صحافتي

سلطة رام الله في مواجهة شعبها

صحافتي بتاريخ: 27-12-2024 | 1 أيام مضت


الدور الوظيفي لسلطة رام الله وصل إلى درجة غير مسبوقة من الازدراء والغضب الشعبي، فثمة أغلبية ساحقة فلسطينية أو شبه إجماع بنزع الثقة من عباس وبضرورة استقالته (90 في المئة من أبناء الغربية، التي يحكمها عباس، يريدون استقالته)، وثمة أغلبية فلسطينية نفضت يدها من مسار التسوية بل وتؤيّد حلَّ .

السلطة هذه الأيام، على طريقة "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، تنفذ أجندة إسرائيلية أمريكية بامتياز من خلال محاولة إخضاع مخيم جنين لمعايير الاحتلال، وتنفيذ ما لم يستطع الاحتلال تنفيذه في السنوات الماضية من القضاء على ونزع أسلحتها، وإعادة جنين إلى "الحظيرة".

طوفان الأقصى والواقع الذي فرضه أدى إلى التأخر بالتنفيذ بانتظار ظروف أفضل، لكن طول المعركة وفوز ترامب بالرئاسة الأمريكية واقتراب توليه للحكم، دفعتا سلطة رام الله لتقديم "أوراق اعتمادها" باعتبارها "جديرة بالثقة الأمريكية"، وأنها يمكن الاعتماد عليها في تطويع الشعب الفلسطيني

عباس أصدر أوامر صارمة لقادته الأمنيين بإطلاق عملية السيطرة على جنين ومخيمها، وأبلغهم أن من سيخالف الأوامر فسيتم فصله. وتتداول وسائل التواصل الاجتماعي تسجيلا صوتيا لأحد ضباط أمن السلطة يتحدث بلغة عامية، بما مضمونه، أنه بناء على تعليمات "سيادة الرئيس" وقادة الأمن فلا انسحاب من مخيم جنين قبل أن يُداس على رؤوسهم (أي شباب المقاومة) ويُداس على رقاب أهاليهم، ويُنزع السلاح تماما من المخيم. واللافت في التسجيل إشارته أو اعترافه أن الانسحاب دون تحقيق الهدف يعني نهاية السلطة!! ولعل ذلك ما لوَّح به الإسرائيليون والأمريكيون لسلطة رام الله.

أدى تصعيد السلطة الأمني إلى سقوط ضحايا من الطرفين، وإلى حالة احتقان شعبية واسعة ضد السلطة. وحتى في وسط العديد من موظفي الأجهزة الأمنية لم يكن ثمة منطق فيما تقوم به السلطة، على الرغم من انتمائهم لها، واتساقهم مع خطها السياسي والأمني العام. ونقلت مصادر محسوبة على المقاومة تسريبات وصلت إليها أن السلطة احتجزت 237 من عسكرييها، الذين رفضوا المشاركة في عملية جنين (لم يتأكد الخبر من مصادر أخرى).

* * *

تعود الخطة التي تقوم سلطة رام الله بتنفيذها في جنين ومخيمها إلى قمة العقبة التي عُقدت في 26 شباط/ فبراير 2023، والتي جمعت سلطة رام الله والاحتلال الإسرائيلي والأردن ومصر والولايات المتحدة، وقمة شرم الشيخ في 19 آذار/ مارس 2023 التي جمعت الأطراف نفسها؛ وتركّز النقاش فيها على خطة أمنية أمريكية يُشرف عليها الجنرال الأمريكي مايكل فنزل (Michael Fenzel) تقترح تدريب نحو خمسة آلاف عنصر أمني فلسطيني في الأردن بإشراف أمريكي، ويتم استخدامهم في السيطرة على جنين ونابلس.

ويبدو أنه تم تأجيل تنفيذ الخطة، ربما بانتظار تدريب العناصر المطلوبة، غير أنه على ما يظهر فإن طوفان الأقصى والواقع الذي فرضه أدى إلى التأخر بالتنفيذ بانتظار ظروف أفضل، لكن طول المعركة وفوز ترامب بالرئاسة الأمريكية واقتراب توليه للحكم، دفعتا سلطة رام الله لتقديم "أوراق اعتمادها" باعتبارها "جديرة بالثقة الأمريكية"، وأنها يمكن الاعتماد عليها في تطويع الشعب الفلسطيني.

* * *

بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي، فالدور الوظيفي الأمني هو المبرر الأساس لوجود السلطة الفلسطينية. وبحسب وزير الخارجية الإسرائيلية السابق يائير لابيد، عندما كان في منصبه (في أيلول/ سبتمبر 2021) فإن "90 في المئة من العلاقة مع السلطة تتعلق بالتنسيق الأمني"، وهو تصريح يعبر عن القطاع الأوسع السياسي والأمني والعسكري الإسرائيلي. وإذا كان لابيد يمثل حالة "الوسط" الإسرائيلي؛ فلك أن تتصور مواقف اليمين المتشدد بقيادة الليكود أو الصهيونية الدينية بقيادة سموتريتش وبن غفير. وهي مواقف تميل إما إلى تحويل سلطة رام الله إلى حالة "لحدية" أي حالة "عمالة كاملة"، أو تفكيك السلطة نفسها إلى ستة أو سبعة كانتونات في الضفة الغربية، تقوم بأدوار أمنية مكشوفة ومباشرة في خدمة الاحتلال.

السلطة الفلسطينية في رام الله التي فقدت البوصلة، وفقدت الإحساس بالمسؤولية الوطنية، فشلت في قراءة مدلولات معركة طوفان الأقصى، وفشلت في التعامل بالحد الأدنى مع الوحشية والمجازر البشعة والدمار والتجويع الذي يستفرغ فيه الاحتلال كافة أشكال حقده وعنصريته ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وقمعت مظاهر الدعم الشعبي الفلسطيني في الضفة الغربية لغزة وللمقاومة، وتجاهلت مشاعر ومواقف الأغلبية الساحقة للشعب الفلسطيني المؤيدة للمقاومة والرافضة لمسار أوسلو وللتنسيق الأمني والمطالبة لعباس بالاستقالة.

قيادة السلطة على ما يبدو تريد أن تنهي سيرتها (بانسجام مع تاريخها في السنوات الماضية) بالإصرار على تقزيم نفسها، والانكفاء على حساباتها الشخصية ومماحكاتها الفصائلية، باعتبارها أسوأ قيادة لشعب في حالة تحرر وطني

سلطة رام الله ترى بعينها كيف يقوم الاحتلال الإسرائيلي بشكل منهجي في تقويض سلطتها، ومصادرة الأرض والمقدسات وتهويدها، وكيف يعلن قادة الحكومة الحاليون انتهاء مسار أوسلو، وإسقاط كم الدولة الفلسطينية والرغبة في ضم الضفة الغربية أو معظمها.. تقوم بالتنسيق مع الأمريكان حتى يسمح لها الإسرائيليون بالتزود بأسلحة أمريكية لقمع المقاومة في جنين، بل وترى السلطة في ذلك (بحسب موقع أكسيوس) "لحظة حاسمة" بالنسبة لها. وكأن السلطة تلاحق الزمن لتبرير وجودها لدى الاحتلال، وربما لدى ترامب القادم، الذي تخشى أن يتبنى في الأيام القادمة وجهة النظر الإسرائيلية "المتطرفة" بضم مناطق "ج" التي تشكل 60 في المئة من مساحة الضفة، وبالتالي تُسدل الستار على تجربة السلطة؛ خصوصا وأن ترامب نفسه لا يأبه لا باتفاق أوسلو ولا بمسار التسوية.

وكان من المفترض، انسجاما مع الموقف الشعبي الفلسطيني وموقف معظم الفصائل والقوى الفلسطينية، ألا تقوم السلطة بمزيد من الاستجداء ومزيد من الخدمات للعدو، بحيث تتعرى تماما من دورها الوطني، وتنهي عمليا مبرر وجودها لدى الفلسطينيين. بل كان عليها ما دامت هي ذاتها وكافة جدليات وجودها في عين الاستهداف، أن تستقوي بشعبها، وأن تستقوي بمقاومتها، وأن تستقوي بالوحدة الوطنية وبتعزيز الصف الفلسطيني.. خصوصا مع عدو لا يفهم إلا لغة القوة.

غير أن قيادة السلطة على ما يبدو تريد أن تنهي سيرتها (بانسجام مع تاريخها في السنوات الماضية) بالإصرار على تقزيم نفسها، والانكفاء على حساباتها الشخصية ومماحكاتها الفصائلية، باعتبارها أسوأ قيادة لشعب في حالة تحرر وطني.