجب الحذر منها".
في ناحية أخرى، بمدينة بلانكينبيرغ الساحلية، حيث الجالية العربية والمسلمة تكاد لا تُرى، صنعت فاطمة أوميمون حضورا سياسيا من لا شيء، إذ بدأت من العمل الجماعي والأنشطة الثقافية، واستقبال اللاجئين، قبل أن تدعوها زميلتها للانضمام إلى حزب "فووريوت" (Vooruit)، حيث رأت فيه شغفا بالناس وبتحقيق عدالة اجتماعية حقيقية.
وبفضل خلفيتها القانونية وتجربتها في التعليم، شقّت طريقها السياسي بهدوء وثقة، ومنذ انتخابها عام 2018، وهي تعمل على ملفات التعليم، التعددية، ومحاربة الفقر، لتصبح أول امرأة مسلمة وعربية تُنتخب في قيادة الحزب بالمدينة.
ورغم هذه التجارب، فإن المشاركة السياسية للمواطنين من أصول عربية ومهاجرة في بلجيكا والتي قطعت شوطًا مهمًّا خلال العقود الأخيرة، لا تزال بعيدة عن تحقيق تمثيل يعكس وزنهم الديمغرافي، خاصة في المستويين الفدرالي والإقليمي الفلاماني.
ورغم بروز شخصيات مؤثرة كسامي مهدي، وفؤاد أحيدار، فإن كثيرا من النواب ذوي الأصول العربية، مثل رجاء معوان، ونبيل بوكيلي، ورشيدة آيت علوهة وغيرهم، يوجّهون جهودهم لخدمة مجتمعاتهم المحلية، والتعليم، والمساواة، بدلًا من تشكيل لوبيات ضغط فاعلة كما تفعل جاليات أخرى في دول أوروبية مثل و.
وهذا التوجّه يعكس روحا تضامنية وإنسانية، لكنه يسلّط الضوء أيضًا على الحاجة لوعي سياسي جمعي أقوى، وإستراتيجية طويلة المدى لرفع الصوت العربي في النقاش العام.