عام مر ومر معه العمر.. وعام سيأتي ويأتي معه الفضل
مَرَّ عام بمُر الأعوام وحلو السنين.. مَرَّ هذا العام بما فيه من آلام وأوجاع، من حب وأمل وتفاؤل.. مَرَّ بكل ما فيه، بحلوه ومُره، لكني لا أستطيع أن أقول إنه مرَّ كغيره من الأعوام التي مرت في حياتنا ومَرَّ معها العمر.. إنه عام بكل العمر الذي مضى.. بدأناه بأمل وحب وعِوض العمر كله، لكن كل هذا كان سرابًا، لم يستمرِ الأمل، ولم يدُمِ الحب، بل كان كذبة.. وتأرجحت مشاعرنا بين التفاؤل والخذلان.. قُتلنا فيه مرات عديدة. طعنات هذا العام كانت من أقرب المقربين.
لم يكنِ الخذلان سهلاً، بل كان قاتلاً لأنه أتى ممَّن أحببناهم ووثقنا بهم، ممَّن قالوا لنا إنهم لن يُفلتوا أيدينا مهما حدث، ولكننا فوجئنا أنهم لم يمسكوا بها أساسًا.. طعناته كانت في وتين القلب فلم تترك للحياة فرصة، بل قتلته بكل عنف.. لم يكن ذنبنا فيه سوى أننا أحببناهم بصدق.
فقط جعلناهم هم الحياة.. فجعلونا أمواتًا، مَرَّ هذا العام بحزن لم أرَ مثله في أي عام مضى، مَرَّ بوجع في القلب والعقل وما أدراكم ما وجع القلوب.. مَرَّ لكنه لم يمُرّ كغيره من الأعوام.. تلقيت فيه طعنات متتالية من أقرب المقربين من أصدقاء كنا يومًا نأكل معهم في طبق واحد، لم أستطع أن أتحمل كل تلك الطعنات كل تلك الآهات.. فانهمرتِ الدموع كالأنهار.. ليس ندمًا على مَن أحببناهم، ليس ندمًا على مَن وثقنا بهم، بل ندمًا على الحب، ندمًا على الصدق، ندمًا على قلب لم يروا منه سوى الحنان. لم يكن ينوي أن يؤلمهم في شيء.. لم يكنِ الخطأ منفردًا، بل كان مشتركًا.
نعم خطؤنا أننا أحببنا بعمق، أننا وثقنا بهم وهم ليسوا أهل ثقة، أننا ائتمناهم وهم خونة، وأحببناهم وهم كاذبون.. لا أخفي عليكم سرًّا، فجسدي أيضًا لم يتحمل خذلان هذا العام ولم يتحمل ما مر به من وجع وآلام.. فاستوطنته بعض الأمراض التي كان الحزن فيها سببًا.. ذلك كان الجانب المظلم هذا العام.. سخطنا لأننا بشر لم نستطعِ الصبر.. خانتنا قوانا وكُسرت قلوبنا، وقهرتنا الحياة قهرًا.. لكننا واجهنا ونهضنا وتعلَّمنا الدروس وأدركنا أن الباقي هو الله.. لا يبقى شيء في الحياة، كل شيء راحل.. الحب لن يدوم، والحزن أيضًا لن يدوم.. تعلَّمنا أن كل شيء سوف يمر، نعم وقد مُرَّ، ولكن مَرَّ وترك غُصة ستدوم في الحلق للأبد وطعنة ستظل في القلب ما حيينا.. ولكننا تعلَّمنا أن الأيام قست علينا حتى لا نأمن لبشر مرة أخرى، وأن العبودية والأمان يكون لله فقط.. نعم تعلَّمنا الكثير هذا العام.. تعلَّمنا أن الصديق يخون، وأن الحبيب يرحل، وأن البشر ليسوا بصادقين، وأن الثقة لا تُمنح لأي أحد.. نعم تعلَّمنا.. تعلَّمنا أيضًا أنه مهما ضربتك الأيام بكل قسوتها لا بد من المواجهة، وأن أخذ الحقوق يريح القلوب.. تعلَّمنا أن الشجاعة والرجولة صفتان لا توجدان في جنس الذكور إلا قليلاً، وأن بعض النساء يمتلكن هاتين الصفتين.. تعلَّمنا أن الضربات التي قتلت قلوبنا قد تحييها بطريقة أقوى نستطيع أن نكمل معها باقي مشوار العمر.. تعلَّمنا أن الأمل والحلم والتفاؤل معانٍ دائمًا موجودة بوجود الله.
تعلَّمنا أن الله لا يأخذ منَّا شيئًا نحبه إلا ليعطينا الأفضل منه، وليعلمنا أن التعلق يكون فقط لله.. تعلَّمنا أن الأحباب والأصدقاء قد يكونون شرًّا وليس كما نعتقد أنه خير.. فيعقوب أحب يوسف حبًّا شديدًا فحرمه الله منه ليكون عزيزَ مصر.. تعلَّمنا أن ليس كل منع حرمانًا، بل قد يكون المنع ليأتي أفضل العطاء.. تعلَّمنا أن المنع ليأتي الفضل، وأننا مهما بلغت عقولنا لا ندرك الحكمة من المنع، فيعقوب نبي وحينما مُنع من يوسف فابيضت عيناه من الحزن ونحن لا نملك الصبر ليس يأسًا أو عدم إيمان بل لا ندرك الحكمة كما لم يدركها يعقوب.. عام مر وسوف ينتهي عمَّا قريب كان فيه المنع موجعًا لقلوبنا.. لكن العطاء فيه أيضًا كان مدهشًا لعقولنا.. أدركنا حكمة الله.. وأدركنا أن الفضل في المنع فأعطانا الله فوق ما نتمنى وكأنه يداوي قلوبنا.. رزقنا بأناس لو أن ما بهم من حنان وُزِّع على أهل الأرض لفاض.. رزقنا من فضله بكثير من النعم، "نِعم" لا تُعد ولا تُحصى.. نعم كان عامًا أيضًا مليئًا بفضل وكرم ونِعم الله علينا.. "نِعم" من بشر يملكون قلوبًا من ذهب.. "نِعم" من تحقيق لأحلام.. "نِعم" من النهوض مرة أخرى والقدرة على مواجهة التحديات والكبوات التي أرادت أن تعرقل طريقنا.. ولكنَّا بفضل الله أكملنا الطريق "إياكم أن تحزنوا على فوات الأشياء.. .هناك أشياء كان ينبغي لها أن ترحل إلى الأبد.. .وهناك أشخاص كان ينبغي لهم منذ زمن أن يعودوا غرباء.. وهناك مواقف مريرة كان لا بد أن تمر علينا لنصبح أقوى في مواجهة غيرها فيما بعد.. وهناك فرص لا بد أن تضيع لأنها لو لم تضِع لضِعنا نحن.. الوقت لا يغير الأشخاص.. بل يُظهر حقيقتهم.. هذا ما حدث هذا العام.. حقًّا لم يكن كغيره من الأعوام.. بل كان بكل الأعوام الماضية.. قريبًا سيمر ويمرُّ معه كل حزن.. وسيظل فضل الله ونعمه باقية علينا للأبد.. فالحمد لله على المنع والحمد لله على العطاء.. اللهم عوضًا في الأعوام القادمة وامسح برحمتك على قلوبنا ولا تُرها خذلانًا أو وجعًا مرة أخرى.. عام مَرَّ ومَرَّ معه العمر، وعام سيأتي ويأتي معه الفضل.