صحافتي

مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية

صحافتي بتاريخ: 17-08-2021 | 3 سنوات مضت
//مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية
أخر الأخبار

مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية

محمد عبدالله محمد:

بعد مضي أكثر من 6 سنوات من الحرب في اليمن، لم يعد الحوثي مُهدَّداً بخسارة صنعاء. هذا متغير عسكري ووطني بالغ الأهمية. فعلى العكس، أصبحت الحكومة المعترف بها دولياً، ومعها التحالف بقيادة السعودية، مُهدَّدون فعلياً بخسارة أهم معاقلهم في الشمال: مأرب.

هناك حقيقة يجب أن نتذكرها؛ وهي أن العاصمة صنعاء تعدُّ مصدراً أساسياً من مصادر التفوق الاستراتيجي للحوثيين في مواجهة الأطراف اليمنية الأخرى، وذلك على الرغم من الخطر الذي ظلت تشكله مأرب عسكرياً، طوال سنوات الحرب، على سلطة الحوثيين فيها – في صنعاء.

بعد السيطرة على مديرية نهم، شرق صنعاء، ومن ثم السيطرة على محافظة الجوف ومديريات أخرى في البيضاء، وجد الحوثيين أنفسهم مرة أخرى بالقرب من محيط مدينة مأرب. وحتى لو لم يتمكنوا من اقتحام مدينة مأرب، فقد بات في رصيدهم نجاح عسكري لم يحلموا به: تأمين صنعاء تماماً من جهة الشرق.

بالطبع، إنّ بقاء معظم شمال اليمن خاضعاً لنفوذ جماعة الحوثي، حتى الآن، يمكن أن يُعزَى إلى أمور كثيرة: منها فشل، أو عجز، التحالف بقيادة السعودية عن توفير الدعم الكافي للقوات الحكومية اليمنية لانتزاع تلك المناطق، وهو العجز الذي يغذي سطوة الحوثيين على نحو متزايد.

كما يمكن الانحياز إلى تفسيرات كثيرة متباينة حول القضية: منها تفسيرات مذهبية (مثلاً: زيدية شافعية)، أو تفسيرات تاريخية (مثلاً: تحالف الرئيس صالح والحوثيين أو خيانة الرئيس هادي وتهاونه مع الحوثيين قبل فراره إلى عدن عام 2015 ومنها إلى الرياض)، أو تفسيرات سوسيولوجية جزافية (مثلاً: التفاف طوعي من قبائل الهضبة الشمالية، بنزعتهم القتالية، حول المشروع الحوثي للحفاظ على هيمنتهم).

صحيح، لا يمكن رفض مختلف هذه التفسيرات كلها بدون نقاش، فكل واحد منها تقريباً يأخذ من الحقيقة بطرف. بيد أن للقضية المطروحة بُعداً إضافياً، غير مرئي في الغالب، ولا يؤخذ عادةً في الاعتبار: يتمثل هذا البعد في أن أغلبية مناطق الحوثيين في شمال اليمن ليست سوى ما يمكن أن يحصل عليه -ويحتفظ به- من يضع يده -عسكرياً وسياسياً- على صنعاء، بكل الرصيد الذي تراكم لهذه المدينة العريقة طوال عقود وأضفى عليها بالنسبة للدولة اليمنية الحديثة رمزية تاريخية وروحية ملحوظة، ومكانة جيوسياسية ووطنية لا ينكرها أحد بصرف النظر عن أي شيء آخر.

وهذا يعني أن الاحتفاظ بالسيطرة على المساحة الأكبر في شمال اليمن لا يعكس جدارة الحوثيين العسكرية إلا على نحو جزئي. في نهاية المطاف، يعرف الجميع أن توسع الحوثيين في هذه المساحات لم يكن بالحرب وحدها شبراً بشبر. وباستثناء عدد قليل من المدن والمناطق التي أخذوها بالقوة رأساً، فإن بقية المناطق آلت إليهم كنتيجة لمعارك تم حسمها في مناطق أخرى، أو كنتيجة لمناخ الانهيار الذي هيمن على المشهد عام 2014.

ما نريد قوله هو أن بقاء هذا النطاق الجغرافي الممتد تحت سلطة الحوثي اليوم، بقاءه متماسكاً، يعود جزئياً إلى كونه يقع بشكل مباشر تحت تأثير ما يمكن أن نسميه “إشعاع مركزي” صادر عن صنعاء كعاصمة سياسية وإدارية لليمن الذي تكوَّن من اتحاد دولتي الشمال والجنوب عام 1990. والإشعاع هنا هو أشبه بطاقة جذب معنوي ومادي نابعة من الشخصية التاريخية والحضارية التي اكتسبها المكان بمرور السنين. ناهيك عن أن هياكل وأجهزة الدولة اليمنية المنهارة كانت لا تزال مصمَّمة لأداء غرض توحيدي يربط شؤون المحافظات والمديريات على مستوى الجمهورية بالعاصمة.

وبالتالي؛ فإن كثير من أراضي الحوثيين، بكتلتها السكانية الضخمة وتنوعها المذهبي، لم تكن في جانب كبير منها أكثر من جائزة سهلة، وثمينة، جائزة ما كان بوسع الحوثيين الحصول عليها ثم الاحتفاظ بها عسكرياً كل هذا الوقت لو لم تكن صنعاء بوصفها العاصمة قد وقعت في قبضتهم منذ نهاية 2014، وهذا لا يعني استبعاد بقية العوامل التي ساهمت تدريجياً في نتيجة كهذه.

ومع ذلك، فإن طاقة الجذب المركزي الوطني لمدينة كصنعاء، لم تكن مهيأة لأن تكون مُطْلَقة وبلا حدود من حيث المدى الجغرافي والاجتماعي الذي يمكن لها بلوغه، أي أنها لم تكن قوية بما يكفي لتغطية المجال اليمني كاملاً بتأثير تلقائي وغير مشروط، وذلك بالنظر إلى أن المركزية السياسية لصنعاء في تاريخ اليمن عامةً تفتقر للاستمرارية والكثافة طويلة الأمد، وبالنظر إلى حقيقة أن الجمهورية اليمنية هي دولة حديثة النشأة ومعقدة التكوين، وبالنظر إلى أن القوة التي سيطرت على صنعاء هي جماعة الحوثي.

وقد كان من الأفضل لطاقة الجذب المركزي لصنعاء أن تشمل كل اليمن دفعةً واحدة، وهو ما كان سيسمح بنشوء معادلة صراع وطنية يمكن من خلالها استعادة اليمن من يد الحوثيين دفعة واحدة أيضاً. ربما كان ذلك سيكون ممكناً لو لم تكن القوة التي وضعتْ يدها على صنعاء هي الحوثيين، الذين هم في جوهرهم حركة إحياء سياسي مذهبي، وليسوا أبداً حركة تحرر وطني عابرة للحدود المذهبية والطائفية والجهوية، أو حتى فصيل انقلابي من داخل بُنى الدولة المدنية أو العسكرية. ذلك أن طبيعة الفصيل المسيطر قد ساهمت بالتأكيد في تقليص مفعول الأثر الجيوسياسي والمعنوي للمكان، الذي هو هنا صنعاء.
وفي العادة، يساعد الاستيلاء على العاصمة في صنع حالة من الاسقطاب -إزاء القوة المسيطرة- تتسم بطابع وطني، أي بطابع كلي يُنظَر فيه إلى البلد كفضاء سياسي واجتماعي يتمتع من حيث المبدأ بوحدة المصير، أياً تكن هذه القوة المسيطرة أو مشروعها. ومن الواضح أن الحوثي يجني فوائد هذه الميزة إلى أبعد ما يستطيعه، على الرغم من تكوينه الديني المذهبي كما أشرنا قبل قليل!

من جانب آخر، يستفيد الحوثيين من الربط الذي تقيمه بعض وسائل الإعلام بين صنعاء وبين سلطتهم غير المعترف بها دولياً، فتغدو هذه السلطة هي “سلطة صنعاء”، وقواتها “قوات صنعاء”، وفريقها المفاوض “وفد صنعاء”، بحيث يحتكر الحوثيين من خلال هذا التأطير رمزية صنعاء ومكانتها التاريخية، الأمر الذي يلحق الضرر بالموقع التوحيدي السامي الذي امتلكته صنعاء، في العقود الخمسة الأخيرة، بالنسبة لفكرة الكيان الوطني الواحد، وهو ما قد يتسبب بإعادتها من جديد إلى موقعها داخل تصنيف انقسامي قديم ومخادع، يقوم على المطابقة الذهنية بين الجغرافي (الثابت) والمذهبي (المتغير)!

باختصار، لن يكون وضع الحوثيين العسكري والسياسي مهزوزاً ومستقبلهم مشكوكاً فيه، إلا في حال كانت صنعاء مهدَّدة في مواجهة ضغط عسكري جاد، وهذا ما لم يعد قائماً منذ اللحظة التي أصبحت فيها بندقية الحوثي مصوَّبة نحو جمجمة مأرب من ثلاث جهات!

اترك تعليقاً


//مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية
أخر الأخبار

مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية

محمد عبدالله محمد:

بعد مضي أكثر من 6 سنوات من الحرب في اليمن، لم يعد الحوثي مُهدَّداً بخسارة صنعاء. هذا متغير عسكري ووطني بالغ الأهمية. فعلى العكس، أصبحت الحكومة المعترف بها دولياً، ومعها التحالف بقيادة السعودية، مُهدَّدون فعلياً بخسارة أهم معاقلهم في الشمال: مأرب.

هناك حقيقة يجب أن نتذكرها؛ وهي أن العاصمة صنعاء تعدُّ مصدراً أساسياً من مصادر التفوق الاستراتيجي للحوثيين في مواجهة الأطراف اليمنية الأخرى، وذلك على الرغم من الخطر الذي ظلت تشكله مأرب عسكرياً، طوال سنوات الحرب، على سلطة الحوثيين فيها – في صنعاء.

بعد السيطرة على مديرية نهم، شرق صنعاء، ومن ثم السيطرة على محافظة الجوف ومديريات أخرى في البيضاء، وجد الحوثيين أنفسهم مرة أخرى بالقرب من محيط مدينة مأرب. وحتى لو لم يتمكنوا من اقتحام مدينة مأرب، فقد بات في رصيدهم نجاح عسكري لم يحلموا به: تأمين صنعاء تماماً من جهة الشرق.

بالطبع، إنّ بقاء معظم شمال اليمن خاضعاً لنفوذ جماعة الحوثي، حتى الآن، يمكن أن يُعزَى إلى أمور كثيرة: منها فشل، أو عجز، التحالف بقيادة السعودية عن توفير الدعم الكافي للقوات الحكومية اليمنية لانتزاع تلك المناطق، وهو العجز الذي يغذي سطوة الحوثيين على نحو متزايد.

كما يمكن الانحياز إلى تفسيرات كثيرة متباينة حول القضية: منها تفسيرات مذهبية (مثلاً: زيدية شافعية)، أو تفسيرات تاريخية (مثلاً: تحالف الرئيس صالح والحوثيين أو خيانة الرئيس هادي وتهاونه مع الحوثيين قبل فراره إلى عدن عام 2015 ومنها إلى الرياض)، أو تفسيرات سوسيولوجية جزافية (مثلاً: التفاف طوعي من قبائل الهضبة الشمالية، بنزعتهم القتالية، حول المشروع الحوثي للحفاظ على هيمنتهم).

صحيح، لا يمكن رفض مختلف هذه التفسيرات كلها بدون نقاش، فكل واحد منها تقريباً يأخذ من الحقيقة بطرف. بيد أن للقضية المطروحة بُعداً إضافياً، غير مرئي في الغالب، ولا يؤخذ عادةً في الاعتبار: يتمثل هذا البعد في أن أغلبية مناطق الحوثيين في شمال اليمن ليست سوى ما يمكن أن يحصل عليه -ويحتفظ به- من يضع يده -عسكرياً وسياسياً- على صنعاء، بكل الرصيد الذي تراكم لهذه المدينة العريقة طوال عقود وأضفى عليها بالنسبة للدولة اليمنية الحديثة رمزية تاريخية وروحية ملحوظة، ومكانة جيوسياسية ووطنية لا ينكرها أحد بصرف النظر عن أي شيء آخر.

وهذا يعني أن الاحتفاظ بالسيطرة على المساحة الأكبر في شمال اليمن لا يعكس جدارة الحوثيين العسكرية إلا على نحو جزئي. في نهاية المطاف، يعرف الجميع أن توسع الحوثيين في هذه المساحات لم يكن بالحرب وحدها شبراً بشبر. وباستثناء عدد قليل من المدن والمناطق التي أخذوها بالقوة رأساً، فإن بقية المناطق آلت إليهم كنتيجة لمعارك تم حسمها في مناطق أخرى، أو كنتيجة لمناخ الانهيار الذي هيمن على المشهد عام 2014.

ما نريد قوله هو أن بقاء هذا النطاق الجغرافي الممتد تحت سلطة الحوثي اليوم، بقاءه متماسكاً، يعود جزئياً إلى كونه يقع بشكل مباشر تحت تأثير ما يمكن أن نسميه “إشعاع مركزي” صادر عن صنعاء كعاصمة سياسية وإدارية لليمن الذي تكوَّن من اتحاد دولتي الشمال والجنوب عام 1990. والإشعاع هنا هو أشبه بطاقة جذب معنوي ومادي نابعة من الشخصية التاريخية والحضارية التي اكتسبها المكان بمرور السنين. ناهيك عن أن هياكل وأجهزة الدولة اليمنية المنهارة كانت لا تزال مصمَّمة لأداء غرض توحيدي يربط شؤون المحافظات والمديريات على مستوى الجمهورية بالعاصمة.

وبالتالي؛ فإن كثير من أراضي الحوثيين، بكتلتها السكانية الضخمة وتنوعها المذهبي، لم تكن في جانب كبير منها أكثر من جائزة سهلة، وثمينة، جائزة ما كان بوسع الحوثيين الحصول عليها ثم الاحتفاظ بها عسكرياً كل هذا الوقت لو لم تكن صنعاء بوصفها العاصمة قد وقعت في قبضتهم منذ نهاية 2014، وهذا لا يعني استبعاد بقية العوامل التي ساهمت تدريجياً في نتيجة كهذه.

ومع ذلك، فإن طاقة الجذب المركزي الوطني لمدينة كصنعاء، لم تكن مهيأة لأن تكون مُطْلَقة وبلا حدود من حيث المدى الجغرافي والاجتماعي الذي يمكن لها بلوغه، أي أنها لم تكن قوية بما يكفي لتغطية المجال اليمني كاملاً بتأثير تلقائي وغير مشروط، وذلك بالنظر إلى أن المركزية السياسية لصنعاء في تاريخ اليمن عامةً تفتقر للاستمرارية والكثافة طويلة الأمد، وبالنظر إلى حقيقة أن الجمهورية اليمنية هي دولة حديثة النشأة ومعقدة التكوين، وبالنظر إلى أن القوة التي سيطرت على صنعاء هي جماعة الحوثي.

وقد كان من الأفضل لطاقة الجذب المركزي لصنعاء أن تشمل كل اليمن دفعةً واحدة، وهو ما كان سيسمح بنشوء معادلة صراع وطنية يمكن من خلالها استعادة اليمن من يد الحوثيين دفعة واحدة أيضاً. ربما كان ذلك سيكون ممكناً لو لم تكن القوة التي وضعتْ يدها على صنعاء هي الحوثيين، الذين هم في جوهرهم حركة إحياء سياسي مذهبي، وليسوا أبداً حركة تحرر وطني عابرة للحدود المذهبية والطائفية والجهوية، أو حتى فصيل انقلابي من داخل بُنى الدولة المدنية أو العسكرية. ذلك أن طبيعة الفصيل المسيطر قد ساهمت بالتأكيد في تقليص مفعول الأثر الجيوسياسي والمعنوي للمكان، الذي هو هنا صنعاء.
وفي العادة، يساعد الاستيلاء على العاصمة في صنع حالة من الاسقطاب -إزاء القوة المسيطرة- تتسم بطابع وطني، أي بطابع كلي يُنظَر فيه إلى البلد كفضاء سياسي واجتماعي يتمتع من حيث المبدأ بوحدة المصير، أياً تكن هذه القوة المسيطرة أو مشروعها. ومن الواضح أن الحوثي يجني فوائد هذه الميزة إلى أبعد ما يستطيعه، على الرغم من تكوينه الديني المذهبي كما أشرنا قبل قليل!

من جانب آخر، يستفيد الحوثيين من الربط الذي تقيمه بعض وسائل الإعلام بين صنعاء وبين سلطتهم غير المعترف بها دولياً، فتغدو هذه السلطة هي “سلطة صنعاء”، وقواتها “قوات صنعاء”، وفريقها المفاوض “وفد صنعاء”، بحيث يحتكر الحوثيين من خلال هذا التأطير رمزية صنعاء ومكانتها التاريخية، الأمر الذي يلحق الضرر بالموقع التوحيدي السامي الذي امتلكته صنعاء، في العقود الخمسة الأخيرة، بالنسبة لفكرة الكيان الوطني الواحد، وهو ما قد يتسبب بإعادتها من جديد إلى موقعها داخل تصنيف انقسامي قديم ومخادع، يقوم على المطابقة الذهنية بين الجغرافي (الثابت) والمذهبي (المتغير)!

باختصار، لن يكون وضع الحوثيين العسكري والسياسي مهزوزاً ومستقبلهم مشكوكاً فيه، إلا في حال كانت صنعاء مهدَّدة في مواجهة ضغط عسكري جاد، وهذا ما لم يعد قائماً منذ اللحظة التي أصبحت فيها بندقية الحوثي مصوَّبة نحو جمجمة مأرب من ثلاث جهات!

اترك تعليقاً


//مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية
أخر الأخبار

مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية

محمد عبدالله محمد:

بعد مضي أكثر من 6 سنوات من الحرب في اليمن، لم يعد الحوثي مُهدَّداً بخسارة صنعاء. هذا متغير عسكري ووطني بالغ الأهمية. فعلى العكس، أصبحت الحكومة المعترف بها دولياً، ومعها التحالف بقيادة السعودية، مُهدَّدون فعلياً بخسارة أهم معاقلهم في الشمال: مأرب.

هناك حقيقة يجب أن نتذكرها؛ وهي أن العاصمة صنعاء تعدُّ مصدراً أساسياً من مصادر التفوق الاستراتيجي للحوثيين في مواجهة الأطراف اليمنية الأخرى، وذلك على الرغم من الخطر الذي ظلت تشكله مأرب عسكرياً، طوال سنوات الحرب، على سلطة الحوثيين فيها – في صنعاء.

بعد السيطرة على مديرية نهم، شرق صنعاء، ومن ثم السيطرة على محافظة الجوف ومديريات أخرى في البيضاء، وجد الحوثيين أنفسهم مرة أخرى بالقرب من محيط مدينة مأرب. وحتى لو لم يتمكنوا من اقتحام مدينة مأرب، فقد بات في رصيدهم نجاح عسكري لم يحلموا به: تأمين صنعاء تماماً من جهة الشرق.

بالطبع، إنّ بقاء معظم شمال اليمن خاضعاً لنفوذ جماعة الحوثي، حتى الآن، يمكن أن يُعزَى إلى أمور كثيرة: منها فشل، أو عجز، التحالف بقيادة السعودية عن توفير الدعم الكافي للقوات الحكومية اليمنية لانتزاع تلك المناطق، وهو العجز الذي يغذي سطوة الحوثيين على نحو متزايد.

كما يمكن الانحياز إلى تفسيرات كثيرة متباينة حول القضية: منها تفسيرات مذهبية (مثلاً: زيدية شافعية)، أو تفسيرات تاريخية (مثلاً: تحالف الرئيس صالح والحوثيين أو خيانة الرئيس هادي وتهاونه مع الحوثيين قبل فراره إلى عدن عام 2015 ومنها إلى الرياض)، أو تفسيرات سوسيولوجية جزافية (مثلاً: التفاف طوعي من قبائل الهضبة الشمالية، بنزعتهم القتالية، حول المشروع الحوثي للحفاظ على هيمنتهم).

صحيح، لا يمكن رفض مختلف هذه التفسيرات كلها بدون نقاش، فكل واحد منها تقريباً يأخذ من الحقيقة بطرف. بيد أن للقضية المطروحة بُعداً إضافياً، غير مرئي في الغالب، ولا يؤخذ عادةً في الاعتبار: يتمثل هذا البعد في أن أغلبية مناطق الحوثيين في شمال اليمن ليست سوى ما يمكن أن يحصل عليه -ويحتفظ به- من يضع يده -عسكرياً وسياسياً- على صنعاء، بكل الرصيد الذي تراكم لهذه المدينة العريقة طوال عقود وأضفى عليها بالنسبة للدولة اليمنية الحديثة رمزية تاريخية وروحية ملحوظة، ومكانة جيوسياسية ووطنية لا ينكرها أحد بصرف النظر عن أي شيء آخر.

وهذا يعني أن الاحتفاظ بالسيطرة على المساحة الأكبر في شمال اليمن لا يعكس جدارة الحوثيين العسكرية إلا على نحو جزئي. في نهاية المطاف، يعرف الجميع أن توسع الحوثيين في هذه المساحات لم يكن بالحرب وحدها شبراً بشبر. وباستثناء عدد قليل من المدن والمناطق التي أخذوها بالقوة رأساً، فإن بقية المناطق آلت إليهم كنتيجة لمعارك تم حسمها في مناطق أخرى، أو كنتيجة لمناخ الانهيار الذي هيمن على المشهد عام 2014.

ما نريد قوله هو أن بقاء هذا النطاق الجغرافي الممتد تحت سلطة الحوثي اليوم، بقاءه متماسكاً، يعود جزئياً إلى كونه يقع بشكل مباشر تحت تأثير ما يمكن أن نسميه “إشعاع مركزي” صادر عن صنعاء كعاصمة سياسية وإدارية لليمن الذي تكوَّن من اتحاد دولتي الشمال والجنوب عام 1990. والإشعاع هنا هو أشبه بطاقة جذب معنوي ومادي نابعة من الشخصية التاريخية والحضارية التي اكتسبها المكان بمرور السنين. ناهيك عن أن هياكل وأجهزة الدولة اليمنية المنهارة كانت لا تزال مصمَّمة لأداء غرض توحيدي يربط شؤون المحافظات والمديريات على مستوى الجمهورية بالعاصمة.

وبالتالي؛ فإن كثير من أراضي الحوثيين، بكتلتها السكانية الضخمة وتنوعها المذهبي، لم تكن في جانب كبير منها أكثر من جائزة سهلة، وثمينة، جائزة ما كان بوسع الحوثيين الحصول عليها ثم الاحتفاظ بها عسكرياً كل هذا الوقت لو لم تكن صنعاء بوصفها العاصمة قد وقعت في قبضتهم منذ نهاية 2014، وهذا لا يعني استبعاد بقية العوامل التي ساهمت تدريجياً في نتيجة كهذه.

ومع ذلك، فإن طاقة الجذب المركزي الوطني لمدينة كصنعاء، لم تكن مهيأة لأن تكون مُطْلَقة وبلا حدود من حيث المدى الجغرافي والاجتماعي الذي يمكن لها بلوغه، أي أنها لم تكن قوية بما يكفي لتغطية المجال اليمني كاملاً بتأثير تلقائي وغير مشروط، وذلك بالنظر إلى أن المركزية السياسية لصنعاء في تاريخ اليمن عامةً تفتقر للاستمرارية والكثافة طويلة الأمد، وبالنظر إلى حقيقة أن الجمهورية اليمنية هي دولة حديثة النشأة ومعقدة التكوين، وبالنظر إلى أن القوة التي سيطرت على صنعاء هي جماعة الحوثي.

وقد كان من الأفضل لطاقة الجذب المركزي لصنعاء أن تشمل كل اليمن دفعةً واحدة، وهو ما كان سيسمح بنشوء معادلة صراع وطنية يمكن من خلالها استعادة اليمن من يد الحوثيين دفعة واحدة أيضاً. ربما كان ذلك سيكون ممكناً لو لم تكن القوة التي وضعتْ يدها على صنعاء هي الحوثيين، الذين هم في جوهرهم حركة إحياء سياسي مذهبي، وليسوا أبداً حركة تحرر وطني عابرة للحدود المذهبية والطائفية والجهوية، أو حتى فصيل انقلابي من داخل بُنى الدولة المدنية أو العسكرية. ذلك أن طبيعة الفصيل المسيطر قد ساهمت بالتأكيد في تقليص مفعول الأثر الجيوسياسي والمعنوي للمكان، الذي هو هنا صنعاء.
وفي العادة، يساعد الاستيلاء على العاصمة في صنع حالة من الاسقطاب -إزاء القوة المسيطرة- تتسم بطابع وطني، أي بطابع كلي يُنظَر فيه إلى البلد كفضاء سياسي واجتماعي يتمتع من حيث المبدأ بوحدة المصير، أياً تكن هذه القوة المسيطرة أو مشروعها. ومن الواضح أن الحوثي يجني فوائد هذه الميزة إلى أبعد ما يستطيعه، على الرغم من تكوينه الديني المذهبي كما أشرنا قبل قليل!

من جانب آخر، يستفيد الحوثيين من الربط الذي تقيمه بعض وسائل الإعلام بين صنعاء وبين سلطتهم غير المعترف بها دولياً، فتغدو هذه السلطة هي “سلطة صنعاء”، وقواتها “قوات صنعاء”، وفريقها المفاوض “وفد صنعاء”، بحيث يحتكر الحوثيين من خلال هذا التأطير رمزية صنعاء ومكانتها التاريخية، الأمر الذي يلحق الضرر بالموقع التوحيدي السامي الذي امتلكته صنعاء، في العقود الخمسة الأخيرة، بالنسبة لفكرة الكيان الوطني الواحد، وهو ما قد يتسبب بإعادتها من جديد إلى موقعها داخل تصنيف انقسامي قديم ومخادع، يقوم على المطابقة الذهنية بين الجغرافي (الثابت) والمذهبي (المتغير)!

باختصار، لن يكون وضع الحوثيين العسكري والسياسي مهزوزاً ومستقبلهم مشكوكاً فيه، إلا في حال كانت صنعاء مهدَّدة في مواجهة ضغط عسكري جاد، وهذا ما لم يعد قائماً منذ اللحظة التي أصبحت فيها بندقية الحوثي مصوَّبة نحو جمجمة مأرب من ثلاث جهات!

اترك تعليقاً










//مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية
أخر الأخبار

مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية

محمد عبدالله محمد:

بعد مضي أكثر من 6 سنوات من الحرب في اليمن، لم يعد الحوثي مُهدَّداً بخسارة صنعاء. هذا متغير عسكري ووطني بالغ الأهمية. فعلى العكس، أصبحت الحكومة المعترف بها دولياً، ومعها التحالف بقيادة السعودية، مُهدَّدون فعلياً بخسارة أهم معاقلهم في الشمال: مأرب.

هناك حقيقة يجب أن نتذكرها؛ وهي أن العاصمة صنعاء تعدُّ مصدراً أساسياً من مصادر التفوق الاستراتيجي للحوثيين في مواجهة الأطراف اليمنية الأخرى، وذلك على الرغم من الخطر الذي ظلت تشكله مأرب عسكرياً، طوال سنوات الحرب، على سلطة الحوثيين فيها – في صنعاء.

بعد السيطرة على مديرية نهم، شرق صنعاء، ومن ثم السيطرة على محافظة الجوف ومديريات أخرى في البيضاء، وجد الحوثيين أنفسهم مرة أخرى بالقرب من محيط مدينة مأرب. وحتى لو لم يتمكنوا من اقتحام مدينة مأرب، فقد بات في رصيدهم نجاح عسكري لم يحلموا به: تأمين صنعاء تماماً من جهة الشرق.

بالطبع، إنّ بقاء معظم شمال اليمن خاضعاً لنفوذ جماعة الحوثي، حتى الآن، يمكن أن يُعزَى إلى أمور كثيرة: منها فشل، أو عجز، التحالف بقيادة السعودية عن توفير الدعم الكافي للقوات الحكومية اليمنية لانتزاع تلك المناطق، وهو العجز الذي يغذي سطوة الحوثيين على نحو متزايد.

كما يمكن الانحياز إلى تفسيرات كثيرة متباينة حول القضية: منها تفسيرات مذهبية (مثلاً: زيدية شافعية)، أو تفسيرات تاريخية (مثلاً: تحالف الرئيس صالح والحوثيين أو خيانة الرئيس هادي وتهاونه مع الحوثيين قبل فراره إلى عدن عام 2015 ومنها إلى الرياض)، أو تفسيرات سوسيولوجية جزافية (مثلاً: التفاف طوعي من قبائل الهضبة الشمالية، بنزعتهم القتالية، حول المشروع الحوثي للحفاظ على هيمنتهم).

صحيح، لا يمكن رفض مختلف هذه التفسيرات كلها بدون نقاش، فكل واحد منها تقريباً يأخذ من الحقيقة بطرف. بيد أن للقضية المطروحة بُعداً إضافياً، غير مرئي في الغالب، ولا يؤخذ عادةً في الاعتبار: يتمثل هذا البعد في أن أغلبية مناطق الحوثيين في شمال اليمن ليست سوى ما يمكن أن يحصل عليه -ويحتفظ به- من يضع يده -عسكرياً وسياسياً- على صنعاء، بكل الرصيد الذي تراكم لهذه المدينة العريقة طوال عقود وأضفى عليها بالنسبة للدولة اليمنية الحديثة رمزية تاريخية وروحية ملحوظة، ومكانة جيوسياسية ووطنية لا ينكرها أحد بصرف النظر عن أي شيء آخر.

وهذا يعني أن الاحتفاظ بالسيطرة على المساحة الأكبر في شمال اليمن لا يعكس جدارة الحوثيين العسكرية إلا على نحو جزئي. في نهاية المطاف، يعرف الجميع أن توسع الحوثيين في هذه المساحات لم يكن بالحرب وحدها شبراً بشبر. وباستثناء عدد قليل من المدن والمناطق التي أخذوها بالقوة رأساً، فإن بقية المناطق آلت إليهم كنتيجة لمعارك تم حسمها في مناطق أخرى، أو كنتيجة لمناخ الانهيار الذي هيمن على المشهد عام 2014.

ما نريد قوله هو أن بقاء هذا النطاق الجغرافي الممتد تحت سلطة الحوثي اليوم، بقاءه متماسكاً، يعود جزئياً إلى كونه يقع بشكل مباشر تحت تأثير ما يمكن أن نسميه “إشعاع مركزي” صادر عن صنعاء كعاصمة سياسية وإدارية لليمن الذي تكوَّن من اتحاد دولتي الشمال والجنوب عام 1990. والإشعاع هنا هو أشبه بطاقة جذب معنوي ومادي نابعة من الشخصية التاريخية والحضارية التي اكتسبها المكان بمرور السنين. ناهيك عن أن هياكل وأجهزة الدولة اليمنية المنهارة كانت لا تزال مصمَّمة لأداء غرض توحيدي يربط شؤون المحافظات والمديريات على مستوى الجمهورية بالعاصمة.

وبالتالي؛ فإن كثير من أراضي الحوثيين، بكتلتها السكانية الضخمة وتنوعها المذهبي، لم تكن في جانب كبير منها أكثر من جائزة سهلة، وثمينة، جائزة ما كان بوسع الحوثيين الحصول عليها ثم الاحتفاظ بها عسكرياً كل هذا الوقت لو لم تكن صنعاء بوصفها العاصمة قد وقعت في قبضتهم منذ نهاية 2014، وهذا لا يعني استبعاد بقية العوامل التي ساهمت تدريجياً في نتيجة كهذه.

ومع ذلك، فإن طاقة الجذب المركزي الوطني لمدينة كصنعاء، لم تكن مهيأة لأن تكون مُطْلَقة وبلا حدود من حيث المدى الجغرافي والاجتماعي الذي يمكن لها بلوغه، أي أنها لم تكن قوية بما يكفي لتغطية المجال اليمني كاملاً بتأثير تلقائي وغير مشروط، وذلك بالنظر إلى أن المركزية السياسية لصنعاء في تاريخ اليمن عامةً تفتقر للاستمرارية والكثافة طويلة الأمد، وبالنظر إلى حقيقة أن الجمهورية اليمنية هي دولة حديثة النشأة ومعقدة التكوين، وبالنظر إلى أن القوة التي سيطرت على صنعاء هي جماعة الحوثي.

وقد كان من الأفضل لطاقة الجذب المركزي لصنعاء أن تشمل كل اليمن دفعةً واحدة، وهو ما كان سيسمح بنشوء معادلة صراع وطنية يمكن من خلالها استعادة اليمن من يد الحوثيين دفعة واحدة أيضاً. ربما كان ذلك سيكون ممكناً لو لم تكن القوة التي وضعتْ يدها على صنعاء هي الحوثيين، الذين هم في جوهرهم حركة إحياء سياسي مذهبي، وليسوا أبداً حركة تحرر وطني عابرة للحدود المذهبية والطائفية والجهوية، أو حتى فصيل انقلابي من داخل بُنى الدولة المدنية أو العسكرية. ذلك أن طبيعة الفصيل المسيطر قد ساهمت بالتأكيد في تقليص مفعول الأثر الجيوسياسي والمعنوي للمكان، الذي هو هنا صنعاء.
وفي العادة، يساعد الاستيلاء على العاصمة في صنع حالة من الاسقطاب -إزاء القوة المسيطرة- تتسم بطابع وطني، أي بطابع كلي يُنظَر فيه إلى البلد كفضاء سياسي واجتماعي يتمتع من حيث المبدأ بوحدة المصير، أياً تكن هذه القوة المسيطرة أو مشروعها. ومن الواضح أن الحوثي يجني فوائد هذه الميزة إلى أبعد ما يستطيعه، على الرغم من تكوينه الديني المذهبي كما أشرنا قبل قليل!

من جانب آخر، يستفيد الحوثيين من الربط الذي تقيمه بعض وسائل الإعلام بين صنعاء وبين سلطتهم غير المعترف بها دولياً، فتغدو هذه السلطة هي “سلطة صنعاء”، وقواتها “قوات صنعاء”، وفريقها المفاوض “وفد صنعاء”، بحيث يحتكر الحوثيين من خلال هذا التأطير رمزية صنعاء ومكانتها التاريخية، الأمر الذي يلحق الضرر بالموقع التوحيدي السامي الذي امتلكته صنعاء، في العقود الخمسة الأخيرة، بالنسبة لفكرة الكيان الوطني الواحد، وهو ما قد يتسبب بإعادتها من جديد إلى موقعها داخل تصنيف انقسامي قديم ومخادع، يقوم على المطابقة الذهنية بين الجغرافي (الثابت) والمذهبي (المتغير)!

باختصار، لن يكون وضع الحوثيين العسكري والسياسي مهزوزاً ومستقبلهم مشكوكاً فيه، إلا في حال كانت صنعاء مهدَّدة في مواجهة ضغط عسكري جاد، وهذا ما لم يعد قائماً منذ اللحظة التي أصبحت فيها بندقية الحوثي مصوَّبة نحو جمجمة مأرب من ثلاث جهات!

اترك تعليقاً


//مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية
أخر الأخبار

مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية

محمد عبدالله محمد:

بعد مضي أكثر من 6 سنوات من الحرب في اليمن، لم يعد الحوثي مُهدَّداً بخسارة صنعاء. هذا متغير عسكري ووطني بالغ الأهمية. فعلى العكس، أصبحت الحكومة المعترف بها دولياً، ومعها التحالف بقيادة السعودية، مُهدَّدون فعلياً بخسارة أهم معاقلهم في الشمال: مأرب.

هناك حقيقة يجب أن نتذكرها؛ وهي أن العاصمة صنعاء تعدُّ مصدراً أساسياً من مصادر التفوق الاستراتيجي للحوثيين في مواجهة الأطراف اليمنية الأخرى، وذلك على الرغم من الخطر الذي ظلت تشكله مأرب عسكرياً، طوال سنوات الحرب، على سلطة الحوثيين فيها – في صنعاء.

بعد السيطرة على مديرية نهم، شرق صنعاء، ومن ثم السيطرة على محافظة الجوف ومديريات أخرى في البيضاء، وجد الحوثيين أنفسهم مرة أخرى بالقرب من محيط مدينة مأرب. وحتى لو لم يتمكنوا من اقتحام مدينة مأرب، فقد بات في رصيدهم نجاح عسكري لم يحلموا به: تأمين صنعاء تماماً من جهة الشرق.

بالطبع، إنّ بقاء معظم شمال اليمن خاضعاً لنفوذ جماعة الحوثي، حتى الآن، يمكن أن يُعزَى إلى أمور كثيرة: منها فشل، أو عجز، التحالف بقيادة السعودية عن توفير الدعم الكافي للقوات الحكومية اليمنية لانتزاع تلك المناطق، وهو العجز الذي يغذي سطوة الحوثيين على نحو متزايد.

كما يمكن الانحياز إلى تفسيرات كثيرة متباينة حول القضية: منها تفسيرات مذهبية (مثلاً: زيدية شافعية)، أو تفسيرات تاريخية (مثلاً: تحالف الرئيس صالح والحوثيين أو خيانة الرئيس هادي وتهاونه مع الحوثيين قبل فراره إلى عدن عام 2015 ومنها إلى الرياض)، أو تفسيرات سوسيولوجية جزافية (مثلاً: التفاف طوعي من قبائل الهضبة الشمالية، بنزعتهم القتالية، حول المشروع الحوثي للحفاظ على هيمنتهم).

صحيح، لا يمكن رفض مختلف هذه التفسيرات كلها بدون نقاش، فكل واحد منها تقريباً يأخذ من الحقيقة بطرف. بيد أن للقضية المطروحة بُعداً إضافياً، غير مرئي في الغالب، ولا يؤخذ عادةً في الاعتبار: يتمثل هذا البعد في أن أغلبية مناطق الحوثيين في شمال اليمن ليست سوى ما يمكن أن يحصل عليه -ويحتفظ به- من يضع يده -عسكرياً وسياسياً- على صنعاء، بكل الرصيد الذي تراكم لهذه المدينة العريقة طوال عقود وأضفى عليها بالنسبة للدولة اليمنية الحديثة رمزية تاريخية وروحية ملحوظة، ومكانة جيوسياسية ووطنية لا ينكرها أحد بصرف النظر عن أي شيء آخر.

وهذا يعني أن الاحتفاظ بالسيطرة على المساحة الأكبر في شمال اليمن لا يعكس جدارة الحوثيين العسكرية إلا على نحو جزئي. في نهاية المطاف، يعرف الجميع أن توسع الحوثيين في هذه المساحات لم يكن بالحرب وحدها شبراً بشبر. وباستثناء عدد قليل من المدن والمناطق التي أخذوها بالقوة رأساً، فإن بقية المناطق آلت إليهم كنتيجة لمعارك تم حسمها في مناطق أخرى، أو كنتيجة لمناخ الانهيار الذي هيمن على المشهد عام 2014.

ما نريد قوله هو أن بقاء هذا النطاق الجغرافي الممتد تحت سلطة الحوثي اليوم، بقاءه متماسكاً، يعود جزئياً إلى كونه يقع بشكل مباشر تحت تأثير ما يمكن أن نسميه “إشعاع مركزي” صادر عن صنعاء كعاصمة سياسية وإدارية لليمن الذي تكوَّن من اتحاد دولتي الشمال والجنوب عام 1990. والإشعاع هنا هو أشبه بطاقة جذب معنوي ومادي نابعة من الشخصية التاريخية والحضارية التي اكتسبها المكان بمرور السنين. ناهيك عن أن هياكل وأجهزة الدولة اليمنية المنهارة كانت لا تزال مصمَّمة لأداء غرض توحيدي يربط شؤون المحافظات والمديريات على مستوى الجمهورية بالعاصمة.

وبالتالي؛ فإن كثير من أراضي الحوثيين، بكتلتها السكانية الضخمة وتنوعها المذهبي، لم تكن في جانب كبير منها أكثر من جائزة سهلة، وثمينة، جائزة ما كان بوسع الحوثيين الحصول عليها ثم الاحتفاظ بها عسكرياً كل هذا الوقت لو لم تكن صنعاء بوصفها العاصمة قد وقعت في قبضتهم منذ نهاية 2014، وهذا لا يعني استبعاد بقية العوامل التي ساهمت تدريجياً في نتيجة كهذه.

ومع ذلك، فإن طاقة الجذب المركزي الوطني لمدينة كصنعاء، لم تكن مهيأة لأن تكون مُطْلَقة وبلا حدود من حيث المدى الجغرافي والاجتماعي الذي يمكن لها بلوغه، أي أنها لم تكن قوية بما يكفي لتغطية المجال اليمني كاملاً بتأثير تلقائي وغير مشروط، وذلك بالنظر إلى أن المركزية السياسية لصنعاء في تاريخ اليمن عامةً تفتقر للاستمرارية والكثافة طويلة الأمد، وبالنظر إلى حقيقة أن الجمهورية اليمنية هي دولة حديثة النشأة ومعقدة التكوين، وبالنظر إلى أن القوة التي سيطرت على صنعاء هي جماعة الحوثي.

وقد كان من الأفضل لطاقة الجذب المركزي لصنعاء أن تشمل كل اليمن دفعةً واحدة، وهو ما كان سيسمح بنشوء معادلة صراع وطنية يمكن من خلالها استعادة اليمن من يد الحوثيين دفعة واحدة أيضاً. ربما كان ذلك سيكون ممكناً لو لم تكن القوة التي وضعتْ يدها على صنعاء هي الحوثيين، الذين هم في جوهرهم حركة إحياء سياسي مذهبي، وليسوا أبداً حركة تحرر وطني عابرة للحدود المذهبية والطائفية والجهوية، أو حتى فصيل انقلابي من داخل بُنى الدولة المدنية أو العسكرية. ذلك أن طبيعة الفصيل المسيطر قد ساهمت بالتأكيد في تقليص مفعول الأثر الجيوسياسي والمعنوي للمكان، الذي هو هنا صنعاء.
وفي العادة، يساعد الاستيلاء على العاصمة في صنع حالة من الاسقطاب -إزاء القوة المسيطرة- تتسم بطابع وطني، أي بطابع كلي يُنظَر فيه إلى البلد كفضاء سياسي واجتماعي يتمتع من حيث المبدأ بوحدة المصير، أياً تكن هذه القوة المسيطرة أو مشروعها. ومن الواضح أن الحوثي يجني فوائد هذه الميزة إلى أبعد ما يستطيعه، على الرغم من تكوينه الديني المذهبي كما أشرنا قبل قليل!

من جانب آخر، يستفيد الحوثيين من الربط الذي تقيمه بعض وسائل الإعلام بين صنعاء وبين سلطتهم غير المعترف بها دولياً، فتغدو هذه السلطة هي “سلطة صنعاء”، وقواتها “قوات صنعاء”، وفريقها المفاوض “وفد صنعاء”، بحيث يحتكر الحوثيين من خلال هذا التأطير رمزية صنعاء ومكانتها التاريخية، الأمر الذي يلحق الضرر بالموقع التوحيدي السامي الذي امتلكته صنعاء، في العقود الخمسة الأخيرة، بالنسبة لفكرة الكيان الوطني الواحد، وهو ما قد يتسبب بإعادتها من جديد إلى موقعها داخل تصنيف انقسامي قديم ومخادع، يقوم على المطابقة الذهنية بين الجغرافي (الثابت) والمذهبي (المتغير)!

باختصار، لن يكون وضع الحوثيين العسكري والسياسي مهزوزاً ومستقبلهم مشكوكاً فيه، إلا في حال كانت صنعاء مهدَّدة في مواجهة ضغط عسكري جاد، وهذا ما لم يعد قائماً منذ اللحظة التي أصبحت فيها بندقية الحوثي مصوَّبة نحو جمجمة مأرب من ثلاث جهات!

اترك تعليقاً


//مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية
أخر الأخبار

مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية

محمد عبدالله محمد:

بعد مضي أكثر من 6 سنوات من الحرب في اليمن، لم يعد الحوثي مُهدَّداً بخسارة صنعاء. هذا متغير عسكري ووطني بالغ الأهمية. فعلى العكس، أصبحت الحكومة المعترف بها دولياً، ومعها التحالف بقيادة السعودية، مُهدَّدون فعلياً بخسارة أهم معاقلهم في الشمال: مأرب.

هناك حقيقة يجب أن نتذكرها؛ وهي أن العاصمة صنعاء تعدُّ مصدراً أساسياً من مصادر التفوق الاستراتيجي للحوثيين في مواجهة الأطراف اليمنية الأخرى، وذلك على الرغم من الخطر الذي ظلت تشكله مأرب عسكرياً، طوال سنوات الحرب، على سلطة الحوثيين فيها – في صنعاء.

بعد السيطرة على مديرية نهم، شرق صنعاء، ومن ثم السيطرة على محافظة الجوف ومديريات أخرى في البيضاء، وجد الحوثيين أنفسهم مرة أخرى بالقرب من محيط مدينة مأرب. وحتى لو لم يتمكنوا من اقتحام مدينة مأرب، فقد بات في رصيدهم نجاح عسكري لم يحلموا به: تأمين صنعاء تماماً من جهة الشرق.

بالطبع، إنّ بقاء معظم شمال اليمن خاضعاً لنفوذ جماعة الحوثي، حتى الآن، يمكن أن يُعزَى إلى أمور كثيرة: منها فشل، أو عجز، التحالف بقيادة السعودية عن توفير الدعم الكافي للقوات الحكومية اليمنية لانتزاع تلك المناطق، وهو العجز الذي يغذي سطوة الحوثيين على نحو متزايد.

كما يمكن الانحياز إلى تفسيرات كثيرة متباينة حول القضية: منها تفسيرات مذهبية (مثلاً: زيدية شافعية)، أو تفسيرات تاريخية (مثلاً: تحالف الرئيس صالح والحوثيين أو خيانة الرئيس هادي وتهاونه مع الحوثيين قبل فراره إلى عدن عام 2015 ومنها إلى الرياض)، أو تفسيرات سوسيولوجية جزافية (مثلاً: التفاف طوعي من قبائل الهضبة الشمالية، بنزعتهم القتالية، حول المشروع الحوثي للحفاظ على هيمنتهم).

صحيح، لا يمكن رفض مختلف هذه التفسيرات كلها بدون نقاش، فكل واحد منها تقريباً يأخذ من الحقيقة بطرف. بيد أن للقضية المطروحة بُعداً إضافياً، غير مرئي في الغالب، ولا يؤخذ عادةً في الاعتبار: يتمثل هذا البعد في أن أغلبية مناطق الحوثيين في شمال اليمن ليست سوى ما يمكن أن يحصل عليه -ويحتفظ به- من يضع يده -عسكرياً وسياسياً- على صنعاء، بكل الرصيد الذي تراكم لهذه المدينة العريقة طوال عقود وأضفى عليها بالنسبة للدولة اليمنية الحديثة رمزية تاريخية وروحية ملحوظة، ومكانة جيوسياسية ووطنية لا ينكرها أحد بصرف النظر عن أي شيء آخر.

وهذا يعني أن الاحتفاظ بالسيطرة على المساحة الأكبر في شمال اليمن لا يعكس جدارة الحوثيين العسكرية إلا على نحو جزئي. في نهاية المطاف، يعرف الجميع أن توسع الحوثيين في هذه المساحات لم يكن بالحرب وحدها شبراً بشبر. وباستثناء عدد قليل من المدن والمناطق التي أخذوها بالقوة رأساً، فإن بقية المناطق آلت إليهم كنتيجة لمعارك تم حسمها في مناطق أخرى، أو كنتيجة لمناخ الانهيار الذي هيمن على المشهد عام 2014.

ما نريد قوله هو أن بقاء هذا النطاق الجغرافي الممتد تحت سلطة الحوثي اليوم، بقاءه متماسكاً، يعود جزئياً إلى كونه يقع بشكل مباشر تحت تأثير ما يمكن أن نسميه “إشعاع مركزي” صادر عن صنعاء كعاصمة سياسية وإدارية لليمن الذي تكوَّن من اتحاد دولتي الشمال والجنوب عام 1990. والإشعاع هنا هو أشبه بطاقة جذب معنوي ومادي نابعة من الشخصية التاريخية والحضارية التي اكتسبها المكان بمرور السنين. ناهيك عن أن هياكل وأجهزة الدولة اليمنية المنهارة كانت لا تزال مصمَّمة لأداء غرض توحيدي يربط شؤون المحافظات والمديريات على مستوى الجمهورية بالعاصمة.

وبالتالي؛ فإن كثير من أراضي الحوثيين، بكتلتها السكانية الضخمة وتنوعها المذهبي، لم تكن في جانب كبير منها أكثر من جائزة سهلة، وثمينة، جائزة ما كان بوسع الحوثيين الحصول عليها ثم الاحتفاظ بها عسكرياً كل هذا الوقت لو لم تكن صنعاء بوصفها العاصمة قد وقعت في قبضتهم منذ نهاية 2014، وهذا لا يعني استبعاد بقية العوامل التي ساهمت تدريجياً في نتيجة كهذه.

ومع ذلك، فإن طاقة الجذب المركزي الوطني لمدينة كصنعاء، لم تكن مهيأة لأن تكون مُطْلَقة وبلا حدود من حيث المدى الجغرافي والاجتماعي الذي يمكن لها بلوغه، أي أنها لم تكن قوية بما يكفي لتغطية المجال اليمني كاملاً بتأثير تلقائي وغير مشروط، وذلك بالنظر إلى أن المركزية السياسية لصنعاء في تاريخ اليمن عامةً تفتقر للاستمرارية والكثافة طويلة الأمد، وبالنظر إلى حقيقة أن الجمهورية اليمنية هي دولة حديثة النشأة ومعقدة التكوين، وبالنظر إلى أن القوة التي سيطرت على صنعاء هي جماعة الحوثي.

وقد كان من الأفضل لطاقة الجذب المركزي لصنعاء أن تشمل كل اليمن دفعةً واحدة، وهو ما كان سيسمح بنشوء معادلة صراع وطنية يمكن من خلالها استعادة اليمن من يد الحوثيين دفعة واحدة أيضاً. ربما كان ذلك سيكون ممكناً لو لم تكن القوة التي وضعتْ يدها على صنعاء هي الحوثيين، الذين هم في جوهرهم حركة إحياء سياسي مذهبي، وليسوا أبداً حركة تحرر وطني عابرة للحدود المذهبية والطائفية والجهوية، أو حتى فصيل انقلابي من داخل بُنى الدولة المدنية أو العسكرية. ذلك أن طبيعة الفصيل المسيطر قد ساهمت بالتأكيد في تقليص مفعول الأثر الجيوسياسي والمعنوي للمكان، الذي هو هنا صنعاء.
وفي العادة، يساعد الاستيلاء على العاصمة في صنع حالة من الاسقطاب -إزاء القوة المسيطرة- تتسم بطابع وطني، أي بطابع كلي يُنظَر فيه إلى البلد كفضاء سياسي واجتماعي يتمتع من حيث المبدأ بوحدة المصير، أياً تكن هذه القوة المسيطرة أو مشروعها. ومن الواضح أن الحوثي يجني فوائد هذه الميزة إلى أبعد ما يستطيعه، على الرغم من تكوينه الديني المذهبي كما أشرنا قبل قليل!

من جانب آخر، يستفيد الحوثيين من الربط الذي تقيمه بعض وسائل الإعلام بين صنعاء وبين سلطتهم غير المعترف بها دولياً، فتغدو هذه السلطة هي “سلطة صنعاء”، وقواتها “قوات صنعاء”، وفريقها المفاوض “وفد صنعاء”، بحيث يحتكر الحوثيين من خلال هذا التأطير رمزية صنعاء ومكانتها التاريخية، الأمر الذي يلحق الضرر بالموقع التوحيدي السامي الذي امتلكته صنعاء، في العقود الخمسة الأخيرة، بالنسبة لفكرة الكيان الوطني الواحد، وهو ما قد يتسبب بإعادتها من جديد إلى موقعها داخل تصنيف انقسامي قديم ومخادع، يقوم على المطابقة الذهنية بين الجغرافي (الثابت) والمذهبي (المتغير)!

باختصار، لن يكون وضع الحوثيين العسكري والسياسي مهزوزاً ومستقبلهم مشكوكاً فيه، إلا في حال كانت صنعاء مهدَّدة في مواجهة ضغط عسكري جاد، وهذا ما لم يعد قائماً منذ اللحظة التي أصبحت فيها بندقية الحوثي مصوَّبة نحو جمجمة مأرب من ثلاث جهات!

اترك تعليقاً




أخر الأخبار

مكانة ورمزية “صنعاء” التاريخية في خدمة سلطة دينية مذهبية

17 أغسطس، 2021
6٬886 4 دقائق

أخر الأخبار
17 أغسطس، 2021
6٬886 4 دقائق

6٬886 4 دقائق


محمد عبدالله محمد:

بعد مضي أكثر من 6 سنوات من الحرب في اليمن، لم يعد الحوثي مُهدَّداً بخسارة صنعاء. هذا متغير عسكري ووطني بالغ الأهمية. فعلى العكس، أصبحت الحكومة المعترف بها دولياً، ومعها التحالف بقيادة السعودية، مُهدَّدون فعلياً بخسارة أهم معاقلهم في الشمال: مأرب.

هناك حقيقة يجب أن نتذكرها؛ وهي أن العاصمة صنعاء تعدُّ مصدراً أساسياً من مصادر التفوق الاستراتيجي للحوثيين في مواجهة الأطراف اليمنية الأخرى، وذلك على الرغم من الخطر الذي ظلت تشكله مأرب عسكرياً، طوال سنوات الحرب، على سلطة الحوثيين فيها – في صنعاء.

بعد السيطرة على مديرية نهم، شرق صنعاء، ومن ثم السيطرة على محافظة الجوف ومديريات أخرى في البيضاء، وجد الحوثيين أنفسهم مرة أخرى بالقرب من محيط مدينة مأرب. وحتى لو لم يتمكنوا من اقتحام مدينة مأرب، فقد بات في رصيدهم نجاح عسكري لم يحلموا به: تأمين صنعاء تماماً من جهة الشرق.

بالطبع، إنّ بقاء معظم شمال اليمن خاضعاً لنفوذ جماعة الحوثي، حتى الآن، يمكن أن يُعزَى إلى أمور كثيرة: منها فشل، أو عجز، التحالف بقيادة السعودية عن توفير الدعم الكافي للقوات الحكومية اليمنية لانتزاع تلك المناطق، وهو العجز الذي يغذي سطوة الحوثيين على نحو متزايد.

كما يمكن الانحياز إلى تفسيرات كثيرة متباينة حول القضية: منها تفسيرات مذهبية (مثلاً: زيدية شافعية)، أو تفسيرات تاريخية (مثلاً: تحالف الرئيس صالح والحوثيين أو خيانة الرئيس هادي وتهاونه مع الحوثيين قبل فراره إلى عدن عام 2015 ومنها إلى الرياض)، أو تفسيرات سوسيولوجية جزافية (مثلاً: التفاف طوعي من قبائل الهضبة الشمالية، بنزعتهم القتالية، حول المشروع الحوثي للحفاظ على هيمنتهم).

صحيح، لا يمكن رفض مختلف هذه التفسيرات كلها بدون نقاش، فكل واحد منها تقريباً يأخذ من الحقيقة بطرف. بيد أن للقضية المطروحة بُعداً إضافياً، غير مرئي في الغالب، ولا يؤخذ عادةً في الاعتبار: يتمثل هذا البعد في أن أغلبية مناطق الحوثيين في شمال اليمن ليست سوى ما يمكن أن يحصل عليه -ويحتفظ به- من يضع يده -عسكرياً وسياسياً- على صنعاء، بكل الرصيد الذي تراكم لهذه المدينة العريقة طوال عقود وأضفى عليها بالنسبة للدولة اليمنية الحديثة رمزية تاريخية وروحية ملحوظة، ومكانة جيوسياسية ووطنية لا ينكرها أحد بصرف النظر عن أي شيء آخر.

وهذا يعني أن الاحتفاظ بالسيطرة على المساحة الأكبر في شمال اليمن لا يعكس جدارة الحوثيين العسكرية إلا على نحو جزئي. في نهاية المطاف، يعرف الجميع أن توسع الحوثيين في هذه المساحات لم يكن بالحرب وحدها شبراً بشبر. وباستثناء عدد قليل من المدن والمناطق التي أخذوها بالقوة رأساً، فإن بقية المناطق آلت إليهم كنتيجة لمعارك تم حسمها في مناطق أخرى، أو كنتيجة لمناخ الانهيار الذي هيمن على المشهد عام 2014.

ما نريد قوله هو أن بقاء هذا النطاق الجغرافي الممتد تحت سلطة الحوثي اليوم، بقاءه متماسكاً، يعود جزئياً إلى كونه يقع بشكل مباشر تحت تأثير ما يمكن أن نسميه “إشعاع مركزي” صادر عن صنعاء كعاصمة سياسية وإدارية لليمن الذي تكوَّن من اتحاد دولتي الشمال والجنوب عام 1990. والإشعاع هنا هو أشبه بطاقة جذب معنوي ومادي نابعة من الشخصية التاريخية والحضارية التي اكتسبها المكان بمرور السنين. ناهيك عن أن هياكل وأجهزة الدولة اليمنية المنهارة كانت لا تزال مصمَّمة لأداء غرض توحيدي يربط شؤون المحافظات والمديريات على مستوى الجمهورية بالعاصمة.

وبالتالي؛ فإن كثير من أراضي الحوثيين، بكتلتها السكانية الضخمة وتنوعها المذهبي، لم تكن في جانب كبير منها أكثر من جائزة سهلة، وثمينة، جائزة ما كان بوسع الحوثيين الحصول عليها ثم الاحتفاظ بها عسكرياً كل هذا الوقت لو لم تكن صنعاء بوصفها العاصمة قد وقعت في قبضتهم منذ نهاية 2014، وهذا لا يعني استبعاد بقية العوامل التي ساهمت تدريجياً في نتيجة كهذه.

ومع ذلك، فإن طاقة الجذب المركزي الوطني لمدينة كصنعاء، لم تكن مهيأة لأن تكون مُطْلَقة وبلا حدود من حيث المدى الجغرافي والاجتماعي الذي يمكن لها بلوغه، أي أنها لم تكن قوية بما يكفي لتغطية المجال اليمني كاملاً بتأثير تلقائي وغير مشروط، وذلك بالنظر إلى أن المركزية السياسية لصنعاء في تاريخ اليمن عامةً تفتقر للاستمرارية والكثافة طويلة الأمد، وبالنظر إلى حقيقة أن الجمهورية اليمنية هي دولة حديثة النشأة ومعقدة التكوين، وبالنظر إلى أن القوة التي سيطرت على صنعاء هي جماعة الحوثي.

وقد كان من الأفضل لطاقة الجذب المركزي لصنعاء أن تشمل كل اليمن دفعةً واحدة، وهو ما كان سيسمح بنشوء معادلة صراع وطنية يمكن من خلالها استعادة اليمن من يد الحوثيين دفعة واحدة أيضاً. ربما كان ذلك سيكون ممكناً لو لم تكن القوة التي وضعتْ يدها على صنعاء هي الحوثيين، الذين هم في جوهرهم حركة إحياء سياسي مذهبي، وليسوا أبداً حركة تحرر وطني عابرة للحدود المذهبية والطائفية والجهوية، أو حتى فصيل انقلابي من داخل بُنى الدولة المدنية أو العسكرية. ذلك أن طبيعة الفصيل المسيطر قد ساهمت بالتأكيد في تقليص مفعول الأثر الجيوسياسي والمعنوي للمكان، الذي هو هنا صنعاء.
وفي العادة، يساعد الاستيلاء على العاصمة في صنع حالة من الاسقطاب -إزاء القوة المسيطرة- تتسم بطابع وطني، أي بطابع كلي يُنظَر فيه إلى البلد كفضاء سياسي واجتماعي يتمتع من حيث المبدأ بوحدة المصير، أياً تكن هذه القوة المسيطرة أو مشروعها. ومن الواضح أن الحوثي يجني فوائد هذه الميزة إلى أبعد ما يستطيعه، على الرغم من تكوينه الديني المذهبي كما أشرنا قبل قليل!

من جانب آخر، يستفيد الحوثيين من الربط الذي تقيمه بعض وسائل الإعلام بين صنعاء وبين سلطتهم غير المعترف بها دولياً، فتغدو هذه السلطة هي “سلطة صنعاء”، وقواتها “قوات صنعاء”، وفريقها المفاوض “وفد صنعاء”، بحيث يحتكر الحوثيين من خلال هذا التأطير رمزية صنعاء ومكانتها التاريخية، الأمر الذي يلحق الضرر بالموقع التوحيدي السامي الذي امتلكته صنعاء، في العقود الخمسة الأخيرة، بالنسبة لفكرة الكيان الوطني الواحد، وهو ما قد يتسبب بإعادتها من جديد إلى موقعها داخل تصنيف انقسامي قديم ومخادع، يقوم على المطابقة الذهنية بين الجغرافي (الثابت) والمذهبي (المتغير)!

باختصار، لن يكون وضع الحوثيين العسكري والسياسي مهزوزاً ومستقبلهم مشكوكاً فيه، إلا في حال كانت صنعاء مهدَّدة في مواجهة ضغط عسكري جاد، وهذا ما لم يعد قائماً منذ اللحظة التي أصبحت فيها بندقية الحوثي مصوَّبة نحو جمجمة مأرب من ثلاث جهات!

الوسوم


الوسوم

الوسوم

17 أغسطس، 2021
6٬886 4 دقائق

17 أغسطس، 2021
6٬886 4 دقائق

6٬886 4 دقائق





شاركها

شاركها

اترك تعليقاً









اترك تعليقاً


اترك تعليقاً


اترك تعليقاً






© Copyright 2024, All Rights Reserved