صراع الأضداد في بلاد الشام!
فى الأسابيع الأخيرة، بدأ الشرق الأوسط يشهد تغيرات سياسية مختلفة ومهمة.. هناك دولتان لهما طموحات، تتنافسان على التفوق الإقليمى، هما إيران وتركيا، وفى مواجهتهما تقف إسرائيل، طامع ثالث فى الأراضى السورية.. فبسقوط نظام بشار الأسد، أصبحت خريطة علاقات القوة فى الشرق الأوسط، على وشك التغيير، مع محاولة تركيا العودة كقوة إقليمية، قد تدخل فى صراع مباشر مع إسرائيل.. وتلقت إيران ضربة قوية، بعد أن تعرَّض قسم كبير من محورها للتفكك، حماس فى غزة، وحزب الله فى لبنان، ونظام الأسد فى سوريا، وفى العراق، بدأت تفقد قبضتها على الميليشيات الشيعية، وكذلك الحال فى اليمن.. صحيح أن إيران تعمل على بناء قوة الحوثيين فى صنعاء، لكن هناك دلائل متزايدة فى الأيام الأخيرة، على أن الحوثيين يخلقون نوعًا من الانفصال عن طهران ويقومون بتحركات مستقلة، بما فى ذلك إطلاق النار على إسرائيل.. وتواصل إسرائيل تعزيز مكانتها كقوة إقليمية، من خلال اجتياحها لمزيد من الأراضى السورية، منذ لحظة احتفال هيئة تحرير الشام بدخولها دمشق، وحتى كتابة هذه السطور، وأيضًا بالتعاون الاستراتيجى والأمنى، مثل الاتفاق مع اليونان فى مجالات الطاقة والقبة الحديدية اليونانية.. وفى الوقت نفسه، تستمر التوترات بين تركيا واليونان، بسبب تشديد الأخيرة علاقاتها مع إسرائيل.
الكاتب الإسرائيلى، آفى أشكنازى، يكتب فى صحيفة «معاريف» العبرية، أن تركيا تعمل، فى ظل حكم رجب طيب أردوغان، بنشاط على الترويج لتحرك يُجدد أيام الإمبراطورية العثمانية.. وسوريا هى المفتاح لتحقيق هذه الرغبة، فى ظل انسحاب إيران وروسيا من هناك، الذى يمهد لها الطريق.. وقد يتطور هذا الوضع فى الشرق الأوسط إلى تحالفين إقليميين: الأول، تركيا وسوريا ولبنان وليبيا.. والثانى، إسرائيل واليونان وقبرص والأردن والإمارات العربية المتحدة، وقبل كل شىء، المملكة العربية السعودية.. وهناك الآن مفتاحان على الطاولة لتحديد ما سيحدث هنا، على المدى القريب والمتوسط والطويل.
المفتاح الأول، وهو المفتاح المفقود، الرئيس الأمريكى المنتخب، دونالد ترامب، الذى من المفترض أن يتولى منصبه فى العشرين من يناير الحالى.. كيف سيتصرف فى المنطقة؟.. ما هو ترتيب أولوياته: الشرق الأوسط، وإيران، وربما حتى المكسيك، ومشكلة الهجرة وتهريب المخدرات إلى بلاده؟، وغيرها.. والمفتاح الثانى، هو، كيف ستستمر إسرائيل فى العمل بالمنطقة.. نظرة سريعة على شمال قطاع غزة، تُظهر أن غزة تحولت إلى جحيم.. لقد تم تدمير عشرات الآلاف من المنازل والمبانى، وقُتِل عشرات الآلاف من المدنيين غير المصابين، على يد الجيش الإسرائيلى.. ومن ناحية أخرى، فإن نظرة إلى جنوب لبنان، تكشف الصورة نفسها.. مسألة من خسر الحرب ليست واضحة.. ولكن هنا يأتى دور «لكن» المهم.. كيف يمكن الحفاظ على ما حققه الجيش الإسرائيلى؟.. والسؤال هنا هو: إلى أى مدى قد يؤثر التصميم الإسرائيلى على النظام الجديد فى الشرق الأوسط؟.
●●●
تصرفت تركيا وتتصرف من وراء الكواليس، فى التمرد داخل سوريا.. استثمرت موارد اقتصادية وعسكرية فى غزو سوريا، منذ عام 2011.. أولًا، للإضرار بالمنطقة الكردية ومنع التقارب بين المنطقة الكردية التركية والمنطقة السورية.. ولدى تركيا طموحات فى المنطقة، من بين أمور أخرى، العودة إلى نوع من الإمبراطورية العثمانية، فى سوريا أولًا.. وهنا، يقول د. تشاى إيتان كوهين يانروجاك، الخبير فى شئون تركيا، فى مركز موشيه ديان بجامعة تل أبيب، «بعد أن نجحوا ـ أى الأتراك ـ فى إخراج إيران وروسيا بسرعة من سوريا، فإنهم يسعون لملء الفراغ الذى خلقه ذلك فى سوريا».
وفى الأيام الأخيرة، صدرت تصريحات من الحكومة التركية، بما فى ذلك على لسان أردوغان، تُعلن فيها النوايا التركية فيما يتعلق بالمنطقة الكردية فى سوريا.. ولكن أيضًا فيما يتعلق بأجزاء أخرى من سوريا، بما فى ذلك المناطق الجنوبية.. ومن بين أمور أخرى، أعلن الأتراك عن أنهم يعتزمون إعادة إحياء خط سكة حديد الحجاز: إسطنبول ـ دمشق، وفى الوقت نفسه، تطوير طريق سريع بين تركيا وسوريا، وبناء مطارات تركية وموانئ بحرية فى سوريا.. هذا إلى جانب ضم أجزاء من الدولة السورية، الأمر الذى سيُحرِم قبرص من المياه الاقتصادية، ويمنع مد خطوط أنابيب الغاز بين إسرائيل وقبرص واليونان.. وكما قلنا، فإن هذا التحرك سيؤدى إلى ظهور تحالفين رئيسيين فى المنطقة: «التحالف الإسرائيلى»، إسرائيل وقبرص واليونان، وبجانبه الأردن والإمارات العربية المتحدة، وفى الخلفية المملكة العربية السعودية.. وعلى الجانب الآخر، هناك «تحالف تركيا»، مع سوريا ولبنان وليبيا.. وذلك يعزز النظام الأمنى الإسرائيلى، الذى يتابع التحركات التركية، «لم يتوقع أحد التحرك الذى حدث بهذه السرعة فى سوريا.. أبومحمد الجولانى لم يعتقد أن أحجار الدومينو ستسقط بهذه السرعة.. كان يهدف إلى الحصول على القليل، وليس إلى غزو سريع لسوريا بأكملها».
«هذه دولة ذات طموحات إمبريالية.. تركيا ذات أهمية كبيرة بالنسبة لنا فى الوقت الحالى.. دولة يبلغ عدد سكانها أربعة وثمانين مليون نسمة، واقتصادها يحتل المرتبة السابعة عشرة فى العالم.. اقتصاد يتمتع بقوة إنتاجية فعالة للغاية.. وقوة بحرية عسكرية كبيرة ومهمة، قوة جوية مماثلة لقواتنا من حيث العدد، ولكن قوتنا أفضل من حيث الجودة، وقوة برية كبيرة وقوية»، على حد وصف الجيش الإسرائيلى، الذى يرى أنه لا تزال هناك اتصالات وحوار بين أنقرة وتل أبيب، بما فى ذلك على مستويات العمل الأمنى.. وفى إسرائيل، ينتظرون دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فى العشرين من الشهر الجارى.. لأنه هو الشخص الكبير المفقود فى الجيش الإسرائيلى، وتستعد المؤسسة الأمنية لسيناريوهين رئيسيين فى هذا الصدد: الأول، أن ترامب سيسعى إلى التحرك بقوة ضد إيران، وسيطالب بالنظام فى المنطقة، وإقامة تحالف اتفاقيات بين إسرائيل والدول السُنية المعتدلة فى المنطقة، وعلى رأسها السعودية.. ومن خلال القيام بذلك، فإنه سينقل اهتمامه إلى كل من الروس والصينيين، وبعد أشهر من القتال، سيخلق واقعًا من الهدوء الإقليمى والقوة الأمريكية، ما سيسمح له بمواصلة فترة حكمه الهادئة، مع التركيز على الشئون الداخلية والسياسة الخارجية، وأهمها الاقتصاد الأمريكى.
السيناريو الثانى، هو العكس، حيث ستتخلى الولايات المتحدة عن نشاطها العسكرى فى المنطقة.. بل ويمكنها أن تسمح لتركيا بتنفيذ طموحاتها فى سوريا، بينما تسمح للولايات المتحدة بحرية النشاط التى يطلبها الأمريكيون فى المنطقة.. لذا، فإن الثمن الفورى سيدفعه الأكراد، الذين يطالب الأتراك الآن برءوسهم.. ويزعم الجيش الإسرائيلى، أنه إلى جانب تطور الوضع الجديد فى سوريا، كان الجيش الإسرائيلى مهتمًا بمواصلة القتال عشية وقف إطلاق النار فى لبنان، لكن ثلاثة عوامل رئيسية حالت دون ذلك، وأدت إلى دعم الجيش الإسرائيلى والمؤسسة الأمنية خلال فترة وقف إطلاق النار، «إذا عملنا فى منطقة قتال واحدة، وإذا كان لدينا المزيد من الموارد، وإذا كان لدينا المزيد من الشرعية الدولية».. إن إسرائيل عازمة على تنفيذ خطوة إنفاذ مهمة فى لبنان، حتى بعد مرور ستين يومًا من وقف إطلاق النار.. الليلة، وقد أطلقت إسرائيل أكثر من تلميح لهذا التصميم، عندما هاجم سلاح الجو فى عمق لبنان، فى البقاع، مستودعات أسلحة كبيرة لحزب الله، والتى تم نقل بعض الأسلحة منها، من سوريا إلى لبنان فى الأيام الأخيرة.
ويؤكد الجيش الإسرائيلى أيضًا، أنه إذا لم يفِ الجيش اللبنانى بالتزامه، بتنفيذ إنفاذ كبير فى المناطق التى من المفترض أن يُخليها الجيش الإسرائيلى داخل لبنان، فسوف يؤجل الجيش الإسرائيلى الإخلاء، كما هو منصوص عليه فى الاتفاقية، وتتمتع قيادة الشمال بالقدرات العملياتية والجاهزية العملياتية، لدخول أى خلية إقليمية فى جنوب لبنان، سيُخليها فى حال وجود خرق للاتفاق، وعدم تطبيقه من قِبل الجيش اللبنانى.
وبينما يتواصل القتال فى شمال شرقى سوريا، يضع الرئيس التركى شرطًا لا لبس فيه للميليشيات الكردية، «إما أن يُلقوا أسلحتهم أو يُدفنوا فى الأراضى السورية».. وبالتزامن مع ذلك، قام الجيش التركى بتصفية عناصر كردية، فى سوريا والعراق.. إذ وجه الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، قبل يومين، رسالة قوية إلى الميليشيات الكردية فى سوريا، على خلفية استمرار الاشتباكات بين القوات المدعومة من تركيا، ووحدات حماية الشعب الكردية شمال شرقى البلاد.. وقال أردوغان فى كلمة أمام أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاكم فى البرلمان: «على المقاتلين الأكراد فى سوريا إلقاء أسلحتهم، وإلا فسيتم دفنهم مع أسلحتهم فى الأراضى السورية».. وفى وقت سابق، أعلن الجيش التركى عن أنه قتل واحدًا وعشرين مقاتلًا كرديًا فى شمال سوريا والعراق.. وأعلنت وزارة الدفاع التركية عن مقتل عشرين عنصرًا من حزب العمال الكردى، ووحدات الحماية الشعبية الكردية فى شمال سوريا، بينما كانوا يستعدون لشن هجوم، كما قُتل عنصر آخر فى شمال العراق.. وقالت وزارة الدفاع التركية، «عملياتنا ستستمر بكفاءة وتصميم».. وتعتبر تركيا وحدات الدفاع الشعبى الكردى القوة الرائدة فى قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة ـ ذراعًا لحزب العمال الكردستانى، وتصنفها منظمة إرهابية منذ سقوط النظام السورى.. وتمسكت تركيا بمطالبتها بحل وحدات الدفاع الشعبى، وشددت على أنه لا مكان لها فى مستقبل سوريا.
●●●
وعلى خلفية زيارة وزير الطاقة الإسرائيلى، إيلى كوهين، إلى اليونان فى زيارة لشركة بيزك، حيث سيوقع مع نظيره اليونانى اتفاقية لتوسيع التعاون بين البلدين، فى مجالات الطاقة بشكل عام والغاز الطبيعى بشكل خاص، تتواصل التوترات بين اليونان وتركيا، خصوصًا فى ظل تقدم التعاون الأمنى بين اليونان وإسرائيل.. وكما يتذكر الكثيرون، قدم وزير الدفاع اليونانى، نيكوس دندياس، الشهر الماضى إلى برلمان بلاده، خطة شاملة لإنشاء نظام دفاع جوى يغطى كامل أراضى اليونان، يتم تنفيذها بالتعاون مع إسرائيل، استثمارًا بقيمة مليارى يورو، وتطوير أنظمة مضادة للطائرات بدون طيار وأنظمة دفاع جوى.. وإلى جانب ذلك، من المقرر إجراء إصلاح واسع النطاق للقوات المسلحة اليونانية، والذى من المتوقع أن يشمل إغلاق القواعد العسكرية غير الفعالة وتحسين القدرات الدفاعية.. وهو ما تعتبره تركيا بمثابة معركة مباشرة ضدها، إذ ترى تركيا اليونان وإسرائيل تهديدًا مشتركًا، وأن التعاون الأمنى، مثل القبة الحديدية اليونانية يقلق أنقرة كثيرًا.. ولم تكن ردود الأفعال فى تركيا بطيئة، إذ هاجمت وسائل الإعلام فى أنقرة هذه الخطوة، ووصفت صحيفة «تقويم» الخطة، بأنها «تحالف دفاعى ضد تركيا»، فى حين قالت صحيفة «يانى ساباك»، المرتبطة بأردوغان، إن اليونان تحاول تحسين قدراتها، خوفًا من تعزيز قوة تركيا.. كما توسعت صحيفة «صباح» فى الحديث عن خطط إعادة تنظيم القوات المسلحة اليونانية، وذكرت كلام أردوغان، الذى حذر فى الماضى، من أن «إسرائيل ستستهدف الأراضى التركية بعد فلسطين ولبنان».
ومؤخرًا، صرح أردوغان، بأن تركيا تعمل على تطوير نظام دفاعى موازٍ يسمى «القبة الفولاذية»، وقال، «إذا كانت لديهم قبة حديدية، فلدينا قبة فولاذية»، مضيفًا أن تركيا مستعدة للرد على أى تحرك يُنظر إليه على أنه تهديد.. فى غضون ذلك، يبدو أن اليونان يفضل التصرف مثل جيرانه الأوروبيين أيضًا، فيما يتعلق بمسألة اللاجئين السوريين.. وفى الأسبوع الماضى، أمرت الحكومة الانتقالية النمساوية بتجميد النظر فى طلبات اللجوء المقدمة من المواطنين السوريين، وإعادة النظر فى جميع الحالات التى تم فيها منح وضع اللاجئ بالفعل.. وبعد النمسا، انضمت اليونان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا أيضًا.. ويشير التعاون بين إسرائيل واليونان، إلى جانب التوترات مع تركيا، إلى واقع جديد فى المنطقة.. تعمل إسرائيل على ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية، لكن التوترات المحيطة بها تشير، إلى أن الطريق إلى الاستقرار لا يزال طويلًا.
ويبقى السؤال: ماذا تريد كل من القوى الثلاث، إيران وإسرائيل وتركيا من سوريا حقيقة؟، ذلك حديث مقال قادم.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.