"عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة

يمكنكم مشاهدة الفيلم الكامل عبر هذا الرابط.

تحتوي هذه الصفحة على محتوى من موقع Google YouTube.

موافقتكم مطلوبة قبل عرض أي مواد لأنها قد تتضمن ملفات ارتباط (كوكيز) وغيرها من الأدوات التقنية.

قد تفضلون الاطلاع على الخاصة بموقع Google YouTube قبل الموافقة.

لعرض المحتوى، اختر "موافقة وإكمال" نهاية YouTube مشاركة المحتوى غير متاح طوال ما يزيد على أربعة أشهر، كان مراسل بي بي سي في غزة عدنان البرش يوثق يوميات الحرب منذ أيامها الأولى بينما يعيش نزوحاً متكرراً مع أعضاء الفريق.

كان يتناول وجبة واحدة في اليوم، ينتظر في طابور طويل لدخول الحمام، ويواجه قرارات مستحيلة للحفاظ على سلامة زوجته وأطفاله الخمسة، وهم جميعهم تحت النار.

اليوم يشاركنا عدنان تفاصيل اللحظات المروعة التي عاشها.

عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم.

قصص مقترحة نهاية كنت قد غادرت للتو سوق جباليا شمالي قطاع غزة أقود سيارتي باتجاه منزل أخي، بينما أستمع للإذاعة المحلية.

أكياس المعلبات، والبن، والمواد الغذائية مركونة الى جانبي في مقعد السيارة الأمامي، اشتريتها تحسباً لأيام الحرب التي كانت لا تزال في بدايتها.

شرح معمق لقصة بارزة من أخباراليوم، لمساعدتك على فهم أهم الأحداث حولك وأثرها على حياتك الحلقات يستحق الانتباه نهاية سمعتُ قصفا عنيفاً لم أفهم مصدره، إلى أن جاء صوت المذيع يعلن خبراً عاجلاً: تم قصف سوق مخيم جباليا.

لحظات فقط وكأن السوق برمته لم يوجد يوماً.

الأكياس لا تزال إلى جانبي، بأسماء المحلات التي أمنت منها احتياجات أسرتي، لكن المحلات، ووجوه الباعة وابتساماتهم وأصواتهم اختفت اليوم، وإلى الأبد.

لم يكن قد مضى سوى يومين على بداية القصف الإسرائيلي الذي جاء رداً على الهجوم المباغت الذي شنته حركة حماس على إسرائيل وأسفر عن مقتل 1200 إسرائيلي وأخذ أكثر من 250 آخرين كرهائن.

تسارعت الأحداث بعدها بشكل مفاجئ.

كنا لا نزال في الأسبوع الأول للحرب، وبينما كنتُ في مقر عملي في مدينة غزة بدأت السماء تمطر قصاصات أوراق بيضاء تحمل إنذارات إخلاء شمال غزة رمتها الطائرات الإسرائيلية فوقنا.

التقطت واحدة من على سطح مكتبنا، بدت وكأنها تقول: "إن لم تتجهوا جنوباً ستقتلون جميعاً".

بحسب الجيش الاسرائيلي، إخلاء السكان في غزة "ضمانٌ لسلامتهم،" وقال متحدث باسم الجيش في تصريح لبي بي سي إن الجيش "حث المدنيين على الإخلاء من مناطق القتال إلى مناطق أكثر أمانًا لتقليل المخاطر الناجمة عن الأعمال العدائية المكثفة".

وهكذا فإن القرار الذي طالما كنت أخشاه لم يعد خياراً، سنرحل جميعاً.

كاميرات العمل ومعداتنا على الرفوف في مكتبنا، وممتلكاتنا الشخصية وأغراض الأولاد في البيت.

كنت أتأملها كلها وأفكر كيف يمكن حزم حياة كاملة في بضعة حقائب وصناديق، وبسرعة فائقة؟ أسئلة كثيرة في عيون زوجتي وأطفالي لم أملك إجابات عليها، الى أين نذهب؟ كيف سيعيشون هناك؟ هل حقا لن يقصف الجيش الإسرائيلي الجنوب؟ أو الطريق الواصل الى الجنوب؟ والأصعب من كل هذا.

.

كيف سأحمي عائلتي؟ هذا السؤال عصف برأسي كل يوم للأشهر الثلاثة التي تلت.

نزحنا.

حالنا حال عشرات الآلاف من السكان، نعبر جميعا طريقاً واحداً.

كان الناس يحملون معهم كل ما تمكنوا من أخذه، بعضهم يمشي، وبعضهم في سيارات وآخرون يمتطون الدواب.

كان المشهد مروعاً، أعاد لذاكرتي مسلسل "التغريبة الفلسطينية" ومشاهد الهجرة الضخمة للفلسطينيين عام 1948، أو ما يعرف بعام "النكبة".

كنتُ أقود سيارة المكتب التي حُشر فيها أكثر من عشرة أشخاص من عائلتي وعائلة شقيقي، وهي بالكاد تتسع لخمسة.

الطريق كان طويلاً وقاسياً، ملامح وجوهنا كانت مبهمة وحزينة، وقلوبنا ترتجف.

فالغارات الجوية لم تتوقف، بعضها قريب وأخرى أبعد.

كانت جباليا الجميلة تبتعد خلفنا ونحن نشق طريقنا بين آلاف النازحين، باتجاه المجهول.

تركنا مدينة غزة.

إنها رحلة النزوح الأولى.

لم أكن أتخيل يوماً أن يحدث كل ما حدث معي.

خبرتي الصحفية لخمسة عشر عاماً في تغطية النزاعات بدت هشة أمام هذه الحرب.

كل ما فيها كان مختلفاً تماماً، قوتها، تسارع أحداثها، خطورتها وحجم خسائرها المهول.

كان ذلك واضحاً منذ اللحظات الأولى لصباح السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، والذي قلب حياتي وحياة كثيرين.

سأتذكر تفاصيل أحداثه، ما حييت.

كانت الساعة السادسة والربع فجراً، كنت نائماً بعمق قبل أن توقظني أصوات انفجارات قوية، وصراخ الأطفال.

قفزت من سريري في صدمة وذهول.

كان أولادي يستعدون للذهاب إلى مدارسهم، لم يفهم أحد ما يجري.

مضت لحظات قبل أن أدرك أن حرباً جديدة اندلعت.

عندما تمضي حياتك في غزة، تعرف تماماً كيف تتصرف في لحظة مماثلة.

بدأنا بتجميع مقتنياتنا الثمينة من نقود أو مصاغ وأوراق خاصة في حقيبة واحدة، وقررت في حينها التوجه لبيت أخي في جباليا شمال القطاع.

تركت في عهدته عائلتي ليعتني بها مع عائلته، وتحركت مباشرة لمكان عملي في مدينة غزة لأبدأ ما بات لاحقاً أقسى وأصعب تغطية إخبارية يمكن أن يقوم بها أي مراسل في العالم.

الثاني عشر من أكتوبر/ تشرين الأول، وقبل الرحيل عن جباليا بيوم.

كنتُ مع زميلي المصور محمود العجرمي في مجمع الشفاء الطبي الذي يعتبر أكبر مؤسسة صحية في القطاع.

عشرات الإصابات والقتلى بدأت تصل.

رأيتُ أمامي أطفالاً ونساءً مضرَّجين بدمائهم وبالغبار والأتربة، انتُشلوا للتو من تحت أنقاض منازلهم التي انهارت تحت وطأة القصف.

في ركن غرفة الطوارئ طفلة تعاني إصابات خطيرة تتوسل عمها بألا يتركها، وسيدة أخرى تعرضت لكسور في ساقيها تنتظر دورها أمام غرفة العمليات وهي مغطاة بالغبار، بينما انهارت امرأة أخرى قرب الباب بعد أن رأت جثث عدد من أطفالها وزوجها.

كنت أتجول بين هؤلاء في ذهول وصدمة عندما ميزنا، محمود وأنا، عدداً من أصدقائنا وجيراننا بين جريح وقتيل.

أصبنا بانهيار وشرعنا بالبكاء، لم أتمالك نفسي، خارت قواي وانحنيت راكعاً على ركبتي.

هذا المستشفى الذي شهد ولادة طفلتي، كيف أصبح اليوم مقبرة لأصدقائي وجيراني؟ الرابع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول، وصلنا أخيراً إلى خان يونس، بعد رحلة شاقة وطويلة.

تقاسمت عائلتي وعائلة شقيقي شقة صغيرة، و بنينا مع الفريق خيمة في باحة مستشفى ناصر، باتت مقر عملنا الجديد.

بعد يومين فقط تلقى صاحب الشقة السكنية حيث كانت العائلتان تحذيراً مفاده أن المبنى سيتعرض للقصف من قبل الجيش الإسرائيلي.

في أقل من خمس دقائق باتت العائلتان في الشارع.

في تلك الليلة نمنا، أو بالأحرى حاولنا النوم، على الرصيف قبالة جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني حيث احتمى آلاف الناس.

نسمع دوي الانفجارات المتفرقة، وصوت طائرة الاستطلاع - أو الزنانة كما نسميها في غزة - لا يتوقف لحظة، وينخر الرأس.

كانت ليلة باردة جداً.

وأنا كنت بائساً وعاجزاً، شعرت بالذل وأنا أتأمل أطفالي وزوجتي وهم مستلقون على الأرض فوق قطع من الكرتون الذي وجدناه هناك.

كان الليل طويلاً… بعدما عبر سواد الليل، حملنا أغراضنا مرة أخرى واتجهنا إلى محافظة الوسطى في مخيم النصيرات، تركت عائلتي هناك وعدت إلى مكان عملي في الخيمة بخان يونس.

تفرقنا مجدداً.

فقدنا الخبز.

لا يمكن لغزيّ أن يتناول الطعام بدون خبز، إنه أهم العناصر الغذائية في حياتنا.

لكنه بدأ يختفي بعد أسابيع من الحرب التي دمرت فيها مخابز عديدة.

المياه أيضا صارت شيئاً فشيئاً غير صالحة للشرب.

تضاءلت وجباتنا، كنا نعيش وأطفالنا على وجبة واحدة في اليوم، وحتى عندما يكون الطعام متوافراً، كنت أتجنبه حتى لا اضطر لاستخدام المرحاض، فذلك كان يعني الاصطفاف لساعات في طوابير طويلة، وسط رائحة مقززة.

كنت أحاول العودة لمكان إقامة عائلتي في النصيرات كل عدة أيام.

لكن بدأت الأيام تتباعد، وأحيانا كانت تمضي أربعة أو خمسة أيام دون أن أعرف عنهم شيئاً، انقطعت الاتصالات والمواصلات.

الأيام باتت أسابيع، ونحن على هذه الحال.

نعيش في خيمة بالكاد تصمد أمام غضب الشتاء برياحه وأمطاره.

نغطي الأخبار اليومية وأرجلنا تغرق أحياناً في المياه حتى الركب.

نتقاسم ساحة المستشفى مع عشرات الصحفيين، حالهم كحالنا، ونازحين تقطعت بهم السبل.

كنا أتابع الأحداث عبر هاتفي من خيمتنا عندما وصلني فيديو يظهر به صديقي وائل الدحدوح، مدير مكتب قناة الجزيرة، يحتضن أبناءه الملفوفين بأكفان.

كانت تصلني تباعاً أنباء مقتل أصدقاء وأقارب وجيران مقربين في بلدتي جباليا فاقوا مائتي شخص في هذه الحرب.

لكن خبر مقتل عائلة وائل سقط عليّ كصاعقة.

في تلك الليلة، بكيت وأنا نائم.

وبكيت مجدداً أثناء مداخلتي على الهواء في اليوم التالي عندما سألتني زميلتي عن كيفية تدبر أمورنا، وأنا لم أكن قادراً على تأمين خبز لعائلتي.

بعد مرور حوالي شهرين، تكرر مجدداً مشهد وائل المكلوم والصامد كجبل، هذه المرة كان يودع ابنه البكر حمزة مغطى بكفن أيضاً بعد أن قضى في غارة إسرائيلية استهدفت سيارة للصحفيين في السابع من كانون الثاني/يناير.

حمزة كان واحداً من أكثر من 100 صحفي قتلوا في الحرب، 22 منهم أثناء عملهم، بحسب منظمة "مراسلون بلا حدود".

فكرت حينها بأنني أنا أيضا صحفي، وأب عاجز عن حماية أسرته، وباغتني السؤال المرعب، هل يمكن أن أكون أنا أيضاً هدفاً؟ الجيش الإسرائيلي ينفي استهداف الصحفيين "عمداً" وقال في تعليق ل بي بي سي إنه "يتخذ جميع التدابير الممكنة عملياً للتخفيف من الأذى الذي يلحق بالمدنيين، بمن في ذلك الصحفيون".

أطلق الجيش الاسرائيلي تهديدات جديدة بعملية برية واسعة، وأوامر بإخلاء مدينة خان يونس والتوجه جنوباً أكثر، إلى رفح.

تواترت الأنباء عن بدء تقدم قوات برية إسرائيلية في الشوارع الرئيسية تمهيداً لما بدا أنه فصل الجنوب عن كل من الوسط والشمال.

كانت زوجتي وأولادي لا يزالون في مخيم النصيرات.

خشيت أن أفقدهم هذه المرة، أو أن يفقدوني هم، إلى الأبد.

عصفت الأسئلة بذهني: من يتحكم بي، وبمستقبلي، وبحياتي؟ من الذي يحركني كحجارة لعبة الشطرنج؟! هل أذهب إلى رفح، أم أتوقف عن العمل وأعود إلى عائلتي في مخيم النصيرات؟ أليس من الأفضل أن نواجه مصيرنا معاً، ونموت معاً؟ توجهت إلى رفح مع فريق العمل.

مر أسبوعان في غاية القساوة، فقدت سمعي بشكل مؤقت نتيجة قصف قريب، وكنت أعيش يومياً كابوس فقدان عائلتي.

تمكنتُ أخيراً من العودة إلى النصيرات مع زميلي لجلب عائلتي إلى رفح.

في رحلة شاقة وخطرة.

التم شملنا لفترة وجيزة قبل أن أواجه القرار الأصعب على الإطلاق، إخراج عائلتي من غزة، من دوني.

كانت إدارة بي بي سي قد تقدمت بطلب إذن لخروج عائلاتنا أنا والفريق من قطاع غزة، لكن الجانب الإسرائيلي وافق على خروج الأطفال فقط دون أمهاتهم.

ودّعنا زوجاتنا وأطفالنا على الجانب الفلسطيني لمعبر رفح، وانتظرنا لساعات طويلة خوفا من أن يتم رفض خروج زوجاتنا، لكنهم تمكنوا جميعاً من مغادرة القطاع، وتفرقنا مجدداً.

اجتمع شملنا بعد شهر، نحن الآن في قطر، حصلنا على الأمان، لكننا نفتقد كل شيء آخر.

كل ليلة قبل النوم يلف شريط صور في رأسي، أرى فيه وجوه أصدقاء طفولتي زياد، أحمد، محمد، جاري أبو إسماعيل وكل الأحبة في مدينتي جباليا.

بعضهم رحل، ومن بقي منهم سمعت أنهم يقتطعون العشب ويطحنون علف الحيوانات من أجل الغذاء، بينما أقيم أنا في فندق نظيف، والطعام والشراب متاح بوفرة.

لكن كلما فكرت في أحبتي بغزة، أشعر بالأسى، وبأن مذاق الطعام الذي أتناوله يشبه السم.

بلغ عدد القتلى الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر أكثر من 34 ألفا معظمهم من النساء والأطفال حسب أرقام لوزارة الصحة في غزة.

أشتاق لجباليا، مدينتي ومسقط رأسي، كيف أستعيد حياتي الهانئة بها؟ هناك بنيت منزلي، زرعت أشجار الزيتون والليمون والبرتقال في مزرعتي الصغيرة شرقي البلدة، آخذ عائلتي بينها وبين غزة النائمة على شاطئ البحر بسيارتنا الصغيرة، نتقاسم أيامنا ونحلم بالمستقبل.

تمنيت لو أني أخذت معي ألبوم صور الطفولة والعائلة، لو أني تمكنت من إنقاذ كتب أبي.

لم يبق شيء، كلو راح… © 2024 بي بي سي.

بي بي سي ليست مسؤولة عن محتوى المواقع الخارجية.

الوكالات      |      المصدر: بي بي سي    (منذ: 2 أسابيع | 6 قراءة)
.