الجوهري: القباج مثقف عضوي منفتح أنصف الفيلسوف المغربي الحبابي
قال الأكاديمي مصطفى الجوهري إن محمدا مصطفى القباج “قامة فكرية وتربوية نادرة في زماننا هذا، باعتباره من المفكرين القلائل الذين جمعوا في اهتماماتهم بين الفكر والتربية والثقافة والإبداع والترجمة والمسؤولية والتطوع والوفاء”، وهو ذو مسار “يتأسس على مشروع فكري وطني حداثي تنويري بمكوناته الفلسفية والأخلاقية، حرص على تطويره وتجديده في مختلف المحطات الثقافية”، وأسهم في “نهضة الثقافة الحديثة والمعاصرة مغربيا وعربيا”، بوصفه “مناضلا صلبا في تصريف مفردات مشروعه (…) ومثقفا عضويا وموضوعيا منفتحا على الفكر الإنساني”.
وفي ورقة حول مسار المدير العلمي السابق لأكاديمية المملكة المغربية، الذي درّس الفلسفة بالجامعة والمدرسة المولوية، ذكر الجوهري أنه “وإن كانت الفلسفة طليعة اهتمامات القباج نلاحظ أنه لامس في كتاباته مقاربات أملتها شرعية ميولاته الثقافية والإبداعية الذاتية التي نهض بها، وناضل من أجل تعميق البحث فيها، وتشجيع الإقبال عليها، مراهنا على تعدد الثقافات واحترام إنجازات الآخرين وطُروحاتهم الفكرية والثقافية، وتقريبها للقارئ المغربي والعربي يهدف بلورة منظور قومي ووطني واضح وسليم للثقافة الوطنية والعربية”.
وأضاف الأكاديمي ذاته شارحا: “رحلة النضال انطلقت عنده تربويا لدى اشتغاله بالتدريس، سواء بالتعليم الثانوي التأهيلي، أو التعليم الجامعي، أو بالمعهد المولوي، ما دفعه إلى العناية بالفكر التربوي من زوايا مختلفة، وله فيه مبادرات وأبحاث كثيرة عالجت الإصلاح التربوي، والتقويم التربوي، والتعريب، وخاصة تعريب التعليم العالي في الوطن العربي، وعلوم التربية بمختلف فروعها وأشكالها ومداراتها المعاصرة، ونظرياتها الإبستمولوجية والديداكتيكية، ومقاربتها التدريسية؛ فأبحاثه وتآليفه الفلسفية والتربوية معروفة (…) ولعله من الأساتذة الأول الذين كتبوا وألفوا في مقررات الفلسفة، ولاسيما الكتاب المدرسي؛ فالأستاذ القباج له كتاب في هذا الباب عنوانه ‘مدخل لدراسة الفلسفة’ خصصه لدراسة الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع (سنة 1966)، وهو كتاب بالاشتراك مع الأستاذ محمد عباس نور الدين، أستاذ الفلسفة
بمدارس محمد الخامس. والمعروف أن هذا الكتاب كان سباقا في بابه لكتاب ‘دروس في الفلسفة’ من تأليف: محمد عابد الجابري وأحمد السطاتي.”
وواصل المتحدث ذاته: “كتاب القباج اعتبر يومئذ حدثا تربويا نضاليا بامتياز، انطلاقا من الفراغ المهول في التأليف التربوي الموجه لتلاميذ التعليم الثانوي، وثانيا بما أثاره من نقاش وحوار ومواقف بين أطراف وهيئات متباينة جددت الحوار الفلسفي في قضاياه المتعددة”، وأردف: “كما أن للقباج دراسة مهمة بعنوان: ‘تدريس الفلسفة والبحث الفلسفي في الوطن العربي’، صدرت عن منشورات اليونسكو، ومن مستجداته التربوية والفلسفية ربط التربية والثقافة بظاهرة العولمة؛ وهو موضوع طريف أثار بدوره الكثير من المناقشات الفكرية والتحليلات المتباينة عالميا”.
وتطرق الجوهري إلى “محطة الإعلام الثقافي” في مسار محمد مصطفى القباج؛ إذ “خاض من خلالها تجارب متعددة شكلا ومضمونا، سمعية بصرية ومقروءة، لكنها ظلت مرتبطة بالفكر والثقافة، بل ظل حريصا أن تكون التجربة أو التجارب تتأس على مواصفات تواكب بناء مشروعه الثقافي والفكري التنويري”، واسترسل: “كنا نتتبع ما يكتبه وينشره في مختلف الصحف والمجلات المغربية والعربية، بدءا بجريدة (العلم) أو مجلة (آفاق) أو (الكتاب المغربي)، أو (مجلة أكاديمية المملكة المغربية) أو برامج الإذاعة الوطنية، كبرنامج (أعلام المغرب) أو (الأربعاء للثقافة والفن)، أو (المجلة العربية للثقافة) أو (كراسات أندلسية) أو (مجلة التربية الجديدة) أو (مجلة الوحدة)، التي كانت تصدر عن المجلس القومي للثقافة، إلى جانب دوره التأسيسي والتدبيري لسلسة (المعرفة للجميع) رفقة الدكتور محمد الدريح؛ ولعل شغفه بالإعلام الثقافي هو الذي حركه للعودة إليه في الفترة الأخيرة من خلال مجلة (المناهل) التي يرأس إدارة تحريرها، فضخ فيها كعادته دما جديدا، موظفا العمل الجماعي في لجن مستقلة تشتغل على ملفات ثقافية متخصصة في مجال المعرفة الثقافية”.
وتوقف الأكاديمي أيضا لدى “محطة المسرح التي نشطها القباج بعناية وارتبطت باسمه، وتألق فيها من زاويا مختلفة، سواء بمساهماته الواضحة في تأسيس بعض الفرق، التي شكلت يومئذ قفزة نوعية، كفرقة المعمورة أو التفاته لمسرح الهواة، مشاركا في إعداد دورات مهرجاناته الوطنية، أو بتشجيعه ودعمه الفرق المسرحية المغربية للتعريف بالمسرح المغربي في العالم العربي، وخاصة في المهرجانات الدولية؛ ومن خلال هذه المحطة قارب قضايا المسرح على كثرتها وتعددها وتطورها، وعلاقاتها بالسلطة، والفلسفة، والتلقي، والدرس، والتحليل النقدي، والتجريب والممارسة على الخشبة، ومشاركا بعروضه المتميزة في المهرجانات المسرحية، فأبدع نصوصا من بينها: ‘الصحراء السجينة’ و’دعاء القدس’، بالاشتراك مع أحمد الطيب العلج، وطعّم إبداعه بتآليف نقدية تعد مصدرا ومرجعا أساسيا في البحث المسرحي والإبداع الفني ناقشت قضايا الإبداع المسرحي، والمسرح والفلسفة ومسرح الطيب العلج، ورائدة المسرح النضالي ثريا جبران”.
وتشبّث المتحدث بتوصيف “المسار النضالي” قائلا: “في مقاربة وظائفه ومهامه سنلاحظ أنه مسار يمتد في الزمان والمكان بوصفه خبيرا في الفكر والثقافة، فبرز نضاله في منظومة الاستشارة عبر عدد من الوزارات والمنظمات والاتحادات والمجالس القومية والثقافية العربية والإفريقية، واللجن الوطنية للتربية والثقافة وحقوق الإنسان، وبأكاديمية المملكة المغربية، أو مسؤولياته التحريرية بعدد من الجرائد والمجلات (…) وخلاصة هذه الواجهة أن مهامها ووظائفها لم تغيره، فظل محافظا على خصاله الذاتية والأخلاقية التي عرف بها، مؤمنا بأن المناصب كانت تسعى إليه، ولم يكن يسعى إليها كما هو الشأن لكثير من الذين يتهافتون عليها لأغراض لا تخلو من العجب العجاب”.
هذه المهام لم تمنع القباج، كما شهد بذلك الجوهري، “من إضافة محطة هي وحدها تستحق التأمل لأهميتها النوعية ذاتيا واجتماعيا وإنسانيا وثقافيا، تبرز لافتة ذات مشاهد تقرأ من بعيد”، وهي “العمل التطوعي” الذي كان فيه “منظرا ومؤسسا ومواكبا وعضوا في منظمات ومنتديات وجمعيات وطنية ودولية، وهي كثيرة جدد من خلالها نضاله الثقافي والفكري والإنساني في نهضة المجتمع، وتنمية الثقافة”، وزاد: “لا أبالغ إذا قلت إنه من البارزين الأُوَل في التشجيع على الكتابة وعلى العمل الثقافي في كل تحركاته ولقاءاته، وخاصة في تطوير منظومة ثقافة التطوع؛ ومن نماذجها الفاعلة مشاركته في ندوة: (راهن العمل الثقافي وسؤال الفلسفة بالمغرب) التي انعقدت بمدينة مكناس (سنة 1984)، بمشاركة صفوة من الفلاسفة والمثقفين، من تنظيم فرع اتحاد كتاب المغرب، برئاسة الأستاذ عبد الرحمان بن زيدان، حيث اهتبل الجميع مناسبة هذا اللقاء للاحتجاج بتوقيف مجلة (البديل) التي صدر منها عددان، ومجلة ثانية (…) وللتنديد أيضا بالهجمة الشرسة على تدريس الفلسفة يومئذ بالجامعة المغربية والمؤسسات التربوية، وتأسيس شعب الدراسات الإسلامية التي أريد لها أن تعوض الدراسات الفلسفية”.
ومن بين ما اهتم به مصطفى الجوهري إخلاص مصطفى القباج “للثقافة والمثقفين”، مستحضرا مثال استمرار اهتمامه بالكتابة والحديث وغير ذلك عن “الأستاذ محمد عزيز الحبابي وزوجته فاطمة الجامعي دون الدخول في التفاصيل”، ثم استرسل: “ولعل قيمة تغلب عليه تظهر في أنفة التصويب وتصحيح المغالطات والتزييف الذي يطال بعض مهامه وأعماله، وفي ميل إلى الإنصات أولا، وإلى التأني في الإجابة ثانيا، والهدوء في التصويب ثالثا، ومن بينها على سبيل المثال: النشيد الوطني والشاعر علي الصقلي، وساحة جامع الفنا بمراكش، ورد الاعتبار إليها كتراث شفوي إنساني، ومناضلا من أجل الاعتراف بها كساحة للتراث الإنساني.”