الحجمري: هكذا تتحول الترجمة إلى مجال للإنتاج الثقافي والتبادلات العابرة للحدود

1 – تطرح الترجمة في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية بوجه عام، وفي حقل التاريخ بوجه خاص، عدة أسئلة تتمحور حول طبيعة العلاقة بين الترجمة باعتبارها تخصصًا قائما بذاته وبين التاريخ باعتباره علما من العلوم الاجتماعية يقاربُ مواضيعه وقضاياهُ من منطلق التّعدد من اللغويات إلى الآداب، ومن الفلسفة إلى تاريخ الفكر، ومن الاقتصاد إلى القانون.

كان هذا جوهر المحاضرة التي ألقاها المؤرخ والمترجم الأستاذ خالد بن الصغير، أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في إطار سلسلة المحاضرات التي تنظمها الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة التابعة لأكاديمية المملكة المغربية، وقد أثار لديّ تتبعي لهذه المحاضرة جملة من الأسئلة مكنتني من اعتبار بحث علاقة الترجمة بالتاريخ أساسيا من أجل فهم حدودهما وصلاتهما، وكذا من أجل بيان رهانات ترجمة التاريخ حفاظا على الهوية والتواصل الحضاري، والتفكّر في التحديات الأخلاقية لترجمة التاريخ ضمانا للحياد والموضوعية في نقل الأحداث والوقائع، الأمر الذي يسمح لنا بالانتباه لطبيعة التأثيرات الثقافية أثناء ترجمة التاريخ، ولمجمل التحديات القانونية لترجمة الوثائق التاريخية لأهميتها في الفهم والتّمثل، خاصة حين يكون التاريخ مكتوبا بلغة لا نفهمها.

2 – إلى أي مدى تتمتع ترجمات الوثائق التاريخية بقيمة تاريخية في حد ذاتها؟ هل ترجمة التاريخ ممكنة؟ هل للترجمة دور في توثيق الأحداث التاريخية وتدقيقها؟ ما هو تأثير التقنيات الحديثة على الترجمة التاريخية؟ كيف تحافظ الترجمة على الحقيقة التاريخية؟ هل هناك منهجية علمية لترجمة النص التاريخي؟ هل للترجمة تأثير على كتابة التاريخ من منظورٍ عالمي؟ أي دور للترجمة في إعادة تقييم الأحداث التاريخية من منظورٍ ثقافيٍّ مختلف؟ ما العمل لتشجيع البحث العلمي في مجال الترجمة وعلم التاريخ؟.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} تحدّد – في تقديري – هذه الأسئلة وسواها بعض الصعوبات النظرية والمنهجية التي يمكن أن يواجهها المؤرخ والباحث في ترجمة النصوص التاريخية تحديدا، والأمر مماثل أيضا بالنسبة لغيرها من النصوص الأدبية والفلسفية مثلا، ويمكنني إجمالا حصر أهمها في ما يلي: أولا: عتاقة اللغة.

قد تحتوي النصوص التاريخية على لغة قديمة أو تعبيرات غير مألوفة لدى المترجم، ومن شأن ذلك أن يُعيق فهم المعنى الصحيح للنص وترجمته بشكل دقيق.

ثانيا: الخلل النصي.

قد يوجد خلل في النص التاريخي نتيجة تلف يمسّ المخطوطات والوثائق القديمة، وهذا أمر يجعل من الصعب على المترجم ترجمة النص بشكل دقيق.

من هذا المنظور تدعو علاقة الترجمة بالتاريخ الباحثَ إلى التفكير في حدود تأثير الترجمة على توثيق الأحداث التاريخية، وبيان كيفية تشكّل النصوص المترجمة وفهمها للفترات التاريخية؛ ما يستدعي الاهتمام بعدة مستويات لعلّ أبرزها: أولا: ضرورة توثيق الأحداث والنصوص: ففي عالم مليء بالثقافات المتنوعة واللغات المختلفة يمكن للترجمة أن تلعب دورًا مهمًا في توثيق الأحداث والنصوص المرجعية، مثل الوثائق الرسمية، والعقود والمعاهدات.

ثانيا: تشكُّل الفهم التاريخي: ذلك أن الترجمة تؤثر في فهم النصوص التاريخية، وقد تؤدي اختيارات المترجم إلى فهم مختلف للنص الأصلي.

ثالثا: الترجمة باعتبارها أداة للسلطة: تعتبر الترجمة وسيلة من وسائل فرض سلطة رمزية، فقد كانت ترجمة النصوص الدينية في العصور الوسطى تستخدم لتعزيز سلطة الكنيسة، مثلما استخدمت في العصور الحديثة لتعزيز الهيمنة الثقافية والسياسية للدول والإمبراطوريات، كما هو الأمر – مثلا- بالنسبة للإمبراطورية الرومانية، حيث تم توظيف الترجمة لنشر القوانين والمراسيم الإمبراطورية بين الشعوب المختلفة التي كانت تحت سيطرتها.

رابعا: الترجمة وتشكيل الهوية الوطنية: تعتبر ترجمة الأعمال الأدبية والتاريخية أداة لتشكيل الوعي بالهوية الوطنية والتعريف بثقافتها وتأكيد مكانتها عالميا.

3 – يتضح مما سبق أن الترجمة التاريخية ممكنة حين يتعلق الأمر بترجمة النصوص والوثائق التاريخية، ولكن ترجمة الحقائق التاريخية بشكل مباشر ودون تحليل أو تفسير دقيق قد تكون مستحيلة.

وهذا – في تقديري – ما يجعل من ترجمة التاريخ تحدّيا فكريا بسبب طبيعة المعرفة التاريخية وفهمنا لها.

بالإمكان ترجمة هذه المعرفة حرفيا، أي ترجمة الأحداث والتواريخ بدقة، بيدَ أن التاريخ ليس مجرد سلسلة من الأحداث والتواريخ، بل هو تفسير وتأويل لتلك الأحداث بناءً على البيانات المتوفرة، والسياق الثقافي، والاجتماعي، والسياسي.

ليست الترجمة نقلا للكلمات من لغة إلى أخرى، بل إنها أيضًا نقل للمعاني والمفاهيم والسياقات.

من هذا المنظور، يبدو من اللازم على المؤرخ-المترجم وأثناء ترجمته لنص تاريخي أن يراعي ما يلي: الفهم العميق للثقافة: أي أن يكون المترجم على دراية بالثقافة والسياق التاريخي للنص الأصلي واللغة الهدف.

البحث والتحقق: من المعلومات التاريخية والمصادر المستخدمة في النص الأصلي ضمانا لدقة النقل وتجنبا للتشويه أو التحريف.

الاعتماد على التحليل التاريخي: أي أن يكون المترجم قادرًا على التحليل التاريخي للنص الأصلي ونقل هذا التحليل بدقة إلى اللغة الهدف.

ما من شكّ في أن الاعتبارات السالفة وغيرها كفيلة بالحفاظ على الحقيقة التاريخية في الترجمة بما أنها ليست نقلا تقنيا للكلمات من لغة إلى أخرى، بل أيضا فهما للسياق الثقافي والاجتماعي والسياسي.

لباسكال كازانوفا دراسة قيّمة حول “الجمهورية العالمية للآداب” La république mondiale des lettres وهي في الأصل أطروحة جامعية هيأتها تحت إشراف السوسيولوجي بيير بورديو، وأدارتها حول العديد من القضايا ذات الصلة بـ اللغة العالمية، والترجمة والسلطة انطلاقا من سؤال محوري: هل بإمكان الترجمة أن تكون سبيلا لإنتاج أو إعادة لإنتاج ميزان للقوى بين اللغات والمجتمعات؟.

وبحسب هذا الفهم: ما هي طبيعة العلاقة بين اللغة العالمية والترجمة والسلطة؟.

ما معنى اللغة العالمية في هذا السياق؟.

4 – تؤكد الأبحاث اللسانية والاجتماعية أن اللغة العالمية – في أبسط فَهْم لها – هي اللغة المنتشرة جغرافيا، التي يتكلم ويتفاهم بها أكبر عدد من التجمعات وفي مناطق مختلفة من العالم، علما أن عدد الأشخاص الذين يتكلمون اللغة لا يعتبر لوحده معيارا لاعتبار لغة ما لغة عالمية؛ فاللغة الصينية مثلاً يتكلمها حواليْ 1.

39 مليار نسمة أي حواليْ 16% من سكان العالم، فهل هي لغة عالمية؟.

بمنطق الإحصاء تأتي اللغة الإنجليزية في المركز الثالث ويتكلمها حواليْ 527 مليون نسمة، وتأتي في المركز الرابع اللغة العربية بـ 467 مليون متكلّم، أي بزيادة مائة مليون عن اللغة الإسبانية صاحبة المركز الخامس برصيد 389 مليون متكلّم.

كما أن اللغة التي تتحدثها أكبر عدد من الدول هي اللغة الإنجليزية، وتأتي في المرتبة الأولى بحواليْ 101 دولة، تليها اللغة العربية بحواليْ 60 دولة، من بينها 22 دولة منتمية إلى جامعة الدول العربية، فيما تتوزع بقية الدول على قارتيْ آسيا وإفريقيا.

أستخلص مما سلف هذا السؤال: هل مفهوم اللغة العالمية يوازي مفهوم اللغة الدولية؟.

لنتفق على اعتبار اللغة العالمية هي اللغة المنتشرة من حيث موقعها الجغرافي (عدد البلدان والمنظمات الدولية التي تعترف بها باعتبارها لغة رسمية)، والتي يمكن أن يتكلم ويتفاهم بها عدد كبير من المتحدثين من مناطق مختلفة في العالم؛ وأن اللغة الدولية هي اللغة المعتمدة في التواصل بين أشخاص من جنسيات مختلفة ولا يشتركون في اللغة- الأم نفسها.

أعتبر الإشارات السابقة مهمة لتوضيح ملمح من ملامح الجمع بين مفاهيم اللغة العالمية والترجمة والسلطة في أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.

تبعا لهذا المنطق تفرض الدول المهيمنة استخدام لغتها الخاصة في مجالات التجارة الدولية والعلاقات الدبلوماسية، مثلما بإمكانها تعزيز الهيمنة الثقافية من خلال ترجمة ثقافتها ونشرها في جميع أنحاء العالم، ما قد يؤدي إلى تهميش الثقافات الأخرى.

بهذا المعنى يمكن النظر إلى الترجمة باعتبارها مجالا للإنتاج الثقافي والتبادلات العابرة للحدود الوطنية، التي لا تتم مناقشتها اليوم إلا في إطار مفهوم العولمة، وهذا ما انتبه إليه كل من Johan Heilbron وGisèle Sapiro في تمهيدهما للعدد الرابع من أعمال البحث في العلوم الاجتماعية لسنة 2002، وخُصص لبحث بعض قضايا الترجمة الأدبية باعتبارها موضوعا سوسيولوجيا La traduction littéraire, un objet sociologique .

معنى ذلك أن الترجمة تفترض – أولًا وقبل كل شيء – مجالًا لعلاقات دولية تجمع بين دول ومجموعات لغوية تربط بينها علاقات تنافس.

ولفهم فعل الترجمة نحتاج إلى تحليلها باعتبارها جزءا من علاقات القوة بين الدول ولغاتها، بما هي فضاء اجتماعي يحكمه – بشكل أو بآخر- منطق ثلاثي الأبعاد: العلاقات السياسية بين البلدان، والسوق الدولي للكتاب، والتبادلات الثقافية.

لنتأمّل … وإلى حديث آخر.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 2 أيام | 4 قراءة)
.